المسلمون والعالم
[باكستان إلى أين؟]
عبد الغفار عزيز [*]
ينص الدستور الباكستاني على أن اسم الدولة هو: «جمهورية باكستان
الإسلامية» ليس هذا فحسب؛ بل ينص في مقدمته على أن: «الله هو الحاكم
المطلق لهذا الكون، ولا شريك له في ذلك، وأن حق السلطة وصلاحياتها الذي
حصل عليه شعب باكستان أمانة مقدسة لديه» . وأن: «شعب باكستان يرغب في
تشكيل نظام تستخدم فيه الدولة صلاحياتها وسلطاتها عبر ممثلي الشعب المنتخبين
لتسود فيه مبادئ الديمقراطية والحرية والمساواة والتسامح والعدل الاجتماعي،
ويهيأ فيه المسلمون لأن يعيشوا حياتهم الفردية والجماعية وفق التعاليم والمقتضيات
الإسلامية كما حددها القرآن والسنة» .
ثم ينص الدستور في بند ٢٢٧ على أن «جميع قوانين الدولة تسن وفق
الأحكام الإسلامية، ولا يمكن سن أي قانون يتنافى مع هذه الأحكام» .
وفي بند ٢٢٨ ينص الدستور على تشكيل مجلس يسمى «مجلس الفكر
الإسلامي» يعينه رئيس الدولة ووظيفته أن يقدم توصياته إلى البرلمان المركزي
والبرلمانات الإقليمية حتى تصبح الحياة الفردية والجماعية لمسلمي باكستان وفق
مبادئ القرآن والسنة تماماً، وصفة المجلس صفة دستورية رسمية.
المجلس المشار إليه يعمل منذ عام ١٩٧٣م، وتمكن أعضاؤه العلماء والقضاة
من إعداد توصيات شاملة لأسلمة جميع مجالات الحياة، ولا تفتقر إلا لإرادة الحكام
وقوتهم التنفيذية لتصبح باكستان دولة إسلامية مثالية يضرب بها المثل، وتتخلص
من جميع التخلف والرجعية والإرهاب التي يزعم الرئيس برويز مشرف أنه
بخطواته الأخيرة سوف يتخلص منها، ويجعل من باكستان دولة متقدمة.
جاء خطاب الرئيس الشهير وخطواته التاريخية في خضم الصراع والتوتر
بين باكستان والهند، وبعد انتظار وضجة إعلامية كبيرة، وقال عنه رئيس
الوزراء البريطاني قبل خمسة أيام من بثه: «إن الخطاب سوف يغير مجرى
التاريخ الباكستاني» . ودعت الإدارة الأمريكية مخاطبة الحكومة الهندية أن «تلتزم
الصبر والتأني وتنتظر كلمة الرئيس التي ستجد الهند فيها ما يخفف من قلقها»
وقال المسؤولون في إدارة بوش: «إننا على علم بما يأتي في خطاب الرئيس
وعلى اتصال دائم به» . ثم كان الخطاب وكان ذا شقين: الجانب الكبير منه كان
حول الأوضاع والسياسات الداخلية، والآخر كان حول قضية كشمير والوضع
العسكري المتأزم.
أما القضية الكشميرية فكان الموقف منها سليماً ومبنياً على المبادئ والذي
أكسب الرئيس نوعاً من التعاطف الشعبي الذي استغله الرئيس أو أوجده لتمرير ما
يريده من التغييرات الداخلية. هذا الجانب كان منصبّاً على «التزمت» الديني
وعلى «الإرهاب» باسم الجهاد والمدارس الدينية التي لا تنتج إلا
«المطاوعة» ، و «أئمة المساجد» ، يخطبون في الناس وأوداجهم منتفخة
(حسب وصف الرئيس) وعلى أننا نحتاج إلى «الجهاد الأكبر» والانصراف
عن الجهاد «الأصغر» وعلينا بأنفسنا أولاً، نبني دولتنا وننمي اقتصادنا ولا
«نحشر أنوفنا» في قضايا العالم الإسلامي كله.
ثم شرع بإعلان الخطوات الهامة التي سوف تضمن التنمية للبلاد حسب اعتقاد
الرئيس، وأهم هذه الخطوات هي:
* تسجيل المساجد والمدارس في مدة أقصاها نهاية شهر آذار مارس القادم.
* إدخال التعديلات في مناهج المدارس الدينية.
* حظر خمس منظمات: اثنتان منها جهادية وهما: جنود طيبة (السلفية)
وجيش محمد (الديوبندية سنة) ، وثلاثة منها شبه سياسية هي: جيش الصحابة
(سنية ديوبندية) الحركة الجعفرية (شيعية) وحركة تنفيذ الشريعة (حركة ناشئة
في المنطقة القبلية من ولاية الحدود الشمالية والتي ذهب زعيمها وآلاف من أتباعها
إلى داخل أفغانستان لدعم حركة الطالبان أثناء الهجوم الأمريكي وقتل منها حوالي
ألف شخص) .
* عدم إثارة الناس أو حثهم على دعم الجهاد أو المشاركة فيه.
* عدم جمع التبرعات لصالح الجهاد.
* عدم استخدام مكبرات الصوت إلا للأذان أو خطبة الجمعة.
* تسجيل الطلبة والأساتذة الأجانب قبل ٢٣ من (آذار) مارس المقبل بعد
الحصول على شهادة «لا مانع» من سفارات دولهم ومن الداخلية الباكستانية، وإلا
فسوف يطردونهم بعد ذلك.
لو كان هذا الخطاب وهذه الخطوات قبل أحداث ١١ سبتمبر لكان له وقع آخر
وتأثير مختلف، ولكن لأنه يأتي بعد تلك الأحداث، ويسبقه اهتمام بالغ من
الحكومات الغربية وتتبعه إشادة وتشجيع وتصفيقات دولية متتالية تثير عديداً من
الاستفسارات حوله فالناس مستغربون بين هذا الربط بين القضية الكشميرية والتوتر
العسكري بين الهند وباكستان وبين التشديد على المدارس والمساجد الدينية مع
الإصرار على أنه ليس هناك أي ضغط خارجي علينا في هذا الصدد!
توقعت الحكومة الباكستانية أن هذه الإعلانات أو هذه الاستجابة للمطالب
الأمريكية الهندية المشتركة سوف تخفف علينا من الضغوط العسكرية التي تسببها
الحشودات الهندية، ولكن دون جدوى، بل زادت لهجة الخطاب الهندي حدة
وضراوة، وتجاوزت التهديدات العسكرية من حشود القوات إلى تجارب جديدة
للصواريخ البالستية القابلة لحمل الرؤوس النووية، وبدأت الحكومة الهندية تعد
قوائم جديدة للمطلوبين لديها واللاجئين (حسب زعمها) إلى باكستان، تحت رعاية
رسمية من الوكالات الاستخباراتية. ولم تجن باكستان من وراء هذه التنازلات
سوى كلمات مدح عقيمة من الإدارة الأمريكية وإشادة الرئيس بوش بخطوات
الجنرال برويز مع المطالبة بمزيد من الخطوات العملية «لقمع الإرهاب
والإرهابيين» وتصريحات السفيرة الأمريكية لدى إسلام آباد بأننا قد أعددنا خطة
بعيدة المدى «لتنمية» باكستان، وأننا لن نتخلى عن «صداقة» باكستان، وأن
أولوياتنا في باكستان هي المساعدة على تصحيح مسار التعليم ودعم القطاع النسوي
حتى يحصل على حقوقه وتوفير الخدمات الصحية.
وفي الجانب الآخر استفادت الهند من حظر الأحزاب الدينية، ووجدت مادة
سياسية ودبلوماسية وإعلامية دسمة لدعم هجومها ضد «الإرهاب الباكستاني» في
الهند وفي كشمير، وقالت إن الجنرال برويز قد اعترف بنفسه بأن هذه المنظمات
منظمات إرهابية بعد أن كان ينفي ذلك، كما استغلت الهند خطاب الجنرال
وخطواته لكسب مزيد من التعاطف الغربي معها.
ومن هنا يبرز عديد من الأسئلة حول ما كان يقال عن الجنرال برويز بأنه
جندي محترف ووطني مخلص ولا يتنازل أمام التهديدات الهندية، وثبت ما كان
يتداول عنه في الأوساط الشعبية من أنه علماني يتلهف إلى علمنة البلاد، ويعتبر
كمال أتاتورك قدوته وأنه قيادة نموذجية يحتذى بها، ويريد أن ينال من الثوابت
الوطنية والدينية لصالح حكمه.
بعد خطابه هذا وخطواته تجاه المدارس والمناهج التعليمية اتجه الرجل نحو ما
سماه الإصلاحات السياسية والتعديلات الانتخابية، وأعلن أحد جنرالاته «تنوير
حسين النقوي» تعديلات هامة في العملية الانتخابية رفع فيها عدد المقاعد في
البرلمان، واشترط على المرشحين أن يكونوا من حملة شهادة البكالوريوس؛ ولكن
أهم هذه التعديلات هي:
* إلغاء نظام الفصل بين المسلمين وغيرهم في التصويت وفي الترشيح،
وفرض نظام التصويت المخلوط، وبذلك أصبحت الأقليات صاحبة تصويت
وترشيح عامٍّ بعد أن كان للأقليات مقاعد معينة تملأ عن طريق الأقليات.
* تخصيص ٦٠ مقعداً للنساء بعد أن كان العدد عشرين مقعداً.
فهذان التعديلان كانا من أهم ما كان يطالب به الغرب وأذنابه، وكانوا يتهمون
باكستان بأنها تمارس الفصل بين رعاياها على أساس المذهب والجنس. وكان ردنا
عليهم بأن المقاعد المنفصلة للأقليات تحفظ لها حقوقها وتضمن وصولهم إلى
البرلمان، وأن إلغاء هذا النظام قد لا يمكِّن أحداً من أبناء الأقليات أن يصل إلى
البرلمان.
ولكن دعاة الاختلاط في التصويت يستهدفون أمرين أساسيين:
أولهما: القضاء على «نظرية الشعبين أو نظرية الأمتين التي تؤكد على أن
المسلمين أمة وغير المسلمين أمة؛ وهذه النظرية هي التي أوجدت باكستان دولة
منفصلة عن دولة الهندوس.
وثانيهما: أن هدف التصويت المخلوط هو التستر على القاديانيين الذين
يصرون دائماً على أنهم مسلمون ولا بد أن يعاملوا بوصفهم مسلمين. بهذا التعديل
الجديد أصبح الباب مفتوحاً على مصراعيه أمامهم لأن يدخلوا في صفوف المسلمين
للتأثير على النتائج الانتخابية لصالح من يضمن لهم مصالحهم.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن زعيم القاديانية» ميرزا طاهر «المقيم في لندن
كان أبرز من رحب بتولي برويز مشرف مقاليد الحكم في باكستان، وأن هناك
إشاعات قوية حول عدد من كبار المسؤولين في حكومة برويز بأنهم ذوو أصول
قاديانية. ومن بين من يقال عنه بكل تأكيد وإصرار إنه ذو أصول قاديانية زوجة
الرئيس» صهبا برويز «.
كما تجدر الإشارة إلى أن زعيم القاديانية ومؤسسها» ميرزا غلام أحمد «
القادياني هو أهم من تبنى وروج نظرية» أن أيام الجهاد المسلح قد تولت، وأنه
وضع عن المسلمين فريضة الجهاد بالسيف؛ لأنه هو المسيح الذي من اختصاصاته
أنه يضع الجهاد عن المسلمين «، ولم يخف» ميرزا غلام «أنه يؤدي بذلك خدمة
للاستعمار الإنجليزي وفاءً له؛ لأنه أفضل من حكم البلاد ولا بد من رد الجميل.
أما الإعلان الأخير الذي توفر له الوسائل الإعلامية الحكومية كثيراً من أوقاتها
ومساحاتها فهو إعلان الجنرال بأنه سيستمر في رئاسة الدولة حتى بعد الانتخابات
المزمع إجراؤها في أكتوبر القادم. وأنه يعتبر وجوده في الحكم ضرورياً وحتمياً
للحفاظ على مصالح البلاد وتنميتها.
التعديلات الانتخابية الجديدة يحتاج تنفيذها إلى تعديلات في الدستور الأساسي
والتعديل في الدستور الأساسي يحتاج إلى موافقة ثلثي أعضاء البرلمان؛ ولا
يوجد في الدولة أي برلمان، ورغم ذلك فإن الجنرال مصرٌّ على أن التعديلات
الانتخابية سوف تنفذ ولا أحد يستطيع أن يحول دون ذلك. إن هذا يعني أن
الجنرال سوف يجري بنفسه تعديلات في الدستور وهو بذلك يؤدي دور البرلمان
أيضاً بعد أن تولى مهام الرئيس ورئيس الحكومة ورئيس الجيش ورئيس مجلس
الأمن الوطني.
أما الولايات المتحدة الأمريكية التي تتغنى دائماً بالديمقراطية وللديمقراطية
وبحقوق الشعب فتعتبر الجنرال برويز» أملها الأخير في باكستان «كما وصفه
أحد المسؤولين في إدارة بوش، ولا يجد الرئيس بوش في كلمته السنوية سوى
الجنرال برويز وحامد كرزاي ليشيد بهما، في حين كان يعتبر نصف العالم عدواً
له وراعياً للإرهاب. علماً بأن الجنرال برويز هو نفس الجنرال الذي رفض
الرئيس كلينتون أثناء زيارته» التاريخية «لباكستان والتي استغرقت» ست
ساعات كاملة «بعد زيارة للهند دامت عدة أيام، رفض أن يصور وهو يصافح
برويز مشرف؛ لأنه لا يمثل إرادة الشعب ولم يأت إلى الحكم عبر صناديق
الاقتراع.
فهل هذا يعني أن المنصب الجديد أي المنصب الجامع لكل المناصب
الدستورية والتنفيذية والعسكرية أصبح شفيعاً للجنرال لدى الأمريكان، رعاة
الديمقراطية والحقوق؟
لكن ماذا عن الأوساط الداخلية؟ اعتبر القاضي حسين أحمد أمير الجماعة
الإسلامية أنه لا توجد لدى الحكومة أية حجة قانونية لإلقاء القبض عليه، ولكن
الجنرال برويز لا يريد أن يعطي لمعارضيه حق التعبير عن الرأي، وهذا هو
السبب الوحيد الذي من أجله اعتقلته الحكومة مرة أخرى بعد أن أكد المدعي العام
أمام المحكمة العليا أن الحكومة تطلق سراحه. نعم أطلقت سراحه لكن دون أن
تسمح له بأن يبرح مكانه؛ وبعد بضع دقائق أعادت اعتقاله بحجة قضية سجلت
ضده قبل ثلاث سنوات عند زيارة رئيس الوزراء الهندي لباكستان واحتجاج
الجماعة على زيارته قبل إعطاء الشعب الكشميري حق تقرير المصير.
اعتبرت الجماعة الإسلامية وغيرها من الأحزاب الدينية والسياسية إعلان
الجنرال باستمرارية رئاسته حتى بعد الانتخابات أنه بداية التزوير الانتخابي. علماً
بأن رئيس الدولة لا ينتخب إلا عن طريق البرلمان؛ فكون برويز مشرف يعلن أنه
يستمر في رئاسة الدولة لمدة أقلها خمس سنوات فهذا يعني أنه يريد أن يضمن
البرلمان الذي ينتخبه رئيساً بلا منازع.
سياسة برويز مشرف في هذا الصدد هي سياسة تقسيم الأحزاب وسياسة
التلويح بالعصا تارة وبالجزرة تارة أخرى. بدأ الجنرال تقسيم حزب الرابطة
بزعامة نواز شريف، واستطاع أن يفصل عنه عدداً كبيراً من الإقطاعيين الذين
أصبحوا يشكلون حزب الرابطة (مجموعة قائد أعظم جناح) والآن يحاول تقسيم
حزب الشعب.
مقابل السياسة البرويزية هذه بدأت الأحزاب السياسية المختلفة تعيد ترتيب
صفوفها، فاجتمعت الأحزاب الدينية الرئيسية: الجماعة الإسلامية (قاضي حسين
أحمد) جمعية علماء باكستان (شاه أحمد نوراني) جمعية علماء الإسلام (مولانا
فضل الرحمن) جمعية أهل الحديث (بروفيسور ساجد مير) جمعية علماء الإسلام
(مولانا سميع الحق؛ لتشكل مجلس العمل الموحد، وتوفر نواة تجتمع حولها
أحزاب سياسية مختلفة، وتخوض الانتخابات مجتمعة لا متفرقة. والأحزاب
السياسية المرشحة لأن تنضم إلى هذه الكتلة هي حزب الرابطة (نواز شريف) ،
وحزب جمهوري (نواب زاده نصر الله خان) ، وحزب جمهوري وطن (سردار
أكبر بكتي) ؛ علاوة على عديد من الشخصيات العسكرية والسياسية البارزة.
ويتوقع أن تأخذ الانتخابات صورة تظهر أنها بين الكتلة المؤيدة للجنرال برويز
مشرف وبين الكتلة المعارضة له، وهناك فجوات سياسية محايدة تتم من خلالها
اتفاقات محلية بين الأحزاب المختلفة من الكتلتين.
مهما كانت النتائج، فإن الأمر الذي يُجمِع عليه المراقبون أن وضع برويز
مشرف السياسي يتوقف على النتائج الانتخابية، وبعد ذلك لا يمكن للجنرال أن
يستمر في سياساته كما يشاء؛ بل يكون البرلمان الذي لا بد أن يحاول إثبات وجوده
مهما تمكن الجنرال من تقليم أظافره أو تحديد ملامحه حسب هواه أثناء الانتخابات
وبعدها.
(*) مدير قسم الشؤون الخارجية في الجماعة الإسلامية، الباكستان.