قد نكون في هذه الأيام في حاجة ماسَّة إلى إنعاش (التفكير العلائقي) ؛ وهو نوع من تشغيل الذهن، يستهدف اكتشاف العلاقات التي تربط بين الظواهر التي تشغل بالنا، أو تؤثر في حياتنا. ويبدو لي أن هذا اللون من التفكير يميل إلى التعقيد، ونتائجه غير حاسمة، ولهذا فإن الناس يعرضون عنه؛ مع أن له أهمية بالغة في فهم الأحداث والوضعيات! ولعل لاعتماد على السنن هو أفضل وسيلة لفهم الروابط والتأثيرات الكائنة في هذا الوجود. وسنحاول في هذا المقال تقديم نموذج يشرح هذه الفكرة، ويقربها من أذهان الإخوة القراء.
إننا إذا نظرنا في مختلف الظواهر والوضعيات الملموسة، سنجد أن لكل واحدة منها وجودين: وجوداً بوصفها كياناً متكامل الأركان والقسمات والحدود، ووجوداً بوصفها أجزاء من منظومات أكبر وأوسع.
إن العلاقة بين الزوجين ـ مثلاً ـ هي جزء من علاقة أوسع، وهي علاقة أفراد الأسرة: الآباء والأمهات والأبناء، وعلاقة الأسرة جزء من علاقات أهل الحي أو أهل القرية، وهذه الأخيرة تشكّل جزءاً من علاقات المجتمع في قُطْر من الأقطار. والفقر الموجود لدى شخص من الأشخاص هو جزء من الفقر السائد في بلدته، وفقر أهل بلدته جزء من الفقر السائد في إقليمه أو قطره، وهذا جزء من محيط أوسع، إلى أن نقول: إن فقر أي شخص في العالم هو جزء من فقر العالم جميعه.
يتشكل الوجود المستقل للظواهر والوضعيات من ملامحه وحيثياته الدقيقة والخاصة. أما الوجود العلائقي، فهو مدين للملامح العامة الظاهرة، والقوانين التي تحكمها على مستوى الكون، ومدين للتأثير الذي يتركه المحيط فيها.
وقد فطر الله ـ عز وجل ـ الخلائق ـ بدءاً بالفيروس وانتهاء المجرات ـ على السعي الدائب نحو الاستقلال، وذلك من خلال المحافظة الشديدة على المقومات والخصائص والميزات، لكن بما أن كل شيء هو جزء من سلسلة أو منظومة، وبما أن لكل منظومة وكل سلسلة طبيعتها وعلاقاتها، فإن سعي الخلائق إلى الاستقلال سيظل منقوصاً ومحدوداً، كما أن الممانعة التي تبديها الأشياء في سبيل المحافظة على كينوناتها، تظل غير كاملة؛ بسبب تأثير محيطها ومنظوماتها. والتأمل في هذه الشؤون المنظمة غاية التنظيم يوقفنا على حقيقة كبرى، هي أن كل ظاهرة وكل وضعية تخضع لنوعين من العوامل المؤثرة: عوامل داخلية، وعوامل خارجية، ويظل تأثير العوامل الداخلية أقوى وأعظم، ويظل تأثير العوامل الخارجية هامشياً أو محدوداً، ما لم يتمكن العامل الخارجي من اختراق المنظومة الداخلية للظاهرة، ويجعل من نفسه جزءاً منها، فإذا تمكن من ذلك زاد تأثيره، وصارت تسميته بالعامل الخارجي شيئاً لا معنى له. وسأقدم مثالين لشرح هذه الفكرة:
الأول: الفقر: وهو يعني عجز الإنسان عن توفير حاجاته الأساسية من مسكن وملبس ومطعم وتدفئة ودواء.
وإذا نظرنا في أحوال الفقراء وجدنا أن ما هم فيه من بؤس وقلة يعود إلى نوعين من العوامل: داخلية، وخارجية. فبعض الناس يكون فقيراً؛ بسبب عدم تعلمه وعدم نيله شهادة يدخل بها سوق العمل، وبعضهم يكون فقيراً؛ بسبب كسله، أو انعدام طموحه، أو تكبله بالأوهام التي تمنعه من رؤية الفرص التي أمامه، وبعضهم بسبب تغير الظروف عليه وعدم استطاعته التلاؤم مع الظروف الجديدة؛ كما يحدث مع المشرَّد الذي فقد وطنه وصار لاجئاً، وكما يحدث مع الذي احترق بيته ومتجره وصار من غير مأوى وعمل. ومن الناس من يبذل كل جهده، ويعمل كل ما عليه، ويأخذ بكل ما يعرفه من الأسباب، ثم يجد نفسه في صفوف الفقراء والمعوقين أو من قُدِر عليهم رزقهم، فلا يكاد يصل إلا إلى بعض حاجاته الضرورية. وفقر هذا الصنف من الناس يعود إلى أسباب خارجية، تعود في الغالب إلى البيئة التي يعيش فيها، وذلك كمن يعيش في صحراء ويقتات من الماشية والأنعام التي يملكها، ثم توالى عليه القحط عاماً بعد عام إلى أن هلك كل ما لديه، وهو يجد نفسه مضطراً للإقامة؛ بسبب وجود والديه معه وصعوبة انتقاله إلى مكان آخر. وإذا ألقينا نظرة على واقع الفقراء في محيطنا، فإننا سنجد أن فقر السواد الأعظم منهم يعود إلى عوامل ذاتية داخلية، على نحو ما أشرنا إليه قبل قليل، وفئة محدودة منهم تعاني بسبب صعوبة البيئة أو ضغوط وعدوان الآخرين، ولدينا براهين ساطعة على صحة ما نقول، من أهمها: وجود أعداد كبيرة من الفقراء في بيئات ثرية وممتازة؛ حيث تجد من جاء من أقصى الأرض ليكسب رزقه وبعد مدة يصبح ثرياً، وتجد من وُجد في تلك البيئة هو وعشرون جداً من أجداده؛ لكنه لا يتمكن من الحصول على الضروريات! وفي المقابل نجد في بيئات صعبة، تسودها الحروب والقحط والخوف من يستطيع أن يعيش، وينفق على عياله، ويدخر.
إن الله ـ سبحانه ـ أعطى الإنسان قدرات كامنة عظيمة، ومن خلال استغلال تلك القدرات يتغلب على الكثير من العقبات والصعوبات التي تعترض طريقه، وهذا ما يفعله كثير من الناس؛ حيث يمتلك الإنسان العزيمة والإصرار على تطوير ذاته واكتشاف الآفاق الجديدة، ويتخذ من (الزمن) وسيلة أساسية في حل المشكلات، إذ إن العوامل الخارجية يتهاوى الواحد منها تلو الآخر. وقد شاهدنا كثيراً من المقدمين الذي يملكون الطموح، فعملوا بجدية وصبر حتى ملكوا نفقات السفر، وتخلصوا من بيئاتهم قاصدين بيئات جديدة، يتوفر فيها العلم أو فرص العمل، وخلال سنوات قليلة تغيرت أحوالهم، بل انقلبت رأساً على عقب. وحين تؤثر الظروف الصعبة في الفقير، فتحوِّله إلى إنسان يائس بائس خائف وقانع، إنسان يجد، في سؤال الناس والاستدانة منهم والخضوع لشروطهم، مخرجاً وحيداً مما هو فيه، فإن العامل الخارجي يتحول حينئذ إلى سمة ذاتية للفقير تحطِّمه، وتسدّ كل الآفاق أمامه. وفي الدول الثرية مدمنون ومتشردون اختاروا عن طيب خاطر العيشَ على هامش المجتمع وفي أوكار الرذيلة، ومع كثرة المحاولات من أجل مساعدتهم لم يطرأ أي تحسِّن على حياتهم؛ وذلك بسبب رفضهم قبول المساعدة، وعجزهم عن مساعدة أنفسهم.
في المقال القادم سأذكر بإذن الله ـ تعالى ـ مثالاً ثانياً على سيطرة العوامل الداخلية مع الإشارة إلى بعض التدابير ... والله مولانا.