للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الإسلام لعصرنا

سهام بوش ضد الإرهاب

تصيب الروح الأمريكية في مقتل

أ. د. جعفر شيخ إدريس [*]

أعني بالروح هنا ما يشعر به فرد أو جماعة أو شعب بأكمله من اعتزاز

بسبب ما يراه من فضل يتميز به عمن سواه؛ فضل في خصال أو علم أو مال أو

قوة أو غير ذلك، سواء كان محقاً في شعوره هذا أو واهماً، والإنسان يصاب في

هذه الروح حين يفقد ما كان يعتز به، أو حين يتبين له أنه ليس كما تصوره، أو

حين يظهر له أنه ليس وحده الذي يتميز به، وهكذا.

فما الروح الأمريكية بهذا التعريف، وكيف أصيبت؟

تتمثل الروح الأمريكية في أمرين: القوة المادية، والقيم السياسية.

لا يكاد الأمريكان يكفُّون عن ترديد القول بكثير من الفخر والزهو بأنهم أعظم

قوة على وجه الأرض، بل أعظم قوة في تاريخ البشرية، وأنه لن تستطيع لذلك

أية قوة بشرية أخرى أن تهزمهم، وأنهم سيعيشون لذلك آمنين لا يخافون من أن

تُشن عليهم حرب أو يغلبهم عدو، فمخزونهم من أسلحة الدمار الشامل وغيرها لا

مثيل له، ولا مثيل لقواتهم العسكرية في عددها وعدتها وتدريب أفرادها.

وهي ما تزال تطور كل هذا وتنفق عليه ما لا تنفق دولة أخرى على وزارة

دفاعها، فميزانية البنتاجون تساوي الآن مجموع ميزانيات الخمس وعشرين دولة

التي تلي الولايات المتحدة في القوة العسكرية، ويقال إنها ستكون بعد بضعة أعوام

أكثر من ميزانيات كل وزارات الدفاع في العالم مجتمعة. وهذا يعني أن هذه القوة

العسكرية الهائلة وراءها اقتصاد قوي، بل يقال إنه أقوى اقتصاد في العالم.

ثم وقعت حوادث نيويورك وضُربت أمريكا لأول مرة في تاريخها في عقر

دارها. وقد كانت الواقعة وحدها كافية لتبدد شيئاً من ذلك الشعور بالأمن، لكن

إدارة بوش أرادت استغلالها كما يقول كثير من الأمريكان أنفسهم لتنفيذ أجندة كانت

قد أعدت سابقاً، فصارت في سبيل ما تسميه بمحاربة الإرهاب تهوّل من الأمر

وتذكّر المواطنين في كل مرة بأن هنالك خطراً ماثلاً ارتفعت درجته اليوم إلى كذا،

انخفضت إلى كذا، ارتفعت مرة أخرى إلى كذا، وهكذا. تحول ذلك الشعور بالأمن

إلى خوف دائم، كان سهماً في المقوم الأول من مقومات الروح الأمريكية، ومما زاد

من الخوف بل والهلع أن بعض المختصين يرون أن حكومة بوش لم تقم بما يجب من

المحافظة على أمن البلاد، فهذا أحدهم يقول في مقال له: «إن الرئيس جورج

بوش قد أفرد الهجوم الإرهابي النووي على الولايات المتحدة بأنه التهديد الحقيقي

الذي ستواجهه الأمة في المستقبل المنظور. في مواجهته لهذا الخطر أكد بأن

» الأسبقية العليا للأمريكان هي أن يحُولوا بين الإرهابيين وامتلاك أسلحة دمار

شامل «، لكن كلماته لم يتبعها حتى الآن عمل [١] .

وإذا كان الرئيس بوش قد عجز عن أن يتبع قوله بعمل يراه هذا الكاتب لازماً؛

فإنه قد قام بأعمال أخرى رأى أنها هي التي ستساعد على تسديد ضربات موجعة

للإرهابيين، لكن تبين أنها سهام تصيب في الوقت نفسه المقوم الثاني من مقومات

الروح الأمريكية. وذلك أن الأمريكان يعتقدون أن نظمهم السياسية والقضائية هي

أحسن النظم وأعدلها [٢] ، وأن دستورهم الذي كُتب في القرن الثامن عشر هو

أحسن وثيقة كتبها بشر (بل يبالغ بعضهم فيزعم أنها كانت إلهاماً من الله تعالى!) .

ومما زادهم فخراً بهذا وفتنة به؛ أنهم رأوا الناس في العالم كله تقريباً يثنون على

نظمهم هذه ويعدونها المثال الذي يجب أن تحذو الدول الأخرى حذوه. وكان

الأمريكي إذا خرج سائحاً قوبل بالترحاب والاحترام في دول العالم كله تقريباً. ثم

انقلب كل شيء بفضل سياسة بوش في محاربة ما يسميه بالإرهاب التي هي في

حقيقتها محاربة باسم الدين المسيحي للإسلام.

ماذا بقي للولايات المتحدة لتفخر به؛ أبرئيس يتهمونه كما لم يتهموا رئيساً

قبله بكثرة الكذب؛ حتى إنهم ليؤلفون الكتب في هذا، ويتخذون له مواقع على

الشبكة؟ أبحكومة تبيّن لهم أنها خدعتهم وغشتهم حين سوغت هجومها الظالم على

العراق بحجة امتلاكه لأسلحة دمار شامل؟ (كيف يكون الحكم باسم الشعب إذا كان

من يختاره الشعب يخدعه ويفعل ما لا تريد أغلبيته؟) أباحتجاز المئات من الشباب

المسلم (بل بعض الأطفال بتعريف قانونهم) في جزيرة نائية بتهمة الإرهاب وعدم

تقديمهم لمحاكمة وعدم السماح لهم بمحامين؟ أبسنّ قوانين جديدة تتعارض مع كل ما

كان يعتز به الأمريكان من قيم الحرية والعدالة؟ أباكتشافهم بأنهم أصبحوا دولة بل

شعباً مكروهاً يستحيي الواحد منهم الآن أن يصرح إذا ذهب إلى الخارج بأنه

أمريكي؟ أبما يعرفه الكثير منهم الآن من قصص في معاملة المتهمين من المسلمين

حتى في داخل الولايات المتحدة؟

قبل بضعة أيام عقد أحد المحامين الذين كانت الدولة قد عينتهم (بحكم قوانين

سابقة) للدفاع عن متهمين مسلمين فقراء لا يملكون ما يستأجرون به محامياً. عقد

هذا الرجل مؤتمره بعد أن كان من دافع عنهم قد أُدينوا، قال الرجل كلاماً فحواه أنه

سيقال لكم إن هؤلاء الشباب إرهابيون وإنهم مجرمون. ثم قال إنه لم يكن يعرف

شيئاً عن الإسلام ولا المسلمين حتى كان اتصاله بهؤلاء الشباب، فأثنى على ما وجد

فيهم من خلق مثالي، وضرب لذلك مثلاً بواحد منهم، قال إنه حصلت مساومة بينه

وبين متهميه (من المخابرات) بأن يعترف ببعض الجرائم في مقابل إسقاط بقيتها

عنه، وأن عقاب ما يعترف به لن يزيد على سنتين، مع أن عقابها كلها يصل إلى

أكثر من ١٠٠ سنة، يقول إنه وافق، لكنه عندما رأى الورقة التي طُلب منه أن

يوقّع عليها، قال إن هذه كلها أكاذيب، فأنا لا أستطيع أن أحلف بالله على شيء

أعلم أنه كذب مهما كانت النتيجة. قال المحامي: من منا يفعل هذا؟ وقال: إنني

لا أقول فقط إن هذا الشاب لا يكذب، بل أقول ما أظنه يعرف حتى كيف يكذب!

ونقول نحن إنه إذا كان من شأن الأكاذيب والاعتداءات الظالمة والاتهامات

الباطلة أن تفت من روح الأمة الأمريكية؛ فإنها بحمد الله تعالى تقوّي من روح

المسلمين منهم، وتزيدهم ثقة بدينهم واعتزازاً به.

وقد كانت السهام الموجهة إلى المقوم الثاني من مقومات الروح الأمريكية أكثر

إيلاماً وأشد تأثيراً، تجد التعبير عنه في كثرة ما قيل ويقال عنه في وسائل الإعلام

مسموعة ومشهودة ومقروءة، فهم الآن يناقشون أموراً كانوا يعدُّونها من مسلَّمات

حضارتهم، وصدق الله العظيم: [وَلاَ يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِه] (فاطر:

٤٣) .


(*) رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة.
(١) Foreign Affairs, http//www.foreignaffairs.org,March/April.٢٠٠٤.
(٢) بل يعتقدون أن سجونهم أحسن سجون في العالم، قلت ذات مرة لأحد مسؤولي السجون إن النظام في السعودية أكثر إنسانية من نظامكم؛ لأنه يسمح للمسجون أن يخلو بزوجته، فاستغرب وقال: كيف يكون إذن مسجوناً، هذا جزء من عقابه؟ قلت: لكنكم بهذا تعاقبون زوجته أيضاً وربما اضطررتموها لأن تنحرف، وإذا كنتم تمنعونه من هذه الحاجة البشرية؛ فامنعوه أيضاً من الأكل أو الشرب أو النوم! .