للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

الأزمة الجزائرية: تدويل أم.. تمويل؟ !

قراءة في الملف الدامي للمأساة في عامها السادس

بقلم:حسن قطامش

دخلت الأزمة الجزائرية عامها السادس، ومع بداية هذا العام دخلت كذلك

منعطفاً جديداً مع إعلان الغرب الصليبي رأفته وشفقته على الشعب الجزائري المسلم؛ ... ولذا فقد قرر التدخل في الأزمة بشكل جدي للوقوف على أسباب العنف ومعرفة:

من القاتل الحقيقي؟ ! ! وذلك من خلال قيام وفد الترويكا الأوروبية، ووفد البرلمان

الأوروبي بزيارة الجزائر. وحتى نصل إلى مغزى هذه الدعوة المتأخرة سنقف قليلاً

عند بعض النقاط المهمة لتعيننا على فهم هذا الموقف الجديد للذئب الغربي، المساعد

لسلطة متسلطة أكثر من حدود العقل.

لقد أصبح من المقصود في الخطاب الإعلامي الرسمي أن نقتنع أن ما يحدث

في الجزائر ما هو إلا لغز يستعصي على الحل أو الفهم، ولا عجب أن نرى أناساً

كُثُراً تردد بأفواه فاغرة: ما الذي يحدث في الجزائر؟ !

إن أسوأ ما في هذه الأزمة والمأساة الرهيبة هو أن الإنسان المسلم في الجزائر

لم يعد يملك من مقومات الإنسانية سوى أنه (رقم) ينضم إلى أرقام أخرى، أو تنضم

هي إليه، نقرؤها كل يوم، نسمعها كل يوم، ونشاهد دماءها كل يوم، ثم تُقبر هذه

الأرقام كغيرها، وتجمع وتطرح بعد ضربها بالفؤوس ليستشهد بها كل من تحدث

عن تلك المأساة.

أوصل بعضهم هذه الأرقام إلى مئتي ألف قتيل، وهبط بها آخرون إلى أقل

من ذلك بقليل، إلا أن الإحصاء الرسمي الذي صدر مؤخراً ولأول مرة وعلى لسان

رئيس الحكومة الجزائرية (أحمد أويحيى) ذكر أن (الرقم الصحيح) هو ٢٦٥٦٣ فقط

لا غير! !

وعلى افتراض صحة الرقم الذي لم يوافق عليه الحكومةَ الجزائريةَ إلا

الحكومةُ الجزائريةُ نفسها؛ فهل يعني هذا أنه رقم قليل؟ ! أم أن هناك حسابات

أخرى تسمو فوق الإنسان المسلم الذي أُنزلت مكانته إلى أسفل سافلين؟

تناقضات الأزمة تفك طلاسمها:

ذكرتني هذه القصة السمجة، وهذا السؤال المكرور: (من القاتل) ؟ بما كنا

نطالعه صغاراً من الروايات البوليسية ك (رجل المستحيل) ، و (المخبر السري) ، ...

و (الشياطين الـ ١٣) ، ولكني وجدت أننا لو سرنا على خطى هذه الروايات فقد

نصل إلى معرفة (القاتل) من خلال طرح الأسئلة التالية والإجابة عنها:

١- لا يشك أحد أن الحكومة الجزائرية تمتلك جيشاً قوياً جداً عدداً وعدة

مقارنة بـ: العصابات المسلحة؛ وهذا الجيش هو صمام الأمان الداخلي والخارجي، فلا تدخل نملة كما يقال على سبيل التمثيل عبر الحدود إلا بإذنه، وقوام هذا

الجيش حسب الأرقام الرسمية ١٨٠ ألف جندي، أضف إلى هذا العدد ٢٠٠ ألف

رجل من المدنيين قد سلحتهم الحكومة للدفاع عن أنفسهم! ! فهل الجيش لا يستطيع

حماية المدنيين حتى يقوموا بهذا الواجب؟ وإن كان الأمر كذلك: فهل تلك

(العصابات) تفوق في عددها الربع مليون مسلح، وهي مجرد (عصابات) اللهم إلا

إن كانت الحكومة تعتبر أن بقية الشعب (عصابات) ؟ ! ثم من أين كل هذا العتاد

طيلة هذه السنوات مع أن (الجيش) يحرس الحدود!؟

٢- إذا كانت هذه القوات الحكومية غير قادرة على القضاء على هذه

العصابات، فلماذا على غرار قصص الأطفال لم يلفت نظر الحكومة أن هذه

العصابات تركز هجماتها على مناطق محددة، وهي غالباً: (البليدة ثلالة المدية)

وهي المناطق المؤيدة لجبهة الإنقاذ، فلماذا لا تصنع لهم حفراً كبيرة عند مدخل هذه

القرى وتغطيها بالأسلاك وأوراق الشجر، حتى إذا حضر الأشرار سقطوا فيها،

واستراح الناس منهم! ! ؟ خصوصاً أن هذه المناطق مليئة بالثكنات العسكرية

للجيش!

٣- لماذا لم تتمكن هذه العصابات من دخول مناطق البربر، أو الأحياء

الراقية في العاصمة الجزائرية؟ ولماذا لم تستطع الوصول إلى المنشآت الحيوية،

كمناطق الغاز والبترول التي تمد (الحكومة) بالطاقة والحياة! ! ؟

٤- لماذا وفرت الحكومة الأمن لكل الناس وقت الانتخابات الرئاسية والنيابية

والاستفتاء على الدستور حين أرادت ذلك؟

٥- لماذا زادت حدة الذبح بعد إطلاق الشيخ عباسي مدني وعبد القادر حشاني

مباشرة؟

٦- لماذا ازدادت وحشية المذابح وارتفعت مأساويتها في شهر رمضان على

الرغم من أن أشد الفئات المنسوبة إلى الإسلام تطرفاً لا يرون جواز انتهاك

الأعراض في هذا الشهر المبارك على الأقل؟

٧- أكدت الجبهة الإسلامية للإنقاذ في نشراتها، وأكد عدد كبير من الضباط

الفارين أن ما يسمى (الجماعة الإسلامية المسلحة بالجزائر) مخترقة من الجيش

بشكل كبير، وأنها صنيعة المخابرات، فلماذا تكون هذه الاتهامات هي الوحيدة التي

لم تضمها الحكومة إلى قائمة الاتهامات الموجهة للجماعة المذكورة! ؟

٨- في يوم الأربعاء ٢٣/٩/١٤١٨هـ الموافق ٢١/١/١٩٩٨م ألقى رئيس

الحكومة الجزائرية أحمد أويحيى خطاباً أمام المجلس الوطني تحدث فيه عن

(الإرهابيين) فقال: (تركوهم يخرجون ويذهبون إلى أفغانستان، ليتدربوا ويعودوا

إلى الجزائر من دون أن يمسهم أحد) اهـ

السؤال: من يقصد بضمير الجمع في قوله (تركوهم) .. من هم! ؟ ولماذا لم

يصرح بهم حقيقة ولماذا لا يكشفون؟

٩- لماذا ترحب الحكومة الجزائرية وتهلل وتستبشر بكل من يبرئها من

ارتكاب (المذابح) وترفض وترغي وتزبد وتتهم كل من تلفظ بكلمة اتهام لها بالقيام

بـ (المذابح) باعتباره تدخلاً في الشؤون الداخلية، على الرغم من أن الحديث واحد

عن: (المذابح) ! ؟

١٠- في يناير ١٩٩٥م وقّعت كل الأحزاب الجزائرية على ميثاق (سانت

إيجيديو) في روما، وقدمت الجبهة الإسلامية للإنقاذ تنازلات مهمة، حيث تنازلت

عن العودة إلى الوضع الذي أسفرت عنه انتخابات ١٩٩١م، كما تنازلت عن حقها

بأنها تمثل الحكومة الشرعية في الجزائر، والتزمت بأن تتحول إلى معارضة سلمية

كبقية الأحزاب مع اشتراط عدم تدخل الجيش في الشؤون السياسية، فرفضت

الحكومة الجزائرية هذا الميثاق.

فلماذا رفضت الحكومة هذا الإجماع، وقبلت التدخلات الأوروبية! ؟

من يتمكن من الإجابة على هذه الأسئلة فسيعرف قطعاً: (من القاتل) .

موقف (الإنقاذ) من المذابح:

لعل أشد المذابح الأخيرة وحشية حتى كتابة هذه السطور هي مذبحة (غليزان)

وهي إحدى الولايات التي أعطت أصواتها لمرشحي جبهة الإنقاذ في الانتخابات

المحلية والنيابية، واتهمت الإنقاذ ما يسمى ب: (الجماعة الإسلامية المسلحة) وجاء

بعد تفاصيل الاتهام الذي أوردته نشرة (الرباط) التي نقلتها جريدة الخليج الإماراتية

في العدد ٦٨٢٢/٢٤/٩/١٤١٨هـ: (إننا نعلن هذه المعلومات للملأ، لكي يعرف

المسلمون سبب مذابح (غليزان) إننا نعارض النظام ونخاصمه، لكنّ هناك فرقاً بين

معارضة النظام والدفاع عن الإجرام) .

الشرعية المرقعة:

إن من أهم المسلّمات الضرورية التي ينبغي لأي نظام حكم أن يوفرها لشعبه، هو الأمن، لامتلاكه وسائل توفيره من عتاد وجنود ومال وموارد، وقد امتلك

النظام الجزائري كل هذه المقومات لفرض الأمن، إلا أن الرعب والخوف والفزع

هو الذي ساد، وهذه الحالة لا تُخرِج النظام عن إحدى حالتين:

الأولى: أنه على علم ورضى بما يحدث ولن نقول إنه مشارك فهو غير

شرعي لعدم قدرته على فرض أهم الضروريات الإنسانية لشعبه.

الثانية: أنه عاجز عن مواجهة ما يحدث، فهو غير مناسب؛ لأنه يمتلك

أسباب القوة ويعجز عن توظيفها لأمن الناس.

أضف إلى ذلك أن هذا النظام جاء (بانقلاب ديمقراطي) للمحافظة على

الديمقراطية وإضفاء الشرعية المرقعة التي تمت بالشكل الآتي:

بعد إلغاء الانتخابات وإقالة الشاذلي بن جديد، جيء بالتيس المستعار،

(بوضياف) ، ولكن ما أن بدأت قرونه في الظهور حتى قطعوا رأسه، ثم جاؤوا بـ

(الأمين زروال) ، وخطط مع من يخططون لإضفاء الشرعية على النظام، فأعلن

أنه سيُجري انتخابات رئاسية (حرة وديمقراطية) وفاز فيها زروال بـ (٦١%) ،

وعقب الفوز دُعيت القوى السياسية في الجزائر باستثناء جبهة الإنقاذ لمناقشة

الوضع في الجزائر ومستقبلها، وخلال عام ١٩٩٦م طلب الرئيس إجراء تعديلات

دستورية لإعادة تشكيل البرلمان، وكان الهدف الواضح من تلك التعديلات هو

الحيلولة دون حصول أي حزب إسلامي على قوة شبيهة بالتي حصلت عليها الجبهة

الإسلامية للإنقاذ.

وقام الجزائريون بالتصويت على تلك التعديلات في نوفمبر ١٩٩٦م وتبعاً

لحكومة الرئيس فإن أكثر من ٨٥% من المقترعين كما ادّعيَ أعطوا موافقتهم، وقد

رفض العديد من الجزائريين تصديق هذه النتائج لملاحظتهم أن مراكز التصويت

كانت خالية! !

وفي عام ١٩٩٧م أجريت انتخابات أخرى، وكانت هذه المرة برلمانية، غير

أنه لم يكن مفاجئاً أن يفوز حزب الرئيس (المنتخب) بغالبية المقاعد.

الموقف العربي:

لقد جاء الموقف العربي الرسمي من مأساة الجزائر ليضع هماً ثانياً على كاهل

الشعب المسلم الذي لم يرَ منه نجدة ولا شهامة كالتي رأوها حين أوشكت الحيوانات

على الموت في حدائق لندن، أو حتى من تلك الجمعيات العربية التي تنادي بالحفاظ

على حياة حيوان (الباندا) في الصين أو النمر البنغالي في بنجلاديش، مع أن

المسلمين في الصين يذبحون، وفي بنجلاديش يموتون جوعاً وبرداً! !

وقد أحسن الخبير في شؤون شمال أفريقيا بالأمم المتحدة، محمد محاميدو في

المقال الذي كتبه في صحيفة لوموند الفرنسية، ونشرته صحيفة الأنباء الكويتية في

عدد/٧٧٢٥/١٨/١١/١٩٩٧، حيث قال: لقد غاب العالم العربي بشكل يدعو إلى

الدهشة والفضول عن المناظرة الدائرة حول مأساة الجزائر، رغم أن العالم يشعر

بالتعاطف الشديد مع الشعب الجزائري المسكين.

لقد أصبح المصير الجزائري في ثنايا عقل وضمير الجميع ما عدا العالم

العربي؛ حيث ساد اعتقاد متعمد عن غباء، مفاده: أنه لا داعي لإثارة الطبيعة

الراديكالية للأحداث في الجزائر، فمن نواكشوط حتى بغداد يرثي العرب بألم حال

الجزائر التي تُحتَضر ... ، إنه جو من الحيرة والتردد والتكتم والتناقضات تنبع

أساساً من الخوف من (الأصولية) . والحقيقة أن المأساة الحالية التي تعيشها الجزائر

تقض مضاجع الغرب.

لقد أصبح العالم العربي آثماً لتستره على ما يجري في الجزائر، ومن ثم

تواطؤه مع طغمة عسكرية، ولا يمكن تفسير جو اللامبالاة المحيط بهذا الوضع في

الجزائر على أنه يتم بدافع الخوف من انتشار عدوى (الأصولية الإسلامية) .

ونتساءل بكل مرارة: لماذا أقيمت المؤتمرات، وعُقدت الندوات لإنهاء اللبننة

والصوملة حتى وجدت حلاً، وبقيت النماذج التي يتعمد الإساءة فيها للنموذج

الإسلامي كأفغانستان والجزائر! ؟ إذا عرفت الإجابة على هذا السؤال، فستعرف

كذلك: من القاتل الثاني لشعب الجزائر.

أليس من المؤسف أن جامعة الدول العربية وأمينها العام لم يتقدموا حتى الآن

إلا برسائل تضامنية تأييدية للحكومة الجزائرية؟!!

ثم تأتي ثالثة الأثافي من تلك النخب المثقفة من الإعلاميين والكتاب ورؤساء

منظمات حقوق الإنسان العربية، الذين طالما سوّدوا صحائفهم بمداد قلوبهم الأشد

سواداً محذرين من خطورة كارثة ستحل بالجزائر إذا حكم الإسلام، ومنهم من

واصل الكتابة ليلاً ونهاراً يحذر ويحذر حتى انجلت (الغمة الأصولية) ثم جاءت

المذابح، فواصلوا إلصاقها (بالأصولية) حتى أسكت الله أفواههم بما تواتر من

تقارير إعلامية وليست رسمية غربية تثبت غير ما يثبتون، وعلى غير عادة القوم، لم يسارعوا إلى المصادر الغربية لمجاراتها فيما تقول، بل اكتفوا بفتح ملفات عن

فضائح كلينتون الجنسية وأشباهها!

إن أولئك يصدق فيهم قول الله تعالى في اليهود والنصارى وغيرهم: [وَإذْ

أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ

وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ] [آل عمران: ١٨٧] .

قال الشيخ السعدي: كتموا الحق وأظهروا الباطل وتجرؤوا على محارم الله

وتهاونوا بحقوقه تعالى وحقوق الخلق، واشتروا بذلك الكتمان ثمناً قليلاً، وهو ما

حصل لهم إن حصل من بعض الرياسات والأموال الحقيرة من سفلتهم المتبعين

أهواءهم المقدمين شهواتهم على الحق [١] .

بئس الوفد الموفود:

لا نعتبر مسألة التدخل في الجزائر سوى حلقة من تلك السلسلة الحديدية التي

أحاطنا بها الغرب الصليبي، وهي كحلقات السحرة، يُسمعوننا كل يوم رنين إحداها، مما يختلف عن سابقتها ولاحقتها، وفي أسوأ الأحوال، فإنها أفضل من ذلك

الصندوق الحديدي العربي المصمت الذي ليس له إلا صوت واحد، وكان أول

الغيث الغربي زيارة وفد الترويكا الأوروبية في رمضان ثم تبعته زيارة وفد البرلمان

الأوروبي في شوال ١٤١٨هـ. وقبل التطرق لأهداف الزيارة ونتائجها نستعرض

مواقف الدول الغربية قبل تلك الزيارة بأيام قليلة ثم نتبعه بالموقف الجزائري منها:

١- وزير الخارجية الفرنسي، هوبير فيدرين: (إن المعلومات التي جمعها

الأوروبيون لا تتوافق مع فكرة تورط الجيش الجزائري في المذابح التي تعرض لها

المدنيون) .

٢- روبن كوك، وزير الخارجية البريطاني، وأمام النواب الأوروبيين في

ستراسبورغ: (لا وجود لأي دليل يثبت ضلوع السلطات الأمنية في المجازر) .

٣- أما نويل مارين، مفوّض الشؤون المتوسطية في المفوضية الأوروبية فقد

أكد اقتناعه بعدم ضلوع الحكومة الجزائرية في المذابح الأخيرة [٢] .

٤- رونالد نيومان، السفير الأمريكي السابق في الجزائر وعقب لقائه

بالرئيس الجزائري قال: إن حكومة الولايات المتحدة وأنا بصفة شخصية نتمنى

للرئيس زروال أن يحقق النجاح في مساعيه للسير قُدُماً في الطريق الذي اختاره

علانية.

٥- روبرت بلليترو، مساعد وزير الخارجية السابق لشؤون الشرق الأوسط:

إن الولايات المتحدة لا تضع الأزمة الجزائرية ضمن أولياتها، وليس لديها أي نية

للتدخل بشكل مباشر، إن هذه الأزمة تخص فرنسا قبل كل شيء [٣] .

إن كان هذا هو الموقف الغربي قبل الزيارة الأولى وبعدها، وهو في حد ذاته

إعلان مسبق عن نتائج زيارة تقصي الحقائق: فلماذا إذن إيفاد الوفود، وإرهاق

المسؤولين! ؟

قبل الإجابة، لا بد أن نطلع على المشهد الجزائري في هذه المسرحية حتى

نتمكن من الدعاء بإخلاص لشعب الجزائر، فقد انحصرت مفردات الخطاب

الحكومي المهاجمة للزيارة في الآتي:

أ - إن الاتحاد الأوروبي يوفر الملجأ للإرهابيين، ويجعل من أراضيه قاعدة

خلفية لدعم وتمويل الإرهاب الدولي.

ب - إن أوروبا تريد مهما كان الثمن التدخل في شؤوننا الداخلية؛ لأنها لا

تفهم الشفافية إلا من خلال وجود مراقبين أجانب على أرضنا.

ج - إنها ستكون مهزلة سيئة، وحوار طرشان.

لقد أوصل هذا الاستئساد الإعلامي وزير خارجية فرنسا إلى القول الأكثر

تضليلاً: يجب أن لا نهمل فكرة أن الترويكا تمكنت من زيارة الجزائر! ! ثم تبعه

رئيس الوفد الأوروبي أندريه سولييه بقوله: للمرة الأولى طرحت أسئلة متعلقة

بالمفقودين والتعذيب والإرهاب! ! بل لقد زايد هذا مزايدة إعلامية فجة، عندما قام

بتمزيق الرسالة التي أرسلتها جبهة الإنقاذ، دون أن يفُضها أمام كاميرات الإعلام،

قائلاً: إننا لن نتعامل مع أحزاب محظورة.

وبعد كل هذه الملاطفة الغربية، وكل هذه العنترية الحكومية كانت نتائج هذه

الزيارة الأوروبية ما يلي:

*أُعلن أن الزيارات لتقصي الحقائق والتحقيق في أسباب العنف وزيارة مواقع

المذابح، ومقابلة عامة الناس والاستماع إليهم مباشرة، وهذا كله لم يتم منه شيء،

فلم تقم الوفود إلا بزيارة الأحياء الجميلة في العاصمة، ولم يقابل إلا كبار المسؤولين، ولم يستمع لأحد سواهم!

*أُعلن أن الزيارات تأتي لمساعدة (الشعب الجزائري) للخروج من محنته،

ولكن الزيارات جاءت لتُخرج (النظام الجزائري) من أزمته بإعطائه صك غفران

وبراءة رسمية مما ينسب إليه، فقد صرح رئيس الوفد الأوروبي قائلاً: إن الوفد لم

يجد ما يدعم الاتهامات القائلة بتورط قوات الأمن الجزائرية في المذابح الأخيرة،

وإن على من يتهمون الجيش وأجهزة الأمن السري في الجزائر بالوقوف وراء

عمليات القتل أن يقدموا أدلة على ذلك! !

*إمداد النظام الجزائري بما يحتاج إليه من مساعدات لمواجهة (الإرهاب

الإسلامي) فما دام النظام بريئاً فإن غيره متهم، وهو بحاجة إلى مساعدة لإيقاف هذا

المتهم ووقف هذا العنف. وجاء هذا الدعم هذه المرة علانية بصورة فجة، ولكنه

مستند إلى واقع زيارة تقصي الحقائق! !

شنشنة معروفة:

لعله قد اتضح من عرض هذه المشاهد من المأساة الجزائرية مدى التآمر

المزدوج على الشعب المسلم، ونختم هنا ببعض الإشارات التي توضح جلياً ما قلناه:

*الأولى: وهو ما نؤكد عليه دوماً وأبداً في صراعنا مع الغرب أنه صراع

عقدي، مهما تلوّن الصراع بالإنسانية أو القومية أو المتوسطية، والغرب لا يحركه

في المقام الأول إلا العقيدة؛ وهذا ما لمسناه في مواقفه الظالمة من مأساة البوسنة

والهرسك.

*الثانية: وهي دائماً تأتي ثانية ونقصد بها المصلحة الغربية وطمعه في

خيرات المسلمين، فلماذا كل هذه الثورة أمام طغيان النظام العراقي، والتسامح مع

الطغيان الجزائري؟ لماذا قدمت بريطانيا هدية قيِّمة بقيمة ٦٣ مليون جنيه استرليني

تمثلت بأسلحة ومعدات عسكرية للحكومة الجزائرية، مما جعل أحد النواب في

البرلمان العمالي (بول فلين) يقول: (نحن نبدو وكأننا نزود هؤلاء القتلة بالأسلحة

على حساب الشعب) أم أن هذه الهدية عربون من أجل حماية خط النفط والغاز الذي

سيمتد من الجزائر إلى بريطانيا، وستقوم على تنفيذه شركة (بريتين بتروليوم) بكلفة

بليوني جنيه استرليني؟ !

*الثالثة: الصراع الغربي الغربي على هذه المصالح؛ فأمريكا ترفض التدخل

لاعتبار أعلنه أحد تقارير السفارة الأمريكية في الجزائر، وهو أن الجزائر لم تحدد

هويتها! ! وتقصد بالهوية، المعسكر الذي تبيت فيه، فهل تسير في اتجاه العالم

الفرانكفوني، أم العربي الإسلامي، أم أمريكا! ! ؟ ولذلك فقد تركت الملف برمته

لفرنسا؛ لأنه يخصها، ليس حباً في فرنسا، ولكنها تعلم أن فرنسا ستعجز عن

الحل، وهذا العجز سيأتي بمصلحة مزدوجة لأمريكا من ناحيتين:

أولاهما: استمرار الأزمة الجزائرية التي يستمر معها التشويه المتعمد للإسلام، ... وهذا هو الأهم.

ثانيهما: تأديب الدول الدائرة في الفلك الفرنسي حتى الآن، نائية بنفسها عن

القطب الوحيد في العالم.

*الرابعة: أن التدخل الغربي لا يكون إلا في حالات محددة معروفة وهي:

١- إذا لاحت تباشير نصر للمسلمين؛ وهو ما حدث في البوسنة.

٢- إذا تأثرت مصالح الغرب بصورة مباشرة؛ وهو كما حدث في حرب

الخليج.

٣- إذا هُدد الأمن الداخلي له وانتقل الصراع إليه؛ كما حدث مع فرنسا في

التفجيرات التي حصلت في مدن عدة، وكالخوف من المخاطر التي يسببها تزايد

أعداد المهاجرين.

٤- استنفاد أسباب التدخل لمساعدة نظم موالية، مع جلاء جرمها ووضوحه،

فيأتي الدور الإعلامي الغربي ليضغط بكشف بعض (الحقائق) ، فيتدخل لتقصي

(الحقائق) والأهداف معروفة.

وعلى الرغم من كل هذا التواطؤ؛ فأملنا في العزيز القهار أن يرفع الظلم عن

هذا الشعب المسلم، وما زلنا وسنظل نردد قوله تعالى: [كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا

وَرُسُلِي إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ] [المجادلة: ٢١] .


(١) تفسير السعدي، ج١، ص ٣٠٢.
(٢) الحياة، ع/ ١٢٧٣٩، ١٩/٩/١٤١٨هـ.
(٣) الأنباء، ع/ ٧٧٩٢، ٢٦/٩/١٤١٨هـ.