الافتتاحية
بعد الحادث الجلل
ما كان ينبغي أن يحصل وماذا حصل؟!
الحمد لله القائل: [مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن
قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً] (الأحزاب: ٢٣) ، والصلاة
والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا وقدوتنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،
أما بعد:
فلقد رزئت الأمة الإسلامية بحادث جلل ومحنة أليمة يوم قامت قوات الغدر
والعدوان الصهيونية باغتيال القائد المجاهد والرمز الإسلامي الشيخ (أحمد ياسين)
تغمده الله بواسع رحمته حينما استهدفت طائرات الأباتشي الأمريكية ذلك الشيخ
المقعد بعد صلاة الفجر من يوم ٢٢/٣/٢٠٠٤م، وهو ما كان محل نقد ومقت كل
دول العالم عدا (الإدارة الأمريكية اليمينية المتطرفة) والعداء من أولئك للإسلام
والمسلمين أصبح معروفاً ومألوفاً، وهذا ما نلمسه في إعلامهم وعلى ألسنة مفكريهم
ورجال دينهم ومتنفذيهم صباح مساء، والشيء من معدنه لا يُستغرب، وصدق الله
العظيم: [وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ] (البقرة:
١٢٠) ؛ فهذه حقيقة الديمقراطية الأمريكية التي يدعون لها، ويطالبون حكومات
وشعوب المنطقة بتطبيقها فيما يسمى بمشروع الشرق الأوسط الكبير، وهذه الإدارة
الأمريكية تغض الطرف عن إجرام الصهيونية وجبروتها بقتل الأطفال والنساء
والعجزة وهدم البيوت وتجريف الأراضي الزراعية مما يخالف الأنظمة الدولية عند
احتلال الدول، والتي تجرم كل دولة تتجاوزها ولكن كما قيل:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ... كما أن عين السخط تبدي المساويا
ولقد كان بُعيد هذا الاعتداء الإجرامي الصهيوني الإعداد لمؤتمر القمة العربي
الأخير الذي كان مزمعاً عقده في تونس في ٨/٢/١٤٢٥هـ الموافق ٢٨/٣/٢٠٠٤م،
ومع قناعتنا بأن مؤتمرات القمة العربية كما هي العادة لا تقدم ولا تؤخر في حال
الأمة لكثرة الخلافات القطرية والتناقضات السياسية؛ إلا أن بعض المتفائلين توقعوا
من هذه القمة التي جاءت بعد اغتيال الشيخ ياسين - رحمه الله - ما لعله يحيي في
الأمة اليقظة والانتفاضة حيال التعنت الصهيوني والاستكبار الأمريكي الذي رفض
إدانة العدو الصهيوني برفع الفيتو، وكنا نؤمل أن تجتمع القمة على شيء من
الاتفاق والعمل الجاد لإيقاف تلك المهازل والاستهتارات بحق أمتنا حتى نادى
بعضهم بأن تكون هذه (قمة الشيخ ياسين) ويتم فيها المصالحة وعلاج المشكلات
المزمنة والإجماع على أمور هامة تثبت للجميع أن أمتنا بإمكانها استعادة وعيها،
وتثبت للعالم أجمع أنها قادرة على التغلب على جراحاتها، وأنها ستقول (لا)
للأعداء متى استشعرت يقينها بالله وقوة إيمانها بربها وخالقها حيال من يحاول
فرض وصايته عليها، وكنا نتوقع أن يضع المؤتمرون على جدول أعمالهم أموراً
مهمة تتفق وخطورة المرحلة التي نعيشها من مثل ما يلي:
- إيقاف كل مشاريع الاستسلام المسماة زوراً بمشاريع السلام.
- طرد السفراء والقناصل الصهاينة في السفارات والمكاتب التجارية خلال
٤٨ ساعة.
- اعتبار كل عدوان على بلد عربي هو عدوان على الجميع.
- رفض المشاريع الغربية المشبوهة والتي يراد بها الهيمنة على الأمة من
مثل مشروع الشرق الأوسط الكبير.
لكن لم تلبث هذه الآمال الجميلة أن تلاشت؛ وكما قيل تمخَّض الجبل فولد
فأراً؛ فالاجتماعات التمهيدية لوزراء الخارجية العرب والتي كانت تحضر برنامج
القمة بعد أن قضوا جل أوقاتهم في حوارات عقيمة لم يكن همُّ الأمة الأكبر وهو
القضية الفلسطينية وغطرسة العدو حيالها هو محل اهتمامهم، وإنما كان الأمر يدور
في أمور أخرى.
فانفض الاجتماع على غير المتوقع، بل أجلت الحكومة المستضيفة عقد
المؤتمر إلى أجل غير مسمى بدعاوى ساذجة وأعذار باردة، وإذا بالخلافات كانت
تدور حول مسألتي (وثيقة العهد) لإصلاح الجامعة العربية ووجهات النظر
المتباينة حول أوراق الإصلاح التي تقدم بها عدد من الدول العربية مع أن
المجتمعين كما نشر قد قطعوا ٥٠% من مشاريع القرارات التي رفعت لهم، وأعلن
الأمين العام للجامعة العربية أن جميع المبادرات المطروحة من خارج (إطار العالم
العربي) غير مرحب بها بما فيها (مشروع الشرق الأوسط الكبير) فهل تأجيل
المؤتمر ناتج من رفض المشروع الأمريكي، أم أن الخلافات حول أوراق الإصلاح
من حيث قربها أو بعدها من ذلك المشروع هو السبب؟ وكلا الأمرين وارد مما
يعني أن الهم الأكبر لم يكن محل العناية ولا محل الاهتمام!! والله المستعان.
والحقيقة أن مشكلتنا العامة شعوباً وحكومات هي أننا أصبحنا حائطاً قصيراً
يتجاوزه الأعداء ليفرضوا علينا ما يريدونه؛ وذلك لضعفنا ولانحرافنا عن الصراط
المستقيم؛ وحتى ولو أعيد عقد مؤتمر القمة من جديد في تونس أو غيرها فهل
ستقف دولنا الموقف الشجاع وتطرح النقاط الجوهرية التي تشكل همّاً أكبر للأمة مما
كان هو أملنا، أم تفرض علينا المشاريع التي أعدت لإذلالنا لتعود من جديد
الأسطوانة المشروخة من الشجب والتنديد والاستنكار مما لا يقدم في حال الأمة أو
يؤخر؟
وهنا مكن الخطر الذي لن يزيد أمتنا إلا الوهن وإلا الانهزامية أمام العدو
الصهيوني؛ فكم نحن بحاجة ماسة إلى دراسة متأنية لواقعنا ومعالجة أدوائنا برؤية
عقدية، والعمل الجاد لوحدة أمتنا، وتناسي خلافاتنا، وتجسير العلاقات بين علمائنا
ومفكرينا وحكوماتنا، وتفعيل دور الشعوب في مواجهة الأزمات الكبرى فإن شعوبنا
المسلمة مهمشة منذ عقود طويلة، ولم يؤخذ رأيها في كل ما يطرح ويفرض على
دولنا من أفكار ومشاريع مشبوهة؛ لأن الحكومات وحدها أضعف من أن تقف
وحدها في مواجهة دول الاستكبار العالمي حتى صار وضعنا النشاز فرصة سانحة
للفئات الضالة والاتجاهات العلمانية ليتبنوا وبكل صفاقة الطروحات الأجنبية، وأن
يدافعوا عنها بدعوى أنهم رموز إصلاح، وأنهم رواد ديمقراطية ونشطاء في حقوق
الإنسان بعامة ونصرة حقوق المرأة بخاصة.
والحقيقة أنهم يمثلون أدواراً مرسومة لهم درسوها في الغرب والشرق وشُجِّعوا
على تبنيها في الفرصة المناسبة، وهذه فرصتهم كما فعلها أضرابهم الذين دعوا دول
التحالف لغزو بلدهم بزعم تحريره من الحاكم الظالم المستبد؛ فإذا هم فريسة سهلة
للأعداء ويصبح التحرير احتلالاً. وها هو الشعب المغلوب على أمره يعيش مأساة
لا يحسد عليها، وهكذا يجلب أولئك لأوطانهم الدمار باسم التحرير، والتغريب باسم
التنوير؛ فهل نعي خطورة الواقع، وهل نوجه مأساتنا بالإصلاح الناجع، أم تحولنا
الانهزامية والخوف إلى التبعية والسقوط، ونعيش في بلداننا أذلة نسام سوء العذاب؟
فما أحوجنا حيال واقعنا الأليم إلى ردة فعل بمستوى الأحداث يشعر معها الأعداء
بخسران مشاريع السلام، وخسران تداعيات ما بعد السلام، وخسران حلفائهم
الاستراتيجيين آمالهم في ثروات المنطقة والاستثمار في أسواقها، وحينها لن تجرؤ
أمريكا أو غيرها أن تستفرد بدولنا، ولن يستطيع الصهاينة أن يكرروا عدوانهم
المستمر على إخواننا في فلسطين حين نكون يداً واحدة؛ كما دعانا الباري جل وعلا:
[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا] (آل عمران: ١٠٣) .
فما أحوجنا إلى الشجاعة الإيمانية والنخوة الإسلامية لنقول لأمريكا العنصرية
إن مصالحها مع دولنا وليس مع العدو الصهيوني، وإن الديمقراطية التي تدّعيها
وتدعو إليها هي أول من يناقضها ويدوس عليها علناً لمناصرتها لدولة عنصرية
ظالمة تسوم إخواننا الفلسطينيين سوء العذاب بالقتل والتدمير والمصادرة للأراضي،
وتجريف المزارع وسد المنافذ، والعزل العنصري، ثم إلى متى تبقى فضائياتنا
تشيع الفاحشة في الذين آمنوا وليس فيها قناة واحدة بلسان الغرب والشرق لتعرفهم
بقضايانا وتنورهم بحقوقنا المستباحة؟ فهل يعقل أنه في استطلاع بين العديد من
الأمريكيين أنهم كانوا يتوهمون أن الفلسطينيين هم المحتلون للأراضي، وأن
الصهاينة هم المطرودون والمضطهَدون؟ كيف تعرف الشعوب الغربية أن قتل
الشيخ ياسين ما كان ليتم لولا الضوء الأخضر من الإدارة الأمريكية حتى ولو
أنكرت ذلك ولا سيما أن مصادر غربية ذكرت مؤخراً أن اغتيال الشيخ ياسين كان
لرفضه صفقة مع واشنطن تسلب حماساً إرادتها السياسية والعسكرية كما نشرت ذلك
صحيفة الوطن في العدد (١٢٧٢) في ٢٤/٣/٢٠٠٤م، وكيف نوضح للعالم أن
هذه هي الديمقراطية الأمريكية تعني: إما أن نذل أو أن نُقتل؟ فإلى متى نبقى
معشرَ المسلمين أسرى لهذه العنجهية، وإلى متى نعطل طاقاتنا الفاعلة ومن أهمها
سلاح المقاطعة وهو ما لا يحتاج لأي جهد سوى قوة الإرادة وصدق التوكل على الله
[وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ] (الطلاق: ٣) ؟ .
ولا يفوتنا في هذه العجالة أن نعزي الأمة بوفاة ذلك القائد المجاهد، وأن نسأل
العلي القدير أن يلهم أهله وإخوانه الصبر والسلوان، وأن يخلفه في عقبه خيراً،
وأن يجعله الله مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين؛ كما يسرنا في الوقت
نفسه أن ننشر ملفاً عن الفقيد للتعريف به وبجهوده وجهاده وعواطف الأمة نحوه.
والله من وراء القصد.