المسلمون في العالم
النظام العالمي الجديد: الوجه الآخر للاستعمار
(٢)
د. أحمد عجاج
أزمة الخليج وظهور النظام القطبي الواحد:
إن اجتياح الجيش العراقي لدولة الكويت قد سرَّع عملية التحول الدولية، حيث سارعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى استغلالها خير استغلال. فإزاء رفض العراق لكل النداءات بالانسحاب عمدت أمريكا إلى تدعيم وجودها في المنطقة تحت شعار أمن دولي الخليج وتثبيت منطق الشرعية الدولية. فالولايات المتحدة الأمريكية نتيجة لضعف الاتحاد السوفياتي سارعت إلى استغلال منظمة الأمم المتحدة لتثبيت دورها الجديد في المنطقة.
وفعلاً سارع الاتحاد السوفياتي عبر وزير خارجيته إلى إدانة العراق الحليف
الدائم، إلى أن وصل أخيراً إلى حد التهديد بالتدخل عسكرياً إذا لم يسارع العراق
إلى الإفراج فوراً عن المدنيين السوفيات المحتجزين في بغداد. فالاتحاد السوفياتي
لأول مرة يطبق عملياً نظريته الحديثة حيث أكد شيفردنادزه أن دعم العراق من شأنه
أن يضر بالانفتاح الدولي، ويجلب عبئاً مادياً على الاقتصاد السوفياتي، ناهيك عن
الأضرار المادية التي يمكن أن تنتج عن هذه السياسة.
وبهذا يتضح أن الاتحاد السوفياتي لم يعد قادراً على تبوء منصب الدولة
الكبرى ومناوأة الولايات المتحدة الأمريكية. فهذا الضعف قد بدا واضحاً جداً خلال
الأيام القليلة التي سبقت الهجوم البري الذي شنته الولايات المتحدة الأمريكية
وحلفاؤها على العراق فالاتحاد السوفياتي مدفوعاً برغبته في الحد من الخسائر
السياسية لسياسته الخارجية سارع إلى إعلان خطة سلام بموجبها يلتزم العراق
بالانسحاب من الكويت على أن يتولى الإشراف على الانسحاب دول محايدة. إلا أن
هذه الخطة قد رفضها الرئيس الأمريكي مباشرة ولم يرضه أيضاً الاقتراح الثاني
الذي قدمه غورباتشوف لحل الأزمة سلمياً. فالولايات المتحدة الأمريكية رأت في
الاقتراحين تقليصاً لدورها في المنطقة وفي العالم. هذا الدرر الذي توج عملياً
بالانهزام الروسي من أوروبا الشرقية والشرق الأوسط.
فالاتحاد السوفياتي خسر سوريا التي تربطه بها علاقات دفاعية واستراتيجية
وذلك بانضمامها إلى حلف الولايات المتحدة الأمريكية، والآن يشرف بنفسه على
تدمير العراق الدولة الحليفة في المنطقة وهكذا فإن الاتحاد السوفياتي لم يعد له
موطىء قدم في المنطقة بل أقصى طموحاته تجلت في تصريحات المسؤولين
السوفيات الذين حرصوا على القول عقب تحرير الكويت بأن سياستهم كانت حكيمة
وصائبة مع التركيز على ضرورة عقد مؤتمر سلام دولي يشارك فيه الاتحاد
السوفياتي لحل مشاكل المنطقة والصراع العري الإسرائيلي.
وبانتهاء حرب الخليج وما رافقها من تطورات يتضح جلياً بأن النظام القطبي
الثنائي قد اختفى من خارطة السياسة الدولية، واستبدل بنظام قطبي واحد تسيطر
فيه الولايات المتحدة الأمريكية على مجريات السياسة والاقتصاد في المنطقة.
فالولايات المتحدة الأمريكية أصبحت أخيراً القوة الوحيدة القادرة على التهديد
والضرب ووضع المقاييس التي تراها مناسبة لأوضاع المنطقة والعالم.
انعكاسات ونتائج النظام القطبي الواحد:
إن انعدام التوازن في النظام الدولى الراهن سيؤثر حقاً تأثيراً بالغاً على العالم
ومنطقة الشرق الأوسط بشكل خاص، فالولايات المتحدة الأمريكية أصبحت الطرف
الأوحد، وبإمكانها أن تحقق ما عجزت عن تحقيقه خلال عقود من الزمن تميزت
بصراع دائم مع الاتحاد السوفياتي للسيطرة على منطقة الشرق الأوسط بالذات.
فالاتحاد السوفياتي أصبح ملتزما بحتمية التعاون مع الولايات المتحدة
الأمريكية كنتيجة منطقية وليس بوسعه بعد الآن الابتعاد عن اشعاعات الولايات
المتحدة بعد أن خسر أوراقه في المنطقة الواحدة تلو الأخرى. فأوروبا الشرقية
تسعى جاهدة لتستظل بالمظلة الأمريكية وقس على ذلك جميع دول الشرق الأوسط
بدءاً بمصر وانتهاءً بسوريا بعد أن دمر العراق الذي يعيش الآن حروباً داخلية من
الممكن أن تؤثر على مجرياتها ونتائجها الولايات المتحدة الأمريكية. وهكذا فإن
الاتحاد السوفياتي قد تحول إلى دولة محدودة الأهمية، إذ أنه الآن ينتظر بلهفة
المساعدات الاقتصادية الأمريكية من أجل إنعاش اقتصاده ولم شتات شعوبه التي من
الممكن سريعاً أن تكسر جليد الخوف لتنطلق نحو الحرية والاستقلال مهددة بذلك
كيان الاتحاد السوفياتي كدولة كبرى مترامية الأطراف، ومؤشرات تلك النهاية بدأت
تظهر ملامحها والتي بدأت تتبلور عبر تصريحات المسؤولين الأمريكيين والتي
تدعو الاتحاد السوفياتي إلى منح جمهوريات البلطيق حقها في الانفصال والاستقلال.
إن من نتائج هذا الاختلال هو التأثير الأمريكي المباشر على دول الشرق
الأوسط وبالذات دول الخليج بالإضافة إلى أوروبا واليابان. فوجود القوات
الأمريكية في المنطقة مصحوباً بسيطرتهم على مفاتيح السياسة الدولية النابعة من
اختفاء الاتحاد السوفياتي كقوة مواجهة يجعلهم يتربعون براحة تامة على أغنى بقعة
اقتصادية على وجه الأرض تلك الحقيقة تعطي الولايات المتحدة دوراً لم تكن لتحلم
به أبداً فهي الآن تتحكم في مصادر الطاقة والتي بمقدورها أن تضخ الحياة في الجسد
الاقتصادي الأمريكي الهالك. فأهمية الطاقة في السياسة الأمريكية تحتل مرتبة أولى، ولا عجب أن يقول الرئيس الأمريكي بوش عشية تتويجه لصحيفة نيويورك تايمز
الأمريكية بالحرف الواحد «أنا أصوغها بهذه الطريقة لقد حظي الأمريكيون برئيس
قدم من مؤسسات النفط والغاز وهو يعرف ذلك تماماً بل يعرفه جيداً» [١] . وفعلاً
سارع الرئيس الأمريكي إلى حشد أكبر جيش عرفه التاريخ من أجل منع سيطرة
العراق على منطقة النفط التي يعرف الرئيس الأمريكي أهميتها جيداً.
فمسؤول الطاقة الأمريكي السابق كتب في مجلة الشؤون الخارجية
«Foreign affairs» ما يلي: «بضربة واحدة أخذ الرئيس العراقي دولة
الكويت وبهذا فقد قلب قواعد النفط الدولية» وتابع قوله ليستخلص «أن أزمة
الخليج أعادت إلى الصدارة الحاجة إلى إعادة التفكير في أفضل الوسائل من أجل
إعادة تنظيم الشؤون النفطية» . بالإضافة إلى هذا العامل فقد استطاعت الولايات
المتحدة أن تمهد لشركاتها التجارية المناخ المناسب لتأخذ حصة الأسد من العقود
التجارية الموقعة مع بلدان المنطقة بعد أن دمرتها الآلة الحربية الأمريكية تحت
شعار تحرير الكويت. ولم يقتصر الأمر على العقود التجارية بل تعداها إلى العقود
العسكرية والتي قدرت حسب آخر الإحصاءات بمبلغ ٣٠ بليون دولار أمريكي.
إن من شأن هذه العقود أن تبعد شبح البطالة عن المصانع العسكرية لمدة
طويلة وتدفع عجلة الاقتصاد الأمريكي المتردي.
ومن النتائج الأخرى الناتجة عن التغيير في النظام الدولي أن النفوذ الأمريكي
امتد ليشمل أوربا واليابان اللتين عجزتا عن أن تلعبا دور الشريك في مسرح
السياسة الدولية. فأمريكا تدرك خطورة اليابان وألمانيا الاقتصادية خصوصاً بعد
توحيد الأخيرة لذلك عمدت إلى تهديدهما عبر السيطرة على مصادر الطاقة التي هي
عصب الحياة لكل من البلدين، فالولايات المتحدة الأمريكية أصبح بمقدورها أن
تفرض عليهما من الآن ثمن أتعابها في المنطقة وليس بمقدورهما أن يرفضا.
فالمتتبع للأخبار يدرك حجم المبالغ التي دفعتها كل من ألمانيا واليابان للولايات
المتحدة الأمريكية في حملتها العسكرية لتحرير الكويت. والصورة واضحة ليس
فيها لبس ولا غموض فوزير الدفاع الأمريكي أعلن أمام لجان مجلس الشيوخ
الأمريكي «إننا نتوقع أن نقتسم المسؤوليات الدولية بصورة أكثر إنصافاً مع حلفائنا
وشركائنا الذين يزدادون قوة وهو ما يتفق مع زعامتنا» وأضاف قائلاً: «إن
عملية عاصفة الصحراء تعد نموذجاً طيباً للتعامل مع الأزمات التي قد تنشب
مستقبلاً» .
تلك المعطيات المتمثلة في انحسار الدور السوفياتي وضعف الموقف الأوروبي
والياباني وخضوعهما للسياسة الأمريكية، من شأنها أن تجعل الدور الأمريكي في
منطقة الشرق الأوسط دوراً فريداً من نوعه. فالولايات المتحدة الأمريكية إضافة
إلى سيطرتها الاقتصادية والعسكرية على المنطقة تستطيع أن ترسم سياسة المنطقة
وتحديد سبل حل الصراع العربي - الإسرائيلي بشكل لا يتفق مع المصالح العربية
والإسلامية. فرغم كل التفاؤل الذي أبدته الأوساط الأمريكية ببزوغ عصر جديد في
العلاقات الدولية يتمثل في إحلال العدل والحربة والسلام لكل شعوب المنطقة؛ لا
يوجد مؤشر إيجابي يؤكد صدق هذه الادعاءات. فإسرائيل التي تحدث ما يسمى
بالشرعية الدولية وضربت بعرض الحائط كل قرارات الأمم المتحدة وانتهكت حقوق
الإنسان في كل من فلسطين ولبنان لا تزال تتلقى المساعدات والدعم المالي من
حامية هذه الشرعية. فالشعب الفلسطيني ليس له أولوية في حساب الإدارة
الأمريكية على الإطلاق. ففي تصريح لأحد المسؤولين الأمريكيين السابقين أفاد أن
المؤتمر الدولي لحل القضية الفلسطينية لا يمكن أن يتم انعقاده إلا في حال تحقق
شرطين أو حالتين تتلخصان في زوال عقدة الخوف عند الإسرائيليين، وتقليص
الآمال العربية الكبرى. فإذا صح هذا التنبؤ فإن هذا يعني أن إسرائيل لكي تكون
آمنة وتزول عنها عقدة الخوف يجب أن تحتل أراضي غيرها، وعلى هؤلاء أن
يعلقوا آمالاً كبرى على استرجاعها.
والحقيقة أن هذا ليس جديداً على منطقة الشرق الأوسط فإسرائيل تحتل
المرتبة الكبرى في السياسة الأمريكية، بل هي المفتاح الرئيسي إلى المنطقة
والسيف المسلط على شعوبها، وليس بوسع الإدارة الأمريكية أن تكسر أو ترمي
جانباً هذا المفتاح. إن أقصى ما تبغيه الإدارة الأمريكية بعد أن سيطرت على
المنطقة هو تأمين اعتراف عربي وإسلامي بدولة إسرائيل وزرع فرضية جديدة في
عقول الأجيال العربية والمسلمة مفادها أن إسرائيل دولة وجدت لتبقى. وهذه
الحقيقة ليست أبداً مجرد تخمين بل هي بديهية ثابتة في سلم أولويات الإدارة
الأمريكية بعد أن تخلصت من الاتحاد السوفياتي وأخضعت أوروبا واليابان،
وسيطرت عسكرياً على المنطقة. فالنظام العالمي الجديد الذي ينادي به رئيس
الولايات المتحدة الأمريكية هو نظام صنعته أمريكا، وأرسته كما تشاء، وأجبرت
الشعوب على قبوله لأنه يخدم مصالحها، وهي تمضي قدماً في تطبيقه باسم العدالة
بلا خجل أو حياء.
(١) The independent (British Newspaper) ٣ February ١٩٩١.