من تاريخ التغريب
الاسماعيلية الجديدة [*]
(١)
د. عبد الله الخلف
كثيراً ما نقرأ أن العرب ممثلين بمصر سبقوا اليابانيين في محاولة الاتصال
بالغرب، والاستفادة منهم في مجالات العلوم والتقنية والإدارة، ونعلم أنه بينما نجح
المشروع الياباني في تحقيق أهدافه نجاحاً باهراً، لم يحقق المشروع العربي إلا
الإخفاق والفشل الذريع.
ولئن كان السبب الذي أدى إلى إخفاق المشروع العربي واضحاً بيناً في
أصوله وإطاره العام - وهو عدم الاعتماد على المنهج الإسلامي -، فإنه بحاجة إلى
كثير من الدراسة والبحث في جزئياته وتفاصيله. ومن أبرز المواقف التاريخية
المتصلة بهذا الموضوع، والتي يمكن الوقوف عندها والتأمل فيها لما لها من قيمة
في إضاءة جانب من هذه القضية، ذلك الاحتفال الكبير الذي أقامه الخديوي
إسماعيل عام ١٨٦٩ م بمناسبة افتتاح قناة السويس.
لقد أراد إسماعيل أن يظهر دولته أمام ضيوفه الأوربيين بمظهر الدولة
المتقدمة التي لا يقل مستواها الحضاري عما وصلت إليه بلدان أوربا، وأراد أن
يبرهن على ما زعمه من أن مصر قطعة من أوربا لها من الروابط معها أكثر مما
لها مع جيرانها.
من أجل ذلك انتهز هذه الفرصة، وسافر بنفسه إلى أوربا لتوجيه الدعوة إلى
زعمائها لحضور الحفل فاستجاب له عدد من أولئك الزعماء، منهم الامبراطورة
أوجيني زوجة امبراطور فرنسا نابليون الثالث، وامبراطور النمسا، وولي عهد
بروسيا، وشقيق ملك هولندا وزوجته، وعدد كبير من رجال السياسة والاقتصاد
وغيرهم من المدعوين الذين بلغ عددهم قريباً من ألف.
وقد بُذلت جهود كبيرة، وصرفت أموال طائلة في سبيل إظهار مصر بمظهر
يعجب هؤلاء الضيوف. ومن ذلك إقامة عدد من القصور الفخمة، وإنشاء حديقة
كبيرة في القاهرة، وتم تنفيذ طريق يصل إلى الأهرام في مدة وجيزة لكي يتمكن
الضيوف من زيارتها، كما أنشئ عدد من السكك الحديدية لتسهيل تنقل الضيوف،
وتم بناء دار الأوبرا في القاهرة، وكلف موسيقي إيطالى مشهور بوضع أوبرا لتمثل
أمامهم، كما تم إنشاء عدد من المدارس التي لم يكن الهدف الأول منها تعليمياً،
ولكن ليباهي بها إسماعيل ضيوفه، وتم استقدام خمسمائة طاهٍ وخادم من أوربا
علاوة على عدد كبير من الموجودين في مصر.
وقد أقام كثير من المدعوين - ومنهم الامبراطورة أوجيني - مدة تزيد على
الشهر، وقاموا برحلات في أنحاء مصر لمشاهدة معالمها وآثارها، وأقيمت لهم في
أثناء ذلك حفلات الغناء والرقص الباذخة، كل ذلك على نفقة مضيفهم حتى إن أحد
المدعوين قال: «لم نصرف شيئاً بالمرة خلال هذه الرحلة، لقد شاهدنا كرماً لا
مثيل له» .
أما الاحتفال الكبير فقد استمر خمسة أيام، قام موكب المدعوين خلالها بمسيرة
من بور سعيد إلى السويس في مظاهر من الأبهة والبذخ الذي لم يشهد له كثير من
الضيوف مثيلاً. حتى إن الامبراطورة قالت: «يا إلهي لم أر في حياتي أجمل من
هذا» . وكان هذا البذخ مثار سخط كثير من عقلاء البلد، ولكنه كان موضع الرضا
والترحيب من ثعالب أوربا الذين كانوا يتربصون بمصر الدوائر، ويتحينون
الفرص للانقضاض عليها. وقد ذكر أن أحد رجال الخديوي شكا من ذلك إلى أحد
الأمراء الأوربيين قائلاً: «إننا نأكل أحجار الأهرام حجراً حجراً» فرد عليه
بخبث: «لا تهتم سنقرضكم المال اللازم لتشتروا منا الإسمنت لإعادة بنائها» .
ولذا لم يكن غريباً أن تؤدي هذه التصرفات إلى إغراق مصر بالديون مما لم
تستطع إيراداتها الوفاء به، فاضطر الخديوي أخيراً إلى بيع أسهم مصر في القناة
لإنجلترا، فلم يعد لها فيها أي نصيب. واستغلت الدول الأوربية الأمر فعينت
مندوبين منها يتصرفون في إيرادات مصر ومصروفاتها بحجة حماية حقوق الدائنين
الأوربيين وتسديدها، وأخيراً وقعت مصر تحت الاحتلال الإنجليزي، بعد أن هيأ
إسماعيل بأعماله السيئة أفضل الظروف لإنجلترا لتحقيق أهدافها.
من خلال هذا العرض يتبين لنا أن هذا الرجل قد فتن بالغربيين، واستمات
في أن يطهر دولته بمظهر ينال إعجابهم. ولكن نظرته إليهم، وفهمه لسر قوتهم
كان موغلاً في السطحية والسذاجة، وكان اهتمامه منصباً على المظاهر بعيداً عن
الجوانب الجوهرية. وقد اتضح هذا من خلال الأسلوب الذي اتبعه في محاولته
اللحاق بهم ووضع مصر في مصاف دولهم، وهو أسلوب يحمل بذور الفشل الذريع، ويؤكد جهل صاحبه وقصر نظره.
ولم يكن هذا العمل الذي بدر منه في هذه المناسبة عملاً طارئاً، ولكنه يعبر
عن منهجه الإصلاحي، وموقفه الحضاري من الغرب. وهو منهج قائم على أساس
دعواه أن مصر قطعة من أوربا، وبدلاً من أن يزرع في نفوس شعبه العزة،
والإحساس بالتميز والاستعلاء بما لديهم من مبادئ سامية وتراث عريق راح يجرهم
إلى تبعية ذليلة مهينة، ويغرس في نفوسهم، حب التقليد الأعمى.
لقد غاب عن الخديوي إسماعيل أن الأمم مهما كانت درجتها من الضعف لا
يمكن أن تتخلى بسهولة عن أصالتها، وجذورها التاريخية والحضارية، وتسقط في
أحضان الآخرين فكيف إذا كانت تنتمي إلى خير أمة أخرجت للناس، وغاب عنه
أن الشخصية الحضارية للأمة لا يمكن أن تتبدل بمجرد أن يلبسها ثياب الآخرين
ويضفي عليها مظاهرهم، ولم يكن يدرك أن طريق الإصلاح والنهضة إنما يبدأ
بالإنسان قبل أي شيء آخر، وأن هذا الإنسان لن يستجيب بسهولة لمحاولات
الإصلاح ما لم نخاطب فيه نوازعه الفطرية وخصوصيته الحضارية، ونشعره
بتميزه وأصالته.
وكم كان الفرق عظيماً والبون شاسعاً بين منهج إسماعيل والمنهج الياباني الذي
قام على أساس من التميز والأصالة، ولم ينظر من أوربا إلا إلى الجانب الذي يفتقده
ويحتاج إليه من علوم وتقنية سرعان ما استوعبها واحتواها بأساليبه التعليمية
والتربوية الخاصة، حتى إن الأمريكيين واجهوا صعوبات كبيرة في فرض
نظرياتهم التربوية عليه بعد الحرب العالمية الثانية.
ولكن الأمر لم ينته بفشل الخديوي إسماعيل في مشروعه وما جره على بلده
من مصائب، فقد تابعه وسار على منهجه معظم القيادات السياسية لبلاد المسلمين
على اختلاف في درجة التقليد، وعلى تفاوت في إظهار التبعية والولاء. كما أن
الاهتمام بالمظاهر والأبهة الكاذبة والرغبة في نيل إعجاب الغرب لا يزال هاجساً
يستحوذ على تفكير كثير من تلك القيادات، ويدفعها إلى بذل الغالي والنفيس في
سبيلها، لتتمكن من إرضاء غرورها، حتى لو اضطرت إلى حرمان شعوبها من
أهم الضروريات، وإلى إغراقها بالديون والمشكلات.
ولا تزال هذه التجارب الفاشلة تؤتي ثمارها المرة، وتدفع بالشعوب المسلمة
إلى مهاوي التخلف والضعف والهوان.
(*) ليس المقصود بالاسماعيلية المذهب الباطني المعروف، ولكنه نهج الخديوي إسماعيل القائم على البذخ والإسراف والرعونة في تقليد قشور الحضارة الأوربية.