للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الورقة الأخيرة

[الشعور بالخصوصية: حاجة أم توهم]

سليمان بن سعد بن خضير

يخص الله من يشاء من عباده بما يشاء من نعمه، وأعظم منَّة منه - جل

وعلا - على عباده قاطبة: الهداية لدينه الذي ارتضاه، فيشرح لذلك صدر عبده

وينجيه من ضائقات الدنيا والآخرة؛ [فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ

وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاًّ كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ] (الأنعام:

١٢٥) .

وهو - سبحانه - يخص من بين المهديين لدينه عباداً يوفقهم للمسابقة في

الخيرات والمبادرة إلى الطاعات، ويهبهم الفتوحات الربانية، فيضرب فئامٌ منهم

بسهم في الصدق والإخبات والورع، وآخرون بسهم في الصدقة والإخاء والمعروف،

وآخرون بسهم في الجهاد والعلم ونوافل العبادة.. وقد تنوعت عبارات علماء

السلف في وصف أهل العلم والعبادة، كل بحسب ما ظهر منه أو عرف عنه.

هذه الخصوصية الدينية بمنازلها المشرقة الوضيئة، ودرجاتها المشرفة العالية

هي نوع من الاصطفاء الذي ذكره - سبحانه - في قوله: [إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ

الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ] (البقرة: ١٣٢) أي واصطفاكم له، وفي

قوله: [يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ العَالَمِينَ] (آل

عمران: ٤٢) ، وفي قوله: [قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العِلْمِ

وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] (البقرة: ٢٤٧) .

وأكثر ما ورد ذكر الاصطفاء في مقام المنة بالرسالة كما في قوله: [اللَّهُ

يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاس] (الحج: ٧٥) ، وقوله: [وَإِنَّهُمْ عِندَنَا

لَمِنَ المُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ] (ص: ٤٧) ، كما وصف - سبحانه - هذا النوع

الراقي من الاصطفاء بأنه خصوصية الرحمة، فقال - تعالى -: [وَاللَّهُ يَخْتَصُّ

بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ] (البقرة: ١٠٥) .

فالأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - كانوا أعظم الناس اصطفاء وأكملهم

خصوصية بالاستسلام لله رب العالمين، وكل من اقتفى أثرهم واتبع سنتهم قبس من

ذلك الاصطفاء بقدر متابعتهم ومشابهته إياهم في تألههم لربهم.. على أنه - في ذلك

كله - لن يصل إلى مقام الرسالة أو كمال أصحابها صلوات الله وسلامه عليهم.

إن شعور المسلم بهذه الخصوصية - وهو يسرح طرفه ما بين المشرق

والمغرب - يمنح قلبه إجلالاً وتعظيماً لربه الذي اصطفاه من بين جموع غفيرة قُدِّر

ألا تهتدي إلى صراطه المستقيم ... ويمده بروح منه وعون ألا يستبدل الذي هو

أدنى بالذي هو خير؛ فكل دين سوى الإسلام كفر.. وكل مذهب خلاف هدي

رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتداع؛ فما يزال انتماؤه لدينه الذي يؤمن أنه فخره

ورأس ماله، بل يوقن أنه حياته ومماته.. [قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ

وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ] (الأنعام: ١٦٢-١٦٣) .

وشعوره بهذه الخصوصية - وهو يكابد تكاليف الحياة - يضفي عليه اطمئناناً

برعاية الله إياه ورجاء توفيقه لخير الخيرين.. اطمئناناًَ ورجاءً لا يعكر عليه فيهما

إلا تخوُّفه أن تزل به قدمه فيحرم نعمة الهداية، فيزداد توكله على ربه حين تتعلق

نفوس بأسباب الحياة، ويأنس بمولاه حين تكون المخاوف.. [الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ

إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ]

(آل عمران: ١٧٣) .

وشعوره بهذه الخصوصية - وهو يعاني مغالبة أهوائه وتقلبات نفسه عليه -

يلقي في روعه الحياء من ربه وتصور مراقبته وعتابه؛ إذ كيف خصصتك من بين

عبادي فتفرِّط في نعمتي وتنقض غزلك من بعد قوته؟ [قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي

أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ] (يوسف: ٢٣) .

وليس هذا الشعور مجرد شعور طارئ، أو حالة نفسية قلقة، بل شعور يقيني

يبعث على الاطمئنان بالله والثقة به والإخبات له، وهو شعور قلبي راسخ يورث

دوام المراقبة، وهو شعور متدفق يذكِّر بالمسؤولية الذاتية، ويساهم - بنحو أساس

- في الثبات على دين الله.

هذا الشعور بأي من درجاته يفترض زيادته بقدر زيادة المسلم في الخير،

وبحسب استقامته وتدينه ليدفعه إلى تذكُّر ربه فيطمئن إلى ذكره ويتوكل عليه

سبحانه، ويسعى لمطالعة إحسانه ومعرفة شريعته وأسرار كتابه، ويحدوه لمراقبته

في سائر أعماله، فيستشعر خصوصية تملي عليه أن يكون حذراً أن يخدش

استقامتَه رغبةٌ جامحة أو عادة مستحكمة أو شهوة أو حظ نفس ما وجد إلى ذلك

سبيلاً.

ومتى تحولت مشاعر الخصوصية إلى نوع من الأعذار للإسراف في المباح،

أو تأشيرة مرور لممارسة ممنوع أو تراخٍ في واجب، أو قناع لمخادعة النفس من

أجل الرضى بمستوى تدين فاتر.. متى ما كان ذلك أشبه الشعور بالخصوصية

حينئذ مقام أولياء المتصوفة الذين رأوا أنهم تجاوزوا قنطرة العمل، وولجوا قصر

الوصاية وجنات خاصة الخاصة!!

الشعور بالتدين لا يبيح أن يقارف المسلم إثماً بالليل ينهى الناس عنه في

النهار بحجة أنه من ذوي الخصوصية. ولا يسوِّغ له - باسم الخصوصية - أن

يغض الطرف عن ممارسات خطيرة في وسط أسرته التي أكثرت عليه من أنهم

(غير الناس) وما أعجل ما اقتنع.

والشعور بالخصوصية لا يعني أن يفرط المسلم في أعماله ويتوانى في أدائها،

افتياتاً على ثقة الناس بتدينه، ولا يبيح أن يرد الحق - إذا جاء به أحد كائناً من

كان - بزعم أنه يعرف الحق، ومن نحو المحال أن يواقعه..

الشعور بالتدين يدفعنا لإنكار المنكر بدلاً من أن يقف دورنا عند حدود عملية

مراقبة مجردة تحت مسوغات متعددة.. الشعور بالتدين حين يكون سبباً في الازدياد

من العبادة والعلم أو حائلاً عن التواني في الطاعة والخير أو معيناً على الثبات..

هو حاجة ملحّة، وكثيرة هي مواقف السلف في تذكير بعضهم بعضاً بأحوال

الخصوصية، وأشهرها عند الاحتضار؛ لتحقيق حسن الظن بالله وابتعاث محبة

لقائه والشوق إليه.

وحين يتحول هذا الشعور إلى وأد روح العمل في سبيل الله، وإمداد النفس

بشيء من أهوائها التي حرمت منها حيناً من الدهر، وجسراً للتخلي عن أعباء

المسؤوليات المضنية؛ فهو أشبه ما يكون بالوهم أو التوهم؛ فالعبرة بالحقائق

والأفعال لا بالأماني والأشكال، وقد يصبح ذلك الشعور - أحياناً - نوعاً من انتحال

الصفات وتقمُّص الشخصيات الوارد نحوه في قوله صلى الله عليه وسلم:

«المتشبِّع بما لم يُعطَ كلابس ثوبَيْ زور» [١] وهو مرض نفس خطر.

مقارفة الذنوب والتفريط في الواجبات خطايا تستوجب الاستغفار، لكنها

- عندما تكون عن تسويغ بالشعور بالتدين - تصبح معضلة؛ فإن مشاعر التدين التي

أباحت فعل الذنب وترك الواجب تكون - في البداية - توهمات مفتعلة، ثم تبدأ شيئاً

فشيئاً في التخلُّق في الذهن، ومن ثم تتخلق في ما يسمى بـ (اللاشعور) فتتشكل

- تلك الذنوب - عنده أفعالاً لا إرادية ينطمس معها التفكير فيها وفي

صحتها، ويعز إيقاظ الفكر فيها، إلا بتنبيه قاس أو صدمة مزعجة.


(١) رواه البخاري (٤٨١٨) ومسلم (٣٩٧٢) وغيرهما.