الورقة الأخيرة
[زمن التحول للإداريين]
د. أحمد بن عبد الرحمن الشميمري [*]
منذ زمن وكلما أردت شرح الفروق المتعددة بين المدير والقائد تجاوزت كل
تلك الدراسات الإدارية الحديثة والنظريات المعاصرة، وتبادر إلى ذهني فوراً تلك
القاعدة الشرعية الأصيلة لقبول العمل والتي تقرر أن العمل المتقبل لا بد أن يحقق
شرطين هما: الإخلاص والمتابعة؛ فالإخلاص ومنه النية معني بالكليات والرؤية
الاستراتيجية الشاملة للعمل المراد الشروع به. أما المتابعة فتتعلق بالجزئيات
التفصيلية لأداء العمل وفق ما جاء به نبي الأمة صلى الله عليه وسلم.
وعندما تختلط النية ويراد بهذا العمل غير وجه الله والدار الآخرة يحبط العمل
ويكون هباءً منثوراً ولو أحسن القائمون عليه الإنجاز وأتقنوا الأداء؛ فالوجهة الكلية
والرؤية المستقبلية أصابها قصور النظر، فارتكست إلى الجزئيات المغرقة في
الطريق الخاطئ، وفي المقابل حينما يفسد الاتباع - فيشط الأداء عن المنهج القويم
والإجراءات السليمة والتطبيقات المشروعة - يفسد العمل ولو كانت الأهداف نبيلة
والغايات سامية.
فالقائد الناجح إذن هو الذي يعي الكليات المنهجية، ويضع الاستراتيجيات
الصحيحة والحوافز البشرية المشروعة، ويدرك معنى الغايات السليمة دون
الإغراق في التفصيلات والانهماك في الجزئيات.
كما أن المدير الناجح ذلك الذي يضع الخطط التفصيلية، والمهام التنظيمية،
والواجبات التنفيذية، والنظم الإشرافية لإنجاز الأعمال بكفاءة وفعالية.
ولأننا في حاجة لكليهما في شخص واحد فقد عز هذا المطلب، وقل وجوده
في واقع مؤسساتنا الدعوية ومشاريعنا الخيرية، واتسعت الفجوة المتأصلة من جراء
البحث عن قائد أولاً، إلى خلل في النمو والتطبيق، وربما الديمومة المنشودة
للأعمال.
فكلما اتفقنا على سمو المشروع وخيريته، وعظيم نفعه وصلاحيته، تعمقنا
في مستلزماته القيادية وحدها دون غيرها، تلك المستلزمات المتعمقة في صميم
التربية والتوجيه، والمرتكزة على الرؤية الاستراتيجية وشمولية الوعي ومنهجية
الإدراك، وهذا في حد ذاته مطلب ملح؛ لكن الأشد إلحاحاً وجود الكفاءة الإدارية
القادرة على قيادة السفينة على الوجهة الصحيحة والخريطة الافتراضية الموضوعة
من قبل القيادة المحنكة.
ومن المسلَّم به في علم الإدارة وأدبياتها أن المنظمات في حاجة إلى مدراء
أكثر من حاجتها إلى قادة؛ فقائد واحد يمكنه أن يضع تصوراً ورؤية وسياسة محكمة
لمشاريع عديدة يديرها جيش من المدراء الأكفاء؛ لكنه لا يتصور أن تدار هذه
المشاريع من قبل قادة فقط دون مدراء.
إن الإخفاق الذي يصيب مشاريع الخير مرده في كثير من الأحيان إلى غياب
المهارة الإدارية والعلم الكافي بمسلَّمات ومبادئ الإدارة؛ فالنوايا الصالحة وحدها لا
تكفي لإدارة دفة العمل، كما أن الإخلاص وربما التفاني ليس سبباً كافياً لديمومة
النجاح، وفوق ذلك كله فإن المكانة والوعي العلمي والثقافي ربما كانا وبالاً على
العمل التنفيذي لا داعماً له.
* خاتمة:
ذكر جيمس كولنز في كتابه الشهير: «البناء من أجل الاستمرار» أن شركة
فورد كادت في السبعينيات الميلادية من القرن الماضي أن تخرج من السوق بعد أن
تكبدت خسائر فادحة، وانتكاسة مريعة في المبيعات، وبعد الدراسات المستفيضة
والاستشارات العليا التي أجراها قائدها الملهم «فورد» مبتكر ومؤسس الشركة
العملاقة، كانت النتيجة المفاجأة للجميع أن أوصى المستشارون بإقصائه من الشركة
، وقالوا: إن الشركة لم تعد في حاجة إلى قائد أوتوقراطي، بقدر ما هي بحاجة إلى
مدير يحقق لها الاستمرار والنمو والنجاح، وبالفعل تم إقصاء فورد، ومضت
الشركة تحقق النجاح تلو النجاح حتى يومنا هذا!
(*) رئيس قسم إدارة الأعمال، جامعة الملك سعود فرع القصيم.