المسلمون والعالم
الصراع العربي (الإسرائيلي) تحت الرايات العلمانية
خمسون عاماً من الفشل..!
(١من٢)
بقلم: عبد العزيز كامل
تجري الاستعدادات في دولة اليهود على قدم وساق للاحتفال في العام القادم
بذكرى مرور (٥٠ عاماً) على إعلان (دولة إسرائيل) تلك الدولة المسخ التي
زرعتها أحقاد الغرب، بينما تعهدتها بالرِّي والنماء أخطاء العرب.
نعم، فما كانت (إسرائيل) لتبقى وتعلو، أو لتوجد أصلاً، لولا سلسلة من
أخطاء تترادف، وخطايا تتراكم، ممن وضعوا أنفسهم في واجهة هذا الصراع
الديني الاعتقادي، حيث تعمد هؤلاء عن سابق إصرار وترصد أن يفرغوا هذا
الصراع من محتواه الاعتقادي وخلفيته الدينية من جانبنا، في مقابل تعمد الآخرين
عن سابق إصرار وترصد أيضاً أن يصبغوه بالصبغة العقائدية في كل جزئياته،
بدءاً من اختيار اسم هذه الدولة (إسرائيل) ورمزها (نجمة داود) ودستورها (التوراة
والتلمود) وشعارها (أرض الميعاد) وحلمها التاريخي إعادة بناء (هيكل سليمان) في
(أورشليم القدس) حيث يتطلع اليهود لمجيء ملك من نسل داود يحكم العالم! .
أما بنو قومنا، فتحت الرايات العلمانية المتعددة، قد جدوا واجتهدوا في إبعاد
الإسلام عن المعركة، وإقصاء القرآن عن توجيهها، وتنحية العقيدة الحقة عن
مواجهة العقيدة الباطلة، بل بالغوا في ذلك حتى استبعدوا المسلمين غير العرب من
المشاركة في المعركة ابتداء، فأطلقوا على هذا الصراع: (الصراع العربي
الإسرائيلي) مرة، و (معركة القومية العربية) مرة أخرى، و (أزمة الشرق
الأوسط) مرة ثالثة. بينما كان في الإمكان حشد الأمة الإسلامية كلها خلف الأمة
العربية في هذا الصراع الحضاري المصيري بين أمة الإسلام وأمة يهود.
ولكن الذي حصل ولا يزال يحصل أن القيادات العلمانية تصر على التصدي
لمعركة ليست لها ولا أهلها، وتأبى التنازل عن مبادئها المنافية للدين، على
الرغم من كل أنواع الفشل الذي جرّته على الأمة عبر خمسين عاماً من عمر هذا
الصراع.
ولما كانت هذه الأعوام الخمسون قد انقضى نصفها في الحروب الخاسرة،
بينما انقضى نصفها الآخر في عمليات السلام الفاشلة، فسوف نبدأ أولاً باستعراض
جولات تلك الحروب في النصف الأول من عمر الصراع (١٩٤٨-١٩٧٣م) ثم نثنِّي
بمسارات ومراحل العملية السلمية في المرحلة الثانية من (١٩٧٣-١٩٩٧م) .
الجولة الأولى: حرب أيار (مايو) ١٩٤٨م
انتهت هذه الحرب إلى نتيجة مذهلة؛ إذ تعرضت سبعة جيوش تابعة لسبع دول عربية لهزيمة منكرة، لا أقول أمام جيش لدولة واحدة، ولكن أمام عدة منظمات يهودية شبه عسكرية، وهي تلك التي تم توحيدها بعد ذلك تحت اسم (جيش الدفاع الإسرائيلي) فما الذي حدث..؟
يمكننا التعرف على ذلك من خلال اللقطات التاريخية التالية:
* - بعدما أصدرت الأمم المتحدة قرارها الظالم في نوفمبر ١٩٤٧م بتقسيم
فلسطين بين العرب واليهود، سارع القادة السياسيون العرب إلى اتخاذ قرار بدخول
حرب شاملة ل (تأديب) عصابات اليهود، وكان ذلك القرار حماسياً ارتجالياً، لم
يسبقه إعداد أو تخطيط، وقد عارض القادة العسكريون قرار الحرب بشدة في هذا
التوقيت، وحذروا منه أشد التحذير.
* - فوجئ القادة العسكريون باتخاذ القرار السياسي الفعلي بالحرب، قبل بدء
تلك الحرب بيومين أو ثلاثة، في وقت لم يكن لدى معظم الجيوش العربية حتى
ميزانية تسمح بدخول حرب، ولم يكن قد جرى تدريبها بعدُ على الدخول في
حروب شاملة.
* -اجتمع رؤساء أركان كل من (مصر والعراق والأردن وسوريا ولبنان)
قبل الحرب وأعلنوا الاتفاق على إعداد ما لا يقل عن خمس فرق عسكرية كاملة
الاستعداد والتسليح مع ستة أسراب من المقاتلات والقاذفات، بحيث تكون جميعاً
خاضعة لقيادة عربية موحدة، ولكن هذا الاتفاق لم ير النور، فلم يتم إعداد الفرق،
ولم تدبر الأسراب ولم توحد القيادة!
* -لم توضع خطة منسقة للجيوش العربية لخوض الحرب، بل حُدد لكل
جيش هدف يصل إليه، وأُجِّل التنسيق إلى ما بعد وصول كل جيش إلى هدفه!
* -لم يتجاوز عدد الجنود العرب الذين سيقوا إلى الحرب خمسة عشر ألف
جندي، في حين حشد اليهود نحو ستين ألف مقاتل مجهزين تجهيزاً كاملاً للمعركة
التي لم يقرروا هم البدء فيها.
* - دخلت الجيوش العربية الحرب في ١٥ مايو ١٩٤٨م، دون أي معلومات
عن العدو، بل كانت غالبية تلك الجيوش تقاتل في أرض تجهل طبيعتها وطريقة
القتال فيها.
* - كان الفيلق الأردني هو الأجود من حيث التدريب والتسليح، ولكنه مع
الأسف كان تحت قيادة الجنرال البريطاني النصراني (جلوب) .
* - بالرغم من كل هذا، فقد دفعت العاطفة الإسلامية الجنود العرب إلى
إحراز عدة نجاحات في بداية الحرب، كادت أن تحوِّل الدفة لصالحهم ضد اليهود
المعروفين بالجبن الشديد في القتال، ولكن حكومتي (بريطانيا وأمريكا) أحستا بذلك
الخطر، فسارعتا إلى دفع مجلس الأمن الدولي إلى إصدار قرار بفرض الهدنة
اعتباراً من يوم ٨ يوليو ١٩٤٨م ولمدة شهر كامل.
* - مرة أخرى سقط السياسيون في العجلة، ووافقوا على الهدنة، فتنازلوا
بذلك لليهود عن عنصر المبادأة أو المبادرة، وحرص العرب على أن يظهروا
بمظهر الحريص على احترام (الشرعية الدولية) ! التي لم تحترمهم، والتي زرعت
اليهود في أرضهم.
* - حرص اليهود على استغلال كل دقيقة من فترة الهدنة لتغيير موازين
القوى لصالحهم، وسخروا أشد السخرية من غباء القرار العربي بقبول الهدنة،
حتى إن (مناحم بيجن) كتب وقتها يقول: (إننا لا نعرف حتى الآن كيف ولماذا
قبلت الدول العربية الهدنة، بعد أن كان الموقف العسكري في صالحها تماماً) !
* - بعد انتهاء شهر الهدنة، كان اليهود قد نجحوا في تسلم زمام المبادرة
سياسياً وعسكرياً، ثم بدؤوا في حرب استنزاف للجيوش العربية كلاً على حدة، فقد
عادت الحرب ثانية، وكان اليهود هم البادئون هذه المرة، فنفذوا ضربة جوية
مفاجئة لمطار العريش في (مصر) ، وهو المطار الذي كان يعتمد عليه الجيش
المصري؛ لأن بقية المطارات كانت خاضعة للمحتل الإنجليزي، ثم أعقب ذلك
قصف جوي لتجمعات الجيش البرية في كل قطاعات القتال مما أدى إلى حالة من
الفوضى والارتباك.
* - بعد أن حقق اليهود قدراً كبيراً من النجاح وأصبحوا في حاجة إلى فرصة
لالتقاط الأنفاس، أصدر مجلس الأمن قراراً ثانياً بالهدنة، واستجاب العرب مرة
أخرى فأعطوا لليهود فرصة ثانية للمزيد من لمِّ الشمل واستعادة النشاط!
* -عادت الحرب للمرة الثالثة بمعارك متفرقة هنا وهناك، إلى أن أصدر
مجلس الأمن قراره الثالث بإيقاف الحرب نهائيّاً بعد أن فشلت كل الجهود العربية في
إجلاء اليهود عن الأراضي التي احتلوها في فلسطين، وهو ما يعني بعبارة أخرى:
الهزيمة في تلك الحرب والفشل في تحقيق أي من أهدافها!
ومما يجدر ذكره هنا، أن عقد الأربعينات الذي جرت فيه تلك الحرب، قد
شهد انتعاشاً في الشعور بالانتماء القومي العربي، حيث بدأ العرب وقتها في الفصل
بين مفهومي (الأمة العربية) و (الأمة الإسلامية) وتُوِّج هذا الشعور القومي بإنشاء
(الجامعة العربية) رداً على من كانوا ينادون بالعودة إلى (الجامعة الإسلامية) .
الجولة الثانية: حرب ١٩٥٦م:
جاءت الجولة الثانية بعد أن آلت السلطة في بعض الدول العربية إلى أنظمة
ثورية، دعت نفسها بالتقدمية، وكان النظام الثوري العسكري في (مصر) هو
المتزعم لها، وقد عدّ من أهدافه الرئيسة المعلنة: تحرير (فلسطين) والقضاء على
دولة (إسرائيل) ، وجعل من هذا الهدف إلى جانب توحيد العرب تحت راية القومية
العربية قضية يبني بها المجد والزعامة، فماذا كان مسلك الثوريين العساكر بعد أن
تسلموا دفة الصراع مع اليهود..؟ هذا ما توضحه المشاهد التاريخية التالية:
-كان أول عمل قام به (قائد الثورة) (جمال عبد الناصر) بعد تسلمه منصب
الرئاسة رسمياً هو تأميم قناة السويس في ٢٦ تموز (يوليو) ١٩٥٦م، وكان ذلك
قراراً دعائياً اتخذ دون دراسة أو تحسب لما يمكن أن يترتب عليه من نتائج، وقد
جاء رد فعل على صريح لوزير الخارجية الأمريكي وقتها (فوستر دالاس) قال فيه: إن الاقتصاد المصري منهار.
-ثار الغرب لهذا القرار، وخاصة ما كان من (إنجلترا وفرنسا) حيث أخذتا
في الإعداد لإجراء حاسم وتواترت الأنباء عن حشود إنجليزية وفرنسية في
(قبرص) استعداداً لعمل عسكري ضد (مصر) بالاشتراك مع دولة اليهود، ولكن
(عبد الناصر) لم يكترث، ولم يأخذ هذه التهديدات مأخذ الجد، بل كان هناك
استرخاء عسكري بالرغم مما يجري، حتى إن القيادة المصرية خففت من أعداد
القوات المعدة للقتال لأسباب غير مفهومة.
-عندما بدأت نذر الحرب كان اليهود يحتفظون بالتفوق العسكري مقارنة
بالإمكانات المصرية التي يفترض أنها أكبر وأقوى الإمكانات العربية، فقد كان
التفوق ظاهراً حتى في الجانب العددي البشري، فكان التفوق في المشاة بنسبة ١: ٣ لصالح اليهود، وفي القوات البرية (الدبابات) بنسبة ١: ١.٨ لصالح اليهود، ...
وفي سلاح المدفعية بنسبة ١: ٢.٥ لصالح اليهود أيضاً.
-نسق اليهود جهودهم مع حلفائهم استعداداً للحرب، فاتفقوا مع فرنسا على
تأمين الغطاء الجوي الكافي للمدن الإسرائيلية وعلى أن يتولى السلاح البحري تأمين
حراسة السواحل الإسرائيلية، وأن تشارك القوات الفرنسية بالقتال ضد أي دولة
عربية تدخل الحرب إلى جانب (مصر) ، وأُسند إلى السلاح الجوي البريطاني مهمة
تدمير الطيران المصري على الأرض.
-وأخيراً اقتنعت القيادة الثورية بأن أمر الحرب جد لا هزل فيه، فبدأت في
تركيز الجهود على حماية سيناء من الشرق، بينما أهملت الجبهة الجنوبية إهمالاً
مريباً، حيث كان من الغريب أن يخصص لهذه المنطقة الحيوية نحو ١٢٠ جندياً
من المشاة لحمايتها! ! .
-وبدأت الحرب في ٢٩ تشرين الأول (أكتوبر) ١٩٥٦م بمهاجمة الخط الأقل
خطراً في نظر القيادة المصرية، وهو المنطقة الجنوبية من سيناء، وأعلن اليهود
أنهم يقاتلون على بعد ٤٠ كيلو متراً من قناة السويس، حتى يعطوا الذريعة لكل من
إنجلترا وفرنسا للتدخل العسكري، بحجة حماية حرية الملاحة الدولية في قناة
السويس.
-وبالفعل أقدم سلاح الجو البريطاني على ضرب الطيران المصري على
الأرض، واضطر المصريون للقتال دون غطاء جوي على مختلف المحاور،
وأبلى المقاتلون المصريون بلاءً حسناً في القتال، لولا أن الأوامر صدرت من
القاهرة، للقوات الرئيسة بالانسحاب بعد إنذار أرسلت به إنجلترا وفرنسا، وبدأ
الانسحاب ليلة ٣١ أكتوبر ١٩٥٦م، من قطاع إثر قطاع مما سبب حالة من
الارتباك والاضطراب.
-وفي ظل غياب أي غطاء جوي أو طبيعي من جبال أو أشجار، كان
الانسحاب شاقاً ومكلفاً، فقد أصبحت القوات المنسحبة هدفاً مكشوفاً أمام الطائرات
النفاثة المغيرة والمحملة بكل أنواع الأسلحة المدمرة والحارقة.
وهكذا انتهت الحرب بهزيمة الجيش المصري وإهانته في حرب بدأتها الدعاية
وأوصلها الغرور إلى أسوأ نهاية، فقد احتُلت سيناء ولم تنسحب إسرائيل منها إلا
بعد أن ضمنت السماح لها بالملاحة في خليج العقبة كيف تشاء.
وكان لـ (بريطانيا) (صديق العرب المفضل دائماً) الدور الأكبر في تقديم
الجيش المصري لقمة سائغة لإخوان القردة والخنازير.
الجولة الثالثة: حرب يونيو ١٩٦٧م
هي الحرب الثانية في العهد لثوري التقدمي الوحدوي الاشتراكي ... العلماني! وقد كانت عاراً لم تُمسح آثاره إلى اليوم، حيث كان الهدف الرئيس لها احتلال القدس، فتحقق الاحتلال، ولم يتم التحرير إلى اليوم لا سلماً ولا حرباً. وهذه بعض المشاهد التاريخية للكارثة التي سميت زوراً (نكسة) !
-تضخم الغرور في الذات اليهودية بعدما تم إحرازه من انتصارات رخيصة
على شعوب مغلوبة على أمرها، ولم تكد تنقضي عشر سنوات على حرب ١٩٥٦م
حتى تفتحت شهية اليهود لحرب جديدة، ففي شهر ديسمبر ١٩٦٦م أعلن (ليفي
إشكول) رئيس وزراء إسرائيل في ذلك الوقت، نية بلاده في دخول حرب جديدة
ضد العرب وهدد بغزو (سوريا) ، في لهجة جديدة وغير معهودة من اليهود
المتظاهرين أبداً بالمسكنة والاستضعاف.
-وفي عام ١٩٦٧م لم ينقض شهر نيسان (إبريل) منه حتى كان اليهود قد
نفذوا ما توعدوا به؛ فشن سلاحهم الجوي هجوماً ضخماً ضد (سوريا) ، وفي الشهر
التالي هدد الهالك (إسحاق رابين) بدخول دمشق، بعد افتعال مشكلة وأزمة بسبب
تحويل مجرى نهر الأردن، وقيام أعمال فدائية ضد دولة اليهود من داخل (سوريا) .
-وكان هذا الهجوم الإسرائيلي ضد (سوريا) رسالة موجهة أيضاً إلى (مصر) ، التي كان قادتها منهمكين أو غارقين في المستنقع اليمني، حيث الحرب الظالمة
التي أقحم فيها الجيش المصري للقتال هناك نصرة للقوى (التقدمية) ضد القوى
(الرجعية) ! وبدلاً من أن تتنبه تلك القيادة للخطر، وتسعى لحشد القوة ضد العدو
الحقيقي المتربص من وراء الحدود، اكتفى الثوار بنشر قوات بغرض الردع
والتخويف واستعراض القوة في (سيناء) .
-اعتبر اليهود ذلك الاستعراض بمثابة إعلان حرب من (مصر) ، وأعلن
(موشي دايان) وقتها أن (مصر) هي العدو الحقيقي وليست (سوريا) ، وأن على
(إسرائيل) أن تتفرغ لحربها وأصبح قرار الحرب في إسرائيل في حكم المنتهى منه، ولم يبق إلا انتظار الذريعة المناسبة.
-ومرة أخرى قدم النظام الثوري الذريعة لليهود المتربصين، فصدر قرار
بمنع الملاحة في خليج العقبة الذي تنتقل منه البضائع من وإلى (إسرائيل) .
وانتشرت القوات المصرية على خليج العقبة بعد انسحاب قوات الطوارئ
الدولية منه، وزاد الطين بلة أن جرى الإعلان عن توقيع ميثاق دفاع مشترك بين
(مصر) و (الأردن) بالرغم من الخلافات التي كانت قائمة بينهما.
-لم يعد هناك وقت للتفكير لدى دولة اليهود، فشكّل رئيس وزرائها حكومة
حرب وأدخل فيها (موشي دايان) وزيراً للدفاع، لينفذ توعده بالانتقام من (مصر) ،
وكانت القوات الإسرائيلية قد أتمت استعداداتها التي بدأتها منذ زمن لخوض الحرب
الشاملة في حين كانت القوات المصرية غير مستعدة حتى مساء الرابع من يونيو من
العام نفسه.
-وفي صباح الخامس من يونيو ١٩٦٧م، قام اليهود بشن الحرب، معلنين
أنهم في وضع دفاع عن النفس بعد أن حشدت مصر قواتها في سيناء، وأغلقت
خليج العقبة؛ وأحلت قواتها محل قوات الأمم المتحدة، وبدأ اليهود في توجيه
ضربة جوية مفاجئة ضد القواعد الجوية العربية في كل من (مصر) و (سوريا)
و (الأردن) و (العراق) ، وأطلق على هذه العملية (ضربة صهيون) !
-انطلق الطيران اليهودي كله من مرابضه (١٥٠ طائرة) وتوجه نحو ١٩
قاعدة مصرية جوية موزعة في أنحاء (مصر) (الدلتا سيناء الصعيد) لتدكها وهي
على الأرض وبعد خمس عشرة دقيقة من بدء الحرب كان الجنرال (مردخاي هود)
قائد سلاح الجو الإسرائيلي في لقاء مع ممثلي الصحافة الإسرائيلية والعالمية، حيث
زف إليهم البشرى بتلك المذبحة الجوية وقال: لقد دمرنا الحصيلة الكبرى من
طائرات العدو، منها (٣٠٩) طائرة في (مصر) ، و (٦٠) طائرة في (سوريا) ،
و (٢٩) طائرة في (الأردن) و (١٢) طائرة في (العراق) ، وطائرة واحدة في (لبنان) ، في حين لم تخسر (إسرائيل (إلا (١٩) طائرة! ! .
-يعود السبب في هذا الحدث المفجع في تاريخ الحروب الحديثة إلى عدد من
الأخطاء الفادحة التي وقعت فيها القيادات العربية، ومنها:
إساءة تقدير قوة العدو، وإهدار الاستفادة بالقدرات الذاتية، ويعود أيضاً إلى
سبب آخر مهم، وهو: أن القيادة المصرية كانت قد قررت القبول بتلقي الضربة
الأولى نزولاً على نصائح (السوفييت) ، حيث قدرت الخسائر المتوقعة في حال تلقي
الضربة الأولى بما يتراوح بين ١٥ ٢٠% من مجموع القوة الجوية العربية،
واعتبرت القيادة السياسية هذه النسبة ضئيلة، وتُعد تضحية مقبولة في مقابل إظهار
(إسرائيل) بمظهر البادئ بالعدوان أمام الرأي العام العالمي! ! !
-أما الحرب البرية الرئيسية بعد ذلك، التي دارت رحاها في سيناء، فيكفي
أن نتصور ساحة قتال مكشوفة أمام طيران معادٍ، يصول ويجول فيها وينتقي
الأهداف التي يشتهيها دون أي عائق من جيش مأمور بالانسحاب لا بالمقاومة!
-وبالرغم من كل عوامل الفشل التي بدأت بها المعركة، إلا أن دفاعاً
مستميتاً من الجنود، حاول في بعض الجهات مقاومة الهزيمة ببسالة نادرة، حتى
إن القادة الإسرائيليين أنفسهم اعترفوا بحدوث موجة من الاضطراب سادت صفوفهم
في المحور الشمالي بسبب المقاومة العنيفة.
-وأجمع عسكريون كثيرون على أن القيادة العسكرية المصرية لو كانت قد
دبرت هجمة مضادة لإجهاض الهجوم الإسرائيلي في ذلك الوقت لكان لذلك تأثير في
تغيير مجرى المعركة غير أنها أصيبت بالشلل المعنوي بسبب الضربة الجوية
المفاجئة فاكتفت بإصدار أوامر الانسحاب، مما تسبب في فقد الجيش المصري لـ
٨٠% من سلاحه، وفقد عشرة آلاف جندي، وألف وخمسمئة ضابط، ووقوع
خمسة عشر ألف جندي، ونحو خمسمئة ضابط أسرى في يد العدو، ولم تتوقف
الحرب على الجبهة المصرية إلا بعد أن طلبت مصر وقف إطلاق النار على جبهتها
معلنة بذلك التسليم بالهزيمة.
-التفت اليهود بعد ذلك إلى الجبهة الأردنية، فاحتلوا الضفة الغربية، فطلبت
الأردن وقف إطلاق النار وسلمت بالهزيمة، ثم اتجه اليهود إلى سوريا واحتلوا
مرتفعات الجولان مع قاعدتها مدينة القنيطرة، ثم أعلن عن وقف إطلاق النار؛
وبذلك انتهت الجولة العسكرية الثالثة، وأعلن الرئيس المصري أنه يتحمل مسؤولية
الهزيمة؛ وأنه لذلك سوف يتخلى عن السلطة، ولكن الجماهير التي خدرتها
الشعارات الثورية، تقبلت الهزيمة والتضحية بالأرض والدم والوطن، ولكنها لن
تقبل التفريط في الزعيم ولو قادها إلى الجحيم! .
الجولة الرابعة: حرب أكتوبر ١٩٧٣م
درجت أوساط كثيرة على وصف حرب أكتوبر عام ١٩٧٣م بأنها حرب (التحريك) وليست حرب (التحرير) كما اشتهرت على الألسنة. ومن العجيب أن الرئيس المصري الحالي نفسه قد وصفها علناً بذلك الوصف، فهل في الأمر من سر؟ ! الظاهر أن ذلك الوصف فيه شيء من الصحة، إذ إن الأمور بعد هزيمة عام ١٩٦٧م، كانت تتجه نحو الحل السلمي، حتى إن ... (عبد الناصر) نفسه قد قبل في آخر حياته بمبادرة أمريكية للسلام بين العرب وإسرائيل، وهي مبادرة (روجرز) ولكن جو الإحباط بعد أن تبينت الشعوب حجم الكارثة، ومشاعر السخط على القيادات العربية التي تسببت فيها، بالإضافة إلى استمرار احتلال اليهود لما احتلوه في تلك الحرب في (مصر وسورية والأردن وفلسطين) ، كل ذلك حال دون إمكانية الإقدام على توقيع معاهدات صلح مع اليهود، تقرهم فيه الزعامات العربية من موقف ضعف على البقاء والعيش في أرض فلسطين، كان لا بد إذن من عمل شيء كبير، يكون نقطة انطلاق نحو إنهاء حالة الحرب مع اليهود إلى الآن..!
ولأن هذه الخطوة المطلوبة أعني إنهاء الصراع مع اليهود كانت كبيرة في
حجمها، خطيرة في أبعادها، ومثيرة في تفاصيلها، فقد كان لا بد من تخفيف وقعها
على الشعوب قدر المستطاع وعلى مراحل؛ ولهذا كان الإعداد لحرب (التحريك)
التي وُضِعَ لها سيناريو مسبق في ردهات وكواليس السياسة الدولية.
وكان هذا السيناريو يقضي باستعادة الجيش المصري والنظام معه لهيبته
باسترجاع جزء من شبه جزيرة سيناء التي أضاعها النظام الثوري نفسه في مرحلة
سابقة، وفي الوقت نفسه يحفظ لقادة اليهود ماء وجوههم أمام شعبهم فيلتفون حول
هذا النصر، ويفرغونه من محتواه من الناحية العسكرية ثم من الناحية السياسية.
وقد تم الأمر على هذا النحو:
في يوم السادس من تشرين الأول (أكتوبر) ١٩٧٣م الموافق للعاشر من
رمضان ١٣٩٣هـ، اجتازت القوات المصرية قناة السويس، وانتقلت إلى الضفة
الشرقية، واقتحمت خط (بارليف) الحصين، لتأخذ مواقع دفاعية بعد عشرة كيلو
مترات من شاطئ القناة في داخل سيناء، ولم تعط للقوات المسلحة بعد ذلك أي
صلاحية لتتابع تقدمها في سيناء لإكمال تحريرها مع وجود الإمكانية لذلك، حتى إن
رئيس الأركان نفسه في الجيش المصري (سعد الدين الشاذلي) قد اختلف مع القيادة
السياسية واتهمها بالتواطؤ، وعاش سنوات طويلة في منفاه الاختياري خارج البلاد.
وبعد عشرة أيام من بدء الحرب وإحراز تلك الانتصارات فيها لصالح العرب، عبرت عدة دبابات يهودية قناة السويس من منطقة (الدفرسوار) وفتحت ثغرة في
صفوف القوات المصرية، ثم تتابع تقدم الدبابات اليهودية، وانتشرت على طول
القناة من ضفتها الغربية، وحاصرت مدن القناة، وحجزت القوات المصرية في
سيناء، وبهذا انقطعت وسائل الاتصال بين قطاعات الجيش المصري، وبدت
(إسرائيل) أمام مواطنيها ومؤيديها في الداخل والخارج منتصرة، حيث تمكنت من
أسر القوات المصرية كلها في سيناء، والالتفاف عليها؛ بينما كانت الدعاية
المصرية والعربية تصور العبور على أنه من أعظم الانتصارات، وانتهت الحرب
عند ذلك الحد بإعلان وقف إطلاق النار، في وضع لا يسمح للمصريين بادعاء
النصر الشامل، ولا يمنع اليهود من ادعاء الثأر الكامل. وبعد انتهاء الحرب
مباشرة بدأ تدشين العملية السلمية بين مصر وإسرائيل في مراحلها المبكرة، وذلك
بزيارة قام بها وزير الخارجية الأمريكي (اليهودي) (هنري كيسنجر) لمصر، حيث
اتفق مع القيادة على فض الاشتباك بين المصريين والإسرائيليين والاتجاه نحو حل
النزاع في الشرق الأوسط بالطرق السلمية.
وهنا أمر ينبغي تنبيه القارئ إليه، وهو أننا لا نشكك في إمكانية تحقيق
النصر على اليهود، ولا في إخلاص الجنود الذين قاتلوا وقتلوا، بل لا نقلل من
أهمية دور التعبئة المادية والمعنوية للمعركة هذه المرة، ولكننا نعبر فقط عن قناعة
بأن هذا النصر الجزئي كان حجة أقامها الله على العرب والمسلمين في إمكان
نصرهم على عدوهم ولو كانوا أذلة، وأنه كان يمكن أن يكون نقطة انطلاق نحو
نهضة ووحدة عربية وإسلامية شاملة، ولكن أعداء الأمة أصروا أن يجعلوا منه
نقطة انطلاق أيضاً، ولكن إلى نكبة وفرقة عربية وإسلامية شاملة ... وهذا ما كان
في النصف الثاني من عمر الصراع، عبر خمسين عاماً من الضياع....
وللحديث بقية.