[تسوماني.. موعد مع الأرض والمئذنة]
آدم بمبا
هكذا وقف (حلمي) ينظر مشدوهاً؛ فقد أجال نظره في الفراغ، لا شيء في هذا الموضع يمتُّ بصلة إلى ما كان يُدعى يوماً ببلدة (ملابو) سوى مسجد ومئذنة منصوبٍة في عنان السَّماء تشهد بوحدانيَّة الملك الجبَّار، متحدية في كبرياء شامخٍ الأمواجَ المدِّيَّة التي التهمت البشر والدَّواب، والشَّجر والمدر، وحتى الصُّخور؛ فإنَّ طوفان تسونامي قد التهمها؛ يا إلهي! والأحلامَ الجسامَ أيضاً كنسها الطُّوفان إلى قيعان المحيط.
أجال نظره إلى الضَّفة الأخرى من المضيق الفاصل بين اليابسَين، أحقّاً أنَّه كان يوجد بتلك الضَّفة بشرٌ أحياء يرزقون، وأنَّ المؤذِّن كان كلَّما نادى بـ «حيَّ على الصَّلاة، حيَّ على الفلاح» انطلقت القوارب الصَّغيرة متَّجهة نحو المسجد في الضَّفة الأخرى، وكأنَّ النِّداء الخالد: هو وقود تلك القوارب الصَّغيرة؟ ابتسم (حلمي) بسمةً هازئة، وهو يستعيد ذكريات صباه في هذا لمكان، وكأنَّه قد اكتشف دون سائر البشر للمرة الأولى مهزلة الحياة، وتنبَّه لسرِّ لعبتها بالعقول.
عاد به شريط الذِّكريات إلى آخر عهده بهذا الموضع، في ذلك اليوم، كان والده قد لفَّ في قماش أبيض شيئاً مربَّعاً، وربطه بخيط، وكان آخر وصيَّة والده له قوله: بنيَّ! ضع هذا المصحف في حقيبتك فوق ثيابك؛ إنَّه ـ كما تعلم ـ مصحف جدِّك الذي خطَّه بيده، احرصْ على أن تقرأه كلَّ حين عند الرَّوضة الشَّريفة؛ عسى أن يُغفَر لناسخه.
- أبي! اتركه هنا؛ قد تضيع حقيبتي، إني أخاف عليه.
وقبل أن يُكمل (حلمي) كلامه، كان والده قد وضع المصحف فوق الحقيبة الصَّغيرة، وخرج وهو مطرقٌ إلى الأرض.. أكان هو أيضاً يخاف على المصحف من طوفان تسونامي؟
هكذا أبَتِ الذكريات على (حلمي) إلاَّ أن يتذكَّر أنَّه قد عاشت في هذا المكان امرأةٌ كان تُدعى الحاجة (سُورْيانْتي) ، كانت هي الطِّيبة نفسها، كانت تبيع ثمار «رامْبُوتانْ» و «دُورْيانْ» ، لكن نصف بضاعتها كان يوزَّع على أطفال القرية وهم في طريقهم إلى دار تحفيظ القرآن، وفصول «فرضُ عين» ... إنَّ ذكريات الماضي تحاول عبثاً أن تقنعه أنَّ الحاجة (سورْيانْتي) هي التي حملتْ به، ووضعته، وأرضعته، وربّته..، وأنها قالت له يوم وداعها له، والدُّموع تنهمر من عينيها:
- مي (ترخيم حلمي) ! لا عليك أن لا تدفنني! وعندما تعود احملْ لي عبوةً من ماء زمزم؛ فإنْ تجدني حيَّة أُرزَق أخذتها منك، وإلاَّ فرشَّها على قبري، وادعُ لي.
- أمِّي! بدأتِ تفكِّرين في الموت مثلما كانت جدَّتي.
بدأت الصُّور تتكاثف في مخيلته، وكأنَّه يتذكَّرها الآن للمرَّة الأولى (روحانا، وحازمينْ) أختاه الشَّابتان، آه! كان قد وعد أن يشهد حفل زفاف (روحانا) ، ويهديها من إثمد المدينة المنوَّرة. قال لأمِّه مازحاً:
- أمِّي! على أيِّ حالٍ لا تقيموا حفل زفاف (روحانا) قبل الحجِّ. إن الإجازة السَّنويَّة بالسُّعوديَّة تبدأ قُبَيل الحج، ولكنَّني عائدٌ بعد الحج مباشرةً يا أماه! لا تقيموه بأي حالٍ، وإنْ أقامت (روحانا) الدُّنيا وأقعدتها ...
- هيهْ! لا تدعْنا نتخاصم اليوم وأنت مسافرٌ! قالتها (روحانا) وهي تشدُّ أكياس جوز الهند المدقَّق، وتضعها في حقيبة (حلمي) .
تلك أحلامٌ لم يبق لها باقية، معالم داثرة، وماضٍ مضى في دقائق إلى قاع البحر، كأنْ لم يكن شيئاً. كانت الوساوس تساوره وهو واجمٌ في موقفه. إنَّه يحاول عبثاً تجميع رسومٍ، وصورٍ داثرة في مخيلته وذاكرته، لكن قوَّة الحاضر الماثل أمامه تعصف بتلك الصُّور المتراقصة مثل فتيلة سراجٍ في مهبِّ عاصفة.
هنا فقط أدرك (حلمي) عمق أسى الشُّعراء الباكين على الأطلال، ولكن هنا في (ملابو) لا أطلال باقية إلا المئذنة الشَّامخة المتأمِّلة في البحر بكبرياء، ولا معالم واضحة إلا بعض الفِجاج والطُّرق المتعرِّجة التي خطَّتها الأقدام على مرِّ الأجيال في أرجاء البلدة، وجذوع أشجار جوز الهند المائلة التي أبقت عليها أمواج المدِّ العاتية، ولسان حال الأمواج تقول: «ألا فليبلِّغ الشاهد منكم الغائب!» . وهنا أيضاً تجلّت للفتى الواقف قدرة المولى الجبَّار وعظمته؛ فهو إن يشأ يذهب بالكون في لمح بالبصر، وما ذلك عليه بعزيز!
ظلَّ (حلمي) واجماً في هذا المكان يحاوره الصَّمت والذِّكريات، متأمِّلاً في البحر الهادئ الذي طالما دفع فيه هو بزوْرَقه الصَّغير في الصَّباحات الدّافئة بصحبة والده، أو أترابه الصِّغار لنشر الشّباك، وصيد الأسماك، ابتسم للبحر، وقال له:
- لا عليك! إنَّك حبيبنا ومصدر عيشنا، لا يمكن أن تَعْتُو علينا. إنَّها أمواجٌ غريبةٌ جاءت من بعيد.
أدرك حلمي في تأمُّله أن وقوفه لا يجدي، لا بدَّ من فعلٍ ومن حياةٍ مستمرَّة! لذلك ابتعد عن قريته ليلبِّي نداءات المتأوِّهين من الجرحى، وليشارك فِرَق العمَّال المتطوِّعين في انتشال أشلاء الجثث من تحت أنقاض البيوت المتهدّمة في «كوتاراجا» و «بيت الرَّحمان» و «لوسوكونْ» وغيرها من مدن بانْدا آتشيه. قال في صمت: إني عائدٌ إليكِ يا (ملابو) مع النَّفر القليل الباقين من أبنائك؛ لنبني مستقبلكِ عتيداً، مثلما بنى الأجدادُ ماضيك مجيداً، يوم جاؤوا إلى هنا ولم يكن إلا الماء والغابة والوحوش.
كان حلمي يخطو خطواتٍ واثقة، وهو يبتعد عمَّا كان يدعى منذ يومَين قرية (ملابو) ، وكان يتعاظم شيئاً فشيئاً مع كلِّ خطوةٍ مثل ظِلِّ إنسانٍ متَّجه نحو عمود نور. وقف على الثنية المطلَّة على البلدة، التفت فجأةً كأنَّه قد تنبَّه إلى جسامة العهد الذي قطعه على نفسه بالعودة، وبناء هذا المكان الخالي. نظر نظرةً أخرى إلى المسجد، وإلى المئذنة المنتصبة، مثل إصبع متشهِّداً أنْ «لا إله إلا الله وحده» . قال في خشوع:
- حمداً لك ربِّي على كلِّ حال. ما أسهل بناء حضارةٍ تنطلق من مسجد ومئذنة.. وقرآن ورثته من والدي!