[التركيز ... وصفتك الحقيقية للإبداع]
عبير العقاد
كان يوماً بائساً كالأيام التي سبقته ... صحوتُُ مستاءةً كعادتي في هذا الشهر الذي تتالت فيه الإحباطات واحداً تلو الآخر.
توجهت إلى المطبخ لأعدّ فطور زوجي ... كان قد طلب مني شرائح من الزبدة مع العسل. تناولت الصينية.. وضعت عليها كأساً من الماء ورغيف خبز مع صحن من العسل.
«هيا يا عزيزي.. تعالَ لتتناول فطورك!» .
سألني: «أين الزبدة؟» .
ـ «ألم أضعها لك؟»
ـ «لا، يا عزيزتي.. لقد وضعتِ صحناً فارغاً مع سكين» .
ـ «آسفة.. سأحضرها حالاً» .
تساءلتُ: ما الذي أصاب حياتي مؤخراً؟ فهي ليست المرة الأولى التي لم أتمكن فيها من إتمام ما توجهت لفعله على خير وجه. تأملت في حالي، ورجعت بذاكرتي إلى الأيام الثلاثين الماضية، بل أرجعت شريط ذكرياتي خلفاً أكثر من ذلك.
وجدتها.. أنا أعاني من التشتت الذهني وفقدان القدرة على التركيز.
عليّ أن أعالج الأمر قبل أن يتفاقم.
توجهت إلى المكتبة لأدرس موضوعات عن التركيز؛ فعادتي أن أعمل دائماً بنصيحة شهيرة تقول: «الحياة التي لا نُخضعها للبحث والدراسة، لا تستحق أن نعيشها» .
لم تكن المراجع كثيرة حول هذا الموضوع، لكني وجدت: «التركيز: مهارتك الثمينة للتميز والإبداع/ كما قال أحدهم...............» .
حقاً هل هو مهارة؟ وهل هو بالمهارة الثمينة؟ وهل باكتسابه نتمكن من الوصول حقاً إلى التميز والإبداع؟ تساؤلات كان لا بد لها من إجابة.
بدأت التصفح والتأمل والتعلم لأصلَ في النهاية إلى الحقيقة المبهرة.. نعم إنه كذلك!
فما من كتاب ولا وصفة تتحدث عن النجاح والإبداع من قريب أو بعيد إلا وتذكر لنا التركيز بوصفه ركيزة أساسية للارتفاع إلى الدرجات العليا في سلم المجد، ولتحقيق الأهداف والأحلام البعيدة. وما من مهمة، صغيرة كانت أو كبيرة إلا وتحتاج بدءاً إلى التركيز على كافة جوانبها بدقة لإنجازها على أتم وجه.
فكي تصل مثلاً إلى الصلاة المثالية، عليك أن تستجمع كل أفكارك وتأمرها بالالتزام التام بالمهمة التي أنتَ بصددها، والتي هي إتمام الصلاة بخشوع دون السماح لوساوس إبليس وهمسات الدنيا أن تقتحم خيالك أثناء الصلوات الخمس المأمور بها. أي عليك التركيز في هذه الصلاة والتحكم بأفكارك كي لا تتشتت أثناء هذه الفريضة الدينية التي هي عماد الدين.
فما هذه النعمة التي باكتسابها واستغلالها نتمكن من تحقيق ما نصبو إليه مهما كان كبيرا؟
إنه التركيز.. وهو صبّ الاهتمام على أمور محددة، منتقاة، وتجاهل الأخرى التي لا تتعلق بها، مع إعطاء الأوامر للعقل للالتزام بها والمثابرة عليها دون غيرها.
والتركيز ـ حمداً لله ـ ليس بالموهبة السرية ولا بالأمر الموروث الذي قد نتحسر لأنه لم يكن من نصيبنا، بل إنه ببساطة: «مهارة وعادة يمكن لأي شخص أن يكتسبها إذا ما عزم على ذلك» . إذ من نِعَم الله علينا أن خلقنا وجعل بإمكاننا إعادة برمجة أنفسنا في أي وقت نختاره لاكتساب بعض المهارات والعادات الفعالة ومنها مهارة التركيز، على أن نتحلى بالصبر والمثابرة والإلحاح والتصميم، مع بذل الجهود الدائمة للوصول إلى الهدف المنشود.
وقد يبدو الأمر شاقّاً في البداية، لكن ما أن تطلق العنان لنفسك لتخطو الخطوة الأولى في طريقه، حتى يتبين لك أنه أصبح سهلاً للغاية؛ شأنه في ذلك شأن أي عادة أو سلوك تشرع باكتسابه وتداوم على تكراره بإصرار حتى يصبح إتيانه أمراً لا إرادياً في آخر الأمر.
لكن: لماذا نبذل الجهد والوقت لاكتساب تلك العادة؟ ألا ينبغي أن يكون رصيد الفوز بها ثميناً بقدر التعب الذي سنبذله لاكتسابها؟ نعم! إنه كذلك؛ فليس التركيز هدفاً بحد ذاته، إنما هو وسيلة لتحقيق أهدافنا في هذه الحياة.
فالأديب (تشارلز ديكنز) يقول: «لم أكن أبداًِ لأحقق النجاح دون عادات الدقة والنظام والاجتهاد والتصميم والتركيز على عمل واحد في كل مرة» .
وإذا تساءلنا عن فوائد التركيز ومزاياه، فستكون لدينا إجابات عديدة ومبهرة؛ إذ ستندهش حقاً عندما تعلم أن التركيز وسيلتك لتحقيق كل من الأمور التالية:
١ ـ زيادة الإنتاج على كافة الأصعدة: الإنتاج المادي والثقافي والاجتماعي والديني والسياسي ... إلخ.
٢ ـ تحسين نوعية الإنتاج بأشكاله المتعددة المذكورة آنفاً نتيجة التركيز على تحسين تلك النوعية، واستغلال الوقت، والتفكير لتطويرها.
٣ ـ اختصار الوقت اللازم للإنتاج والذي كان يذهب هباءً قبل ذلك نتيجة التشتيت وعدم وضوح الرؤية.
٤ ـ زيادة الثقة بالنفس؛ فالإنسان المنتج الذي يتمكن غالباً من تحقيق أهدافه لا بد أن يشعر بالفخر والثقة بنفسه لتسلسل نجاحاته.
٥ ـ تعزيز راحة البال والهدوء في النفس والطمأنينة؛ لأننا نعلم أننا قادرون على التحكم بأنفسنا والسيطرة عليها.
٦ ـ إنجاز الأهداف المرجوة وتجاوز حدود القدرات والظروف بسبب المثابرة العقلية والتركيز والتصميم على النجاح والتميز والإبداع.
- عوائق مهارة التركيز:
وبعد؛ فقد تجد أن التركيز وسيلة لأهداف ماسيّة، فلِمَ لا تتمتع بها؟ ما الذي يحول بينك وبينها؟ ما الذي أبعدها عنك مؤخراً؟ عليك أن تعرف المشكلة التي أصابت تركيزك فأحبطته؛ فوجود مشكلة في التركيز لا يعني أنك لا تستطيع التركيز البتة، بل ربما تعني أنك لا تستطيع التركيز كما يجب في هذا الوقت نتيجة عوامل تشتيت داخلية أو خارجية.
وقد حدد العلماء أحد عشر عائقاً أمام استخدام مهارة التركيز، وهي:
١ ـ التشتيت: إذ من الصعب التركيز عندما يقتحم الضجيجُ والناسُ وجرسُ الهاتف جوَّ التركيز لديك.
٢ ـ قلة التدريب والممارسة: فالتركيز ـ كما أسلفنا الذكر ـ مهارة، ولا يمكن إتقانها إن لم نتعلمها ونمارسها بشكل يومي.
٣ ـ عادة عدم تركيز الاهتمام وانشغال العقل بشكل دائم: إذ إن انشغال المرء بمشاغل كثيرة أثناء حياته يؤدي به إلى تشتيت معظم طاقاته دون طائل؛ لأنه يحاول القيام بأشياء كثيرة، أو أن يفكر بها كلها في آن واحد دون تحديد الأولويات.
٤ ـ قبول الإحباط البسيط: فهناك نوع من الناس يتلقى الإحباط كما لو كان كارثة من كوارث العالم المصائبية، فيغرق بين الهموم مبدداً كل طاقاته في التفكير بها. على عكس أولئك الذين تعلموا التعامل مع القلق والإحباط بشكل بنّاء لا هدّام.
٥ ـ ضعف الاهتمام أو عدم وجود الحافز: إذ لا تركيز دون وجود اهتمام أو حافز يجذبك ويحثّك على القيام بمهمةٍ مّا.
٦ ـ المماطلة: أي التأجيل والتسويف التلقائي لمهمة غير محببة دون وجود سبب معقول.
٧ ـ عدم وضوح الخطة أو الهدف: حيث تُعزى عدم القدرة على التركيز أحيانا إلى عدم إعطاء العقل أمراً من الأوامر؛ إذ لا بد أن تحدد لعقلك مشروعاً معيناً وتصوراً محدداً بالإضافة إلى خطة عمل واضحة المعالم.
٨ ـ تزاحم الأولويات في العقل: إذ إن وجود التزامات متعددة وواجبات كثيرة وتواريخ محددة تتزاحم لجلب اهتمامك لا بد للعقل أن يرفضها جميعاً بسبب عدم القدرة على تحديد الأولويات.
٩ ـ التعب والإجهاد والمرض: فالتركيز طاقة عقلية موجهة؛ فإذا كنت متعباً أو مجهداً أو مريضاً فلن يكون لديك الطاقة اللازمة لاستخدام قدراتك العقلية. كما قد تؤثر أدوية معينة على قدرة المرء على التركيز.
١٠ ـ انفعالات بلا حلول: إذ إن المشاكل الكبيرة قد تستدعي كامل اهتمام المرء دون ترك مجال للتفكير والتركيز على مسؤوليات أخرى.
١١ ـ الموقف السلبي تجاه التركيز: وهو أقوى المعوقات جميعا؛ لأن المرء يتصرف عادة حسب اعتقاده، فإن كان يعتقد عقلياً أنه لا يستطيع التركيز فلن يستطيع ذلك حتماً؛ إذ لا بد من إزالة الشك في قدراتنا كي نتعلم أي شيء.
إذاً؛ كثيرة هي العوائق التي تحول بيننا وبين الاستعانة بالتركيز لتحقيق أهدافنا، وعلى المرء أن يعالج هذه العوائق، وأن يصمم على التخلص منها أو التعامل معها كما لو كانت صخرة اعترضت طريقنا واستطعنا بالجهد والمثابرة والتصميم إزاحتها عن وجهنا. لكن حتى هذه المثابرة للتخلص من عوائق استخدام التركيز تحتاج منا إلى التركيز للوصول إلى مآربنا؛ شأنها شأن أشعة الشمس الحارة التي لا تصل إلى درجة الحريق إلا عند تركيزها وتوجيهها إلى نقطة محددة بواسطة مرآة. إذاً؛ علينا ألا نطلق العنان لاهتماماتنا لتتشتت بعيداً وفي جميع الاتجاهات.. علينا أن نستجمعها ونتحكم بها ونوجهها في مسار محدد كي تعطينا أعلى درجات الطاقة.
وللتركيز ـ كما أسلفنا الذكر ـ وسائل لاكتسابه؛ فهو ـ كما علمنا ـ مهارة يمكن برمجة أنفسنا لاقتنائها.
وقد وصف علماء النفس الكثير من التمارين الفعّالة لاكتساب هذه المهارة الثمينة، لكن اشترطوا للحصول على أفضل النتائج، التزامَ الصبر والمثابرة والتصميم؛ فالانتباه كما قال (وليم فالكيراتكينسون) في كتابه «قوة الفكر في الحياة العملية» : كائن عنيد، عليك ألا تدعه يأخذ زمام السيطرة عليك؛ فهو يكلّ كثيراً؛ لذا علّمه الامتثال، وحين تتغلب على هذا الانتباه الثائر فستكون قد أحرزت انتصاراً كبيراً أنت أعجز من أن تقيس أبعاده الآن.
ومع تمارين التركيز ستكون قادراً على ترك العادات الضارة واكتساب أخرى نافعة.. أي ستستطيع الأداء بشكل أفضل بكثير من السابق؛ فقد اكتسبت سيطرة قوية على الجسد والعقل، وسترى أنك سيد ميولك وليس عبدها، والقوة التي اكتسبتها لنفسك ستتجسد في كونك الآن ستسيّر الآخرين، ومن يحكم نفسه بنفسه يكون قادراً على نقل إرادته إلى الآخرين. واصل بمثابرةٍ التمرنَ على التركيز، وستصنع من نفسك عملاقاً مقارنةً مع من يهمل هذه القوة.
جرب قوة إرادتك على نفسك بشتى الأشكال، وحينما توفَّق في جعل نفسك سيد نفسك فإن السيادة على الآخرين ستصبح عندئذ طوع بنانك.
- وصفة مفيدة للتركيز:
وبعد هذه المقدمة الطويلة حول تمارين التركيز، نقف مع (سام هورن) وتمرين التركيز الذي وصفه لنا والذي من شأنه تنمية قدرات التركيز لدينا، وهي ما يلي:
١ ـ اعزل نفسك وتخلص من كل مسببات التشتت من أصوات وأشخاص وما شابه بذلك.
٢ ـ اختر لنفسك مهمة سهلة، ومن أسهل المهمات التي أثبتت نجاحها في هذا المجال، هي القراءة أو الكتابة أو القول بصوت مرتفع لمدة خمس دقائق، جملة قصيرة، وهي: «إنني جيد في التركيز» مع التركيز على كلمة جيد.
٣ ـ اضبط ساعة المنبه بحيث ينطلق جرسها خلال خمس دقائق.
ملاحظات حول التمرين:
- إذا شُغلت بأمر آخر أثناء التركيز فتدرب على وقف التفكير، ثم عد إلى مهمتك الأساسية بتركيز أعظم.
- كن صبوراً ومثابراً، ولا تترك الخواطر المختلفة تقتحم عقلك، ولا تستسلم للمشتتات.
- كرر هذا التمرين كل ليلة، وعندما تصبح قادراً على الحفاظ على تركيزك لمدة خمس دقائق دون تشتت خارجي (وهو تدريب يحتاج إلى أسبوعين أو ثلاثة) ، ابدأ بإدخال عناصر تشتيت كتشغيل الراديو أو التلفاز أو الجلوس في غرفة أناس غيرك. استمر على تمرين التركيز بوجود عناصر تشتيت كل ليلة إلى أن تتمكن من التركيز لمدة خمس دقائق. ويحتاج إتقان هذه المهارة لدى معظم الناس من أسبوعين إلى ثلاثة (وهو الوقت اللازم لترك عادة قديمة واكتساب أخرى جديدة) . وبمجرد أن تتمكن من إصدار الأوامر لعقلك وإرغامه على طاعتها رغم وجود عناصر التشتيت؛ فإنك ستكون مستعداً لنقل هذه المهارة إلى الحياة العملية.
وبعد: فقد لفت الخبراء انتباهنا إلى سر خفي قادر على قلب حياتنا رأساً على عقب؛ فقد تكون مهارة التركيز الفارق بين نجاحنا أو إخفاقنا، وبين تفوقنا أو انحدارنا. كما أنها المفتاح العظيم لأكوام من النجاحات والإبداعات.
فإن كنتَ ممّن يقدر قيمة الوقت، وتدرك أن لا أبدية لحياتك، وأنك لا بدّ مفارق أيامك الدنيوية غداً.. فبادر إذن بجعل سنيِّ عمرك أكثر قيمة وإفادة بل وسعادة أيضاً؛ وذلك بلمّ شتات فكرك وتركيزه على عمل خلاّق تتألق به في دنياك، وتُذكر به عند رحيلك.
ولا تنسَ مقولة (جورج برنادشو) : «إن السعادة الحقيقية هي أن نستغل وجودنا لتحقيق غاية ما، وعندئذ يكون وجودنا هذا عظيماً» .
هيا.. بادر.. سارع باقتناء المفتاح السري وطبّق الوصفة السحرية لحياة متلألئة واثبة من نجاح إلى آخر.
هيا.. ركّز لاكتساب مهارة التركيز.