هموم ثقافية
[نحن ولغتنا العربية]
إبراهيم داود
سألني أَحَدُ الطلبة يوماً في ضيقٍ واستهجان: لِمَ يُجعَلُ للعربية في جدول
الدراسة كُلّ هذه الحصص، وهي ليست اللغة الأولى بين اللغات ولا الثانية، ولا
حتى الثالثة؟ ! وذكرتُ وأنا أحاول تفهيمه وتوعيته موقفاً للعقاد رحمه الله، فقد
سأله سائل مرةً: لِمَ تكتب؟ ! فقال: كان الأولى أن تسألني: لِمَ تعيش؟ فإنما
الحياة تعبيران: تعبيرٌ تتلقاه عن الآخرين، وتعبير يتلقاه عنك الآخرون.. كذلك
الحياة عند العقاد، وعندي أن مَن يُنكر اهتمامنا بالعربية كمن ينكر علينا كوننا
مسلمين، سيّان!
إن القرآن كما نصّت آيات عديدة عربي اللسان، والقرآن هو مصدر تشريعنا
نحن المسلمين ومنهاج حياتنا، وميزان ديننا ودنيانا وآخرتنا فكيف لا تكون العربية
التي أُنزل بها من أكبر همومنا، وملء السمع منّا والبصر والفؤاد؟ !
لقد كّرم الله تعالى هذه اللغة العربية؛ إذ أنزل كتابه الكريم بها على رجل من
أهلها -صلى الله عليه وسلم-، وكرّمها إذ حفِِظَها بحفظ ذلك الكتاب العظيم، وهذا
التكريم قطعي الدلالة على أنها خير اللغات، وما انحسار ظلها في هذا الزمن
وضيق انتشارها إلا دليل على ضعف أهلها في تعلمها وتعليمها، وتلك حقيقة لا
سبيل إلى جحدها أو المماراة فيها، وإلا فإن الإسلام الذي حكم العالم قروناً مديدة قد
نُحّيَ هو الآخر في هذا العصر الكئيب عن موقع القيادة والسلطان، أفيُحملُ الإسلام
وهو دين الله الخاتم وكلمته العليا وزر انتكاسنا وارتكاسنا؟ ! أم من يحمل ذلك
الوزر الثقيل غيرنا نحن المسلمين؟ !
إن اللسان العربي شعار الإسلام ولغة القرآن وأهله كما يقول ابن تيمية رحمه
الله تعالى وإن اللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون، لكن العربية هي
وحدها لغة الدين، وأيّ دين؟ إنه الإسلام الذي أكمله الله وارتضاه «ومن يبتغ غير
الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين» . [١] ولقد استفاد العدو
من الصراع الممتد بيننا وبينه، فعلم أن المسلمين يرون في القرآن العظيم منهاج
حياتهم، وقوام وجودهم وتفوقهم، وأنهم يجعلونه فوق شُبهات العقول وشهوات
الأنفس، وأن لا سبيل لهم إلى العلم بالقرآن والعمل به: إلا من طريق اللغة،
وبذلك أدرك العدو أن اقتحام حصون المسلمين إنما يتحقق بتخريب لغتهم، وتشويه
صورتها في عيونهم وعقولهم، وأن من شأن ذلك أن يضمن له الفوز عليهم بأقل
الخسائر وأرخص التكاليف، ولا شك في أن البحث عن أسباب الضعف في التعبير
اللغوي من دون إدراك هذه الحقيقة إنما هو بحث عقيم لا يفضي إلا إلى مزيد من
التخبط والضلال.
إن الأمة التي يضعف تأثيرها في حركة الحياة يدبّ الضعف في أطرافها
جميعاً، ويسري الوهن في روحها كلّه، فليس الضعف اللغوي إلا مظهراً من
مظاهر التخلف الكثيرة في هذه الأمة المغلوبة، وليس من ريب في أن معرفة الداء
الذي أركس الأمة وهو انحرافها عن منهج الله هو الخطوة الأولى على طريق شفائها، وما شفاؤها إلا في فرارها إلى ربها القادر، حتى يُعيد لها الكَرّة الأولى على
عدوّها، فتعود كما كانت خير أمة أُخرجت للناس، ويومئذٍ تعزّ لغتها كما عزّت من
قبل، ويصلح آخر أمرها كما صلح أوله، وتتوقف معاناة أبنائها من كيد أعدائهم لهم، ومكرهم بهم، إذ يأمرونهم أن يكفروا بالله ربهم، وأن يرضوا بأن يصبح الإسلام
ويُمسي غريباً بينهم، يحيا في نفوس أشتاتٍ منهم مستضعفين، تُكال لهم التهم،
وتستباح دماؤهم وأموالهم إذا هم خرجوا به عن حدود الشعائر التعبدية في المساجد
والبيوت.
ولقد كان من أكبر الكيد لنا أن يزعم أعداؤنا أن نجاحاتهم الكبيرة في ميادين
العلم مستفيدين من سنن الله الكونية في تسخير ما في الأرض جميعاً لبني آدم أنها
إنما كانت نتيجة فصلهم بين الدين والدنيا، وأن يربطوا بمكرٍ تزول منه الجبال بين
نهضتهم وكفرهم من جهة وبين تخلّف المسلمين وإسلامهم من جهة أخرى، مع أنهم
كانوا في الماضي كفاراً وكانوا أشدّ تخلفا وكان المسلمون مسلمين حقاً، وكانت لهم
السيادة والقيادة والتمكين في الأرض، على أن العدو قد نجح في كيده إلى حد كبير، وانظر بعضاً من أبناء المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها مفتونين بالغرب،
خواضين في مستنقعات تقليده، مطموسي الأبصار والبصائر، يصبحون ويُمسون
وهم يرون في الغرب قدوةً وإماماً! حتى إذا قال واحد ممن يُسَمّون علماء التربية
الحديثة: إن الطفل لا يصح أن يُلقّن شيئاً لا يدرك معناه، قالوا: لا ينبغي إذاً أن
يُحَفّظَ شيئاً من القرآن حتى يبلغ سن الرشد، وهم يعلمون أن ما من دولة من دول
العالم إلا ويحفظ أطفالها من الأناشيد ما لا يدركون معناه، ويعلمون أن آباءنا
وأجدادنا كانوا يبدؤون في طفولتهم الغضّة بحفظ القرآن، وكانوا خيراً منّا في
تفكيرهم وتعبيرهم مِراراً كثيرة.. وإن قال قائل من فلاسفة التربية الحديثة: إن
الفنون الأدبية ينبغي أن تكون حيّة واقعية، آثر غير قليل من أصحابنا كتّاب هذه
الفنون أن يجعلوها بالعاميّة أو يجعلوا الحوار فيها كذلك وذلك عندهم أضعف
الإيمان! ، وكذلك أصبح إعلاميّونا ومعلمونا مغرمين بالعامية حتى إذا حمل أحدهم نفسه على ما تكره، وحمّلها ما لا تطيق تكلّف الفصحى على استحياءٍ تكلّفاً، وجاء بها معجمة غير مُعرَبة!
إن أعداء الإسلام هم الذين هوّنوا من شأن هذه اللغة، وأرجعوا إليها كل
ضعف في مستوى الثقافة والتحصيل العلمي، ودعوا إلى العامية تارة وإلى اللاتينية
أخرى، ومعروف أن أول كتاب دعا إلى استعمال العامية كتبه قاضٍ إنجليزي في
مصر عام ١٩٠٢ م اسمه (ولمور) سمّاه (لغة القاهرة) وضع فيه قواعد تلك اللهجة،
واقترح اتخاذها لغة للعلم والأدب جميعاً، كما اقترح كتابتها بالأحرف اللاتينية، ثم
كأنما بصق القاضي الإنجليزي المذكور في فم إنجليزي آخر كان مهندساً للريّ في
مصر هو (وليم ولكوكس) الذي قام ينعق بهجر العربية سنة ١٩٢٦ م، ويترجم
أجزاء من الإنجيل إلى ما سمّاه «اللغة المصرية» ، فيقوم على إثر ذلك الصليبي
(سلامة موسى) فلا يستحيي أن ينوه بالكاتب والكتاب، وأن يدعو بدوره في كتاب
سمّاه (البلاغة العصرية واللغة العربية) إلى لغة أخرى غير الفصحى، لغة جديدة!
تمتزج فيها الفصحى بالعامية؛ ليكون عندنا بزعمه لغة واحدة للكتابة والكلام.. ومع
الأيام يُقيّضُ لهذه الفكرة الخبيثة من شياطين الإنس دعاةٌ آخرون مخلصون كفخري
البارودي الذي تولّى في دمشق إصدار صحيفة أسبوعية باللهجة العامية وكسعيد عقل
في لبنان، وآخرون من خريجي الجامعة الأمريكية ببيروت، التي كانت وماتزال
معقلاً من معاقل الغزو الثقافي الذي اقتحم على المسلمين مجتمعاتهم وبيوتهم حتى لم
ينج من عقابيله أحد، ومَن مِن أبناء المسلمين إلا من رحم الله وقليل ما هم عُوفي
من أخطار الفن والرياضة، وأخبار الأزياء (والموضة) وشرور (الفيديو
والتلفزيون) ؟ !
وأما بعد فما السبيل؟ السبيل أن ترجع هذه الأمة إلى ربها، وتسترجع
شخصيتها وتستعيد سلطانها وهيبتها، وتُعيد النظر من ثمّ في أوضاع لغتها، مناهج
وكتباً ومعلمين ومتعلمين، عندئذ، وعندما يؤدي الإعلام أمانته، وعندما يُعدّ اللحن
في اللغة كما عدّه أسلافنا العظام في جملة العيوب والذنوب، وعندما يحرص كل
مسلم أن يكون قوياً أميناً.. عندئذ تكون أمتنا قد عرفت الداء والدواء، فمشت على
طريق العافية. يروى أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى الأشعريّ:
«إنّ كاتبك الذي كتب إليّ لحَنَ لحناً فاضربه سوطاً» ، أو لسنا أحوج من الصحابة في عهد عمر إلى مثل تحرّيه رضي الله عنه؟ ! ليس في ضرب الكُتّاب ولكن في اختيار المجيدين وأهل البيان والمتخصصين في مجالاتهم ليؤدوا أدوارهم المطلوبة حتى لا تخرج علينا دعاوى إنهزامية من ذلك القبيل.
(١) سورة آل عمران: ٨٥.