[التصدي العالمي للغطرسة الأمريكية]
د. سامي محمد صالح الدلال
إذا تعاطى صاحب العقل المميز الخمر أذهبت عقله وسلبته لُبّه؛ فطاشت تصرفاته وانقلبت أحواله، وأصبح خطراً ماحقاً يهدد الآخرين، فلا يزال الناس يتحاشون شره، ويحاولون لجم طيشه
إن أمريكا اليوم سكرانة، ومثلها كمثل ذلك الرجل الذي ذكرناه؛ فإن كان ذلك الرجل أسكرته الخمر فما الذي أسكر أمريكا؟
لقد أسكرها فيما أرى ما يلي:
١ - قوتها العسكرية العاتية.
٢ - اقتصادها المتوسع.
٣ - هيمنتها على القرارات الدولية.
٤ - حضورها السياسي الجارف.
٥ - اعتقادها بقدرتها على أمركة العالم وعولمة مفاهيمها.
٦ - سيطرتها على المنابع الحيوية من نفط وغاز.
٧ - نجاحها في إبراز الكيان الصهيوني كقوة متمكنة في الشرق الأوسط.
٨ - خوف دول العالم من معارضتها اتقاء بطشها وتنكيلها.
٩ - ادعاؤها نشر الديمقراطية والحرية في أرجاء البسيطة.
١٠ - تقدمها العلمي وتطورها التكنولوجي.
إن خمر أمريكا الذي أسكرها هو تلك البنود العشرة.
نعم! إن تلك البنود، أو بعضها هي عوامل قوة فيما لو كانت في أيد عاقلة راشدة، لها منهاج رباني عادل، أما وقد اجتمعت عند من له منهج شيطاني ظالم فلا نشك في أنها قد أسكرته، وأخلَّت بتوازنه.
إن بيت القصيد في المسألة هو أن أمريكا بسبب شدة سكرها لم تتمكن من تشخيص عوارها.
إن مثلها كمثل (عاد) التي تجمعت تحت يديها جميع أسباب القوة، وحازت كل ضروب المنعة. قال ـ تعالى ـ: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: ١٥] . وكان من شأنها كما قال ـ تعالى ـ: {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} [الفجر: ٨] .
لقد أسكر هذا البروز الأممي والتفوق النوعي عاداً؛ فبدل أن تناصر به الحق وظفته في الظلم، وكذبت المرسلين؛ فتناولتها سُنَّة الله ـ تعالى ـ في إهلاك الكافرين وإلحاقهم بالغابرين. قال ـ تعالى ـ: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّنْ بَاقِيةٍ} [الحاقة: ٦ - ٨] . تلك سنة جارية، فماذا تنتظر أمريكا؟!
- أخطار أمريكا على العالم:
لقد أوجدت أمريكا أخطاراً هائلة في مجمل أرجاء الأرض، ولا يكاد ينجو من أخطارها أحد، وهذه حِسبة سريعة بأبرز ما تولد من سكرها بقوتها:
١ - الدعم الهائل والمفتوح للكيان الصهيوني على كافة الأصعدة السياسية والمالية والعسكرية وغيرها، وتأييدها المطلق لما يقوم به ذلك الكيان من قتل وتشريد، وسجن وتعذيب، وهتك للأعراض، وتدمير للممتلكات، وجرف للأراضي ومصادرة لها وقلع للأشجار، وتشديد الحصار، وبناء الجدار وتشييد للمستوطنات، ومصادرة الأموال وغير ذلك، فضلاً عن معارضتها الشديدة لعودة اللاجئين إلى أراضيهم وتأييدها لجعل القدس عاصمة الكيان اليهودي.
٢ - احتلالها لأفغانستان بعد أن شنت عليها حرباً ضروساً أطاحت بحكم الطالبان، وفعلت فيها مثل الذي فعله اليهود في الفلسطينيين.
٣ - احتلالها للعراق، ولا تزال حربها عليها قائمة ومستمرة، مستخدمة أفتك أنواع الأسلحة في دكِّ بيوت الآمنين في مختلف المدن العراقية، وخاصة الفلوجة، والموصل، وسامراء، والرمادي وغيرها.
٤ - حربها الضروس على العالم الإسلامي كدول، وعلى العمل الإسلامي كدعوة، مستخدمة كافة الوسائل المتاحة.
٥ - تأييدها لأعمال القمع ضد المسلمين في الشيشان، والفلبين، وكشمير وغيرها.
٦ - انتهاكاتها الصارخة لحقوق الإنسان، وخاصة أسرى المسلمين في جوانتانامو، وأبي غريب، وكافة السجون في العراق وأفغانستان، وغيرها.
٧ - دعمها غير المحدود لكل الحكومات التي تحارب الإسلام والدعاة والعلماء.
٨ - بسط نفوذها العسكري والسياسي على الدول المنتجة للنفط والغاز.
٩ - هيمنتها على الأمم المتحدة، واستعمالها لتحقيق أهدافها ومآربها.
١٠ - عسكرة الفضاء؛ بغية تحقيق التفوق المطلق على جميع دول العالم.
١١ - الإعداد لحروب استباقية متعددة.
١٢ - تحديد أهداف، وصناعة تحالفات؛ لإحكام الحزام العسكري حول الشرق الأوسط، وإيران، والصين، وكوريا الشمالية، وروسيا، والدول الإسلامية في شرق آسيا والقوقاز.
١٣ - الضغط المتواصل على دول الاتحاد الأوروبي للسير في فلكها، ولاستخدامها في تحقيق أهدافها.
١٤ - التدخل في خصوصيات الدول والشعوب على كافة المستويات السياسية، والاقتصادية، والعسكرية، والثقافية، والإعلامية والاجتماعية، وفرض الحصار على الدول التي تتمرد على الخضوع لها.
١٥ - تنفيذ المجازر الكبرى في كوريا، وفيتنام، والصومال، واليابان، وغرينادا، وكمبوديا، سوى ما ذكرناه بشأن أفغانستان والعراق، إضافة إلى الأعمال القذرة التي تمارسها وكالة المخابرات الأمريكية CIA في مختلف دول العالم.
١٦ - استخدامها القنابل الممنوعة دولياً: كالقنابل الذرية، والنيترونية، والكيمائية والعنقودية، والنابالم والقنابل ذات التدمير الهائل كالتي استخدمتها في (تورا بورا، والعراق) .
١٧ - تجفيف منابع العمل الخيري الإسلامي في جميع أنحاء العالم، ومحاربة الأعمال الإسلامية كافة تحت سيف تهمة الإرهاب.
١٨ - دعمها المادي والمعنوي للقوى العلمانية والليبرالية، سواء كانت دولاً أو أحزاباً أو مؤسسات أو مجموعات.
١٩ - فرضها «الديمقراطية» على دول العالم بالقوة؛ وذلك وفق المفهوم الأمريكي.
- كيف تواجه دول العالم مخاطر أمريكا السكرانة؟
كما يتقي الناس طيش السكران وعبثه؛ كذلك فإن دول العالم أجمع في حالة توجس وترقب من تصرفات أمريكا السكرانة؛ بسبب الممارسات الخطرة التي تقوم بها في أنحاء المعمورة.
فنلقي ضوءاً على مواقف دول العالم وفق النسق التالي:
- أولاً: دول العالم العربي والإسلامي:
رغم أن المؤثرات الأمريكية قد فرضت بصماتها على كثير من المعالم الحياتية في العالم الإسلامي على المستويات السياسية والاقتصادية والفكرية والثقافية وغيرها، إلا أن ذلك لم يمنع المسلمين من التنبه إلى مخاطر السكر الأمريكي على العالم الإسلامي، ويمكننا رصد ذلك التنبه من خلال:
- انبعاث الحركات الجهادية في كل من فلسطين، وأفغانستان، والشيشان، وكشمير، والفلبين، والعراق، وأرتيريا.
- اتساع العمل المؤسسي الإسلامي الخيري الشعبي.
- إنشاء المراكز الإسلامية المنوعة الأغراض في جميع بلدان العالم، بما يربو عددها على عشرة آلاف مركز.
- النزول إلى الساحة الإعلامية بقدر ما تتاح من فرص، وتتوفر من إمكانات.
- الاحتفاء بحركة التأليف والنشر والتوزيع؛ وذلك في جميع مجالات العلوم الإسلامية، وألوان الثقافة المعرفية.
- عقد الندوات وإقامة المؤتمرات التي تعالج القضايا الإسلامية، بكافة تشعباتها، وتنوع اختصاصاتها.
- نشر الدراسات الاستراتيجية التي تسلط الضوء على خلفيات وأهداف حركة الأمركة التي تغلفت بغلاف العولمة.
- إنشاء البنوك الإسلامية، وتكوين المؤسسات الاقتصادية التي تنطلق جميعاً من المفاهيم الشرعية.
تلك بعض ما تواجه به الشعوب الإسلامية أخطار أمريكا السكرانة. أما حكومات العالم الإسلامي فهي وبشكل متفاوت تعتبر كلها أو أكثرها جزءاً من تلك الأخطار ذاتها، ولكل منها حظ مما في ذلك كله؛ حيث إن بعض تلك الحكومات أقامت شبكة من العلاقات مع أمريكا أدت إلى ما يلي:
- الاحتلال العسكري المباشر لبعض الدول الإسلامية والعربية: (أفغانستان، العراق) .
- إقامة العديد من القواعد العسكرية فيها: (باكستان، تركيا، بعض دول الخليج، وغيرها) .
- السيطرة المباشرة على منابع النفط والغاز في بعض البلاد الإسلامية والعربية (أفغانستان، العراق، بحر قزوين) .
- إتاحة الفرصة لأمريكا لممارسة الضغط السياسي والاقتصادي على الحكومات الإسلامية من خلال تحكمها في استثماراتها الهائلة في أمريكا، وأوروبا، وغيرها.
- الدعم المادي والمعنوي للقوى العلمانية في العالم الإسلامي؛ بغية تحجيم ومحاصرة الصحوة الإسلامية، وأدواتها الإيجابية الفاعلة.
- الضغط والتضييق على الدعاة والعلماء وأهل الخير والمصلحين، وكذا تأميم أو إغلاق مؤسسات الأعمال الخيرية بأنواع اختصاصاتها.
- إن القراءة المتأنية والرصينة للواقع الحالي تفيد أن أخطار أمريكا السكرانة ستكون شديدة الوطأة في العقد الحالي، ولكن من خلال المنظور الاستراتيجي فإن العوامل المؤثرة في الصراع تشير إلى أن الأمة الإسلامية ستتمكن من مواجهة تلك الأخطار والتغلب عليها، وخاصة إذا اشتد توقُّد ساحات الجهاد.
- ثانياً: منظومة الاتحاد الأوروبي:
رغم أن معظم دول منظومة الاتحاد الأوروبي المكون من ٢٥ دولة هي ضمن حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن هذا الاتحاد يعتبر التصرفات التي تقوم بها أمريكا السكرانة تشكل أخطاراً عليه، ومن أهمها:
١ - ممارسة أشد الضغوط السياسية على حكومات دول العالم كي تسير في فلك السياسة الأمريكية؛ مما يؤدي حكماً إلى إضعاف وتحجيم النفوذ السياسي الأوروبي على تلك الدول، وخاصة الإسلامية منها، وهذا بدوره يقود إلى تقليص مساحة الحركة الأوروبية سياسياً، فضلاً عن احتمال استعمال أمريكا تلك الدول بذاتها لمحاصرة الحركة الأوروبية وشَلّ فاعليتها. وسيؤدي ذلك إلى خلل شديد في التوازنات الدولية؛ مما يجعل احتمال احتدام الصراعات العالمية قائماً.
٢ - نجاح أمريكا في وضع المملكة المتحدة (بريطانيا) تحت عباءتها وجرّها معها إلى أتون مواقع القتال والمواجهات الحامية (أفغانستان والعراق) ؛ وهو ما يشكل اختراقاً للوحدة الأوروبية التي ترى أن مصالحها ليست بالضرورة متفقة مع المصالح الأمريكية.
٣ - إن هيمنة وسيطرة أمريكا على منابع النفط في المواقع الرئيسة المنتجة له: (العراق، بحر قزوين) سيجعلها قادرة على التحكم بأسعاره العالمية بالطريقة التي تحقق إنعاشاً للاقتصاد الأمريكي؛ بغض النظر عن الأضرار التي يمكن أن يواجهها الأوروبيون؛ والناجمة عن خروج أسعار النفط عن حدود تأثيرهم، فضلاً عن سيطرتهم.
٤ - إن انفراد أمريكا بالدعم الاقتصادي والعسكري والسياسي للكيان اليهودي في فلسطين قد جعل جميع أوراق الشرق الأوسط في يدها؛ وهو ما أضعف من تأثير أوروبا في استثمار العمق الاستعماري التاريخي الصليبي الذي اضطلعت به خلال القرون الماضية.
٥ - إن مجموع القوى الإيجابية المؤثرة في إنعاش الاتحاد الأوروبي ودعمه تعتبر ضئيلة وضعيفة مقارنة مع مجموع القوى الإيجابية المؤثرة في إنعاش أمريكا. إن الحقيقة المهمة الناجمة عن ذلك: هي أن أمريكا باستعمال فارق مجموع القوى تتمكن من ممارسة الضغوط على الاتحاد الأوروبي لتحقيق مصالحها الذاتية، ولكن مع منح بعض الفُتات للمصالح الأوروبية لتسكيتها. وخير تعبير عن ذلك هي حرب كوسوفا.
٦ - قدرة الولايات المتحدة الأمريكية على حشد أكبر عدد ممكن من الدول، بما فيها الأوروبية، لاستخدامها في حروبها المحققة لمصالحها، (٣٣ دولة في حرب الخليج الثانية، ٣٠ دولة في حرب احتلال أفغانستان وإسقاط الطالبان، أكثر من ٦٠ دولة في حرب احتلال العراق) . إن دول الاتحاد الأوروبي رغم أن أكثرها قد شارك في تلك الحروب، إلا أنها تتوجس شراً من عواقب هذه المساهمات والمشاركات على رعاياها أولاً، ثم على مصالحها الذاتية ثانياً.
ونلاحظ أن المخاطر الستة كبيرة وواسعة الرقعة.
غير أن أوروبا لم تترك نفسها فريسة للأمريكان؛ فها هي تحصن نفسها بدروع استراتيجية هامة، من أبرزها:
١ - توافر مناحي القوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية لدى منظومة الاتحاد الأوروبي؛ لأن التوجه لدى قادته ينصب على تحويل أوروبا إلى قطب عالمي ليسحب بساط انفراد أمريكا بالأحادية القطبية من تحت قدميها. وقد رأى القادة الأوروبيون أن تعزيز «الحالة الاتحادية» للاتحاد الأوروبي هو من أبرز معالم هذا التوجه.
٢ - اختطت بعض الدول الأوروبية مسارات خاصة بها مستقلة كل الاستقلال عن المسار الأمريكي، بل لا تتوانى عن معارضة ذلك المسار: كالموقف الألماني، والفرنسي من الحرب على العراق.
٣ - تسعى دول الاتحاد الأوروبي إلى تعزيز قواها العسكرية، والارتفاع بمستواها التكنولوجي في كافة المجالات لتكون على مستوى الندية مع الحالة الأمريكية.
٤ - إن ارتفاع سعر صرف اليورو إزاء الدولار قد أعطى دول الاتحاد الأوروبي قوة اقتصادية إضافية عززت مكانتها الدولية.
٥ - تواصل الدول الأوروبية مد يدها إلى كافة دول العالم؛ بغية توطيد أُصُر التعاون معها، وتطبيع علاقاتها السياسية بها (وخاصة روسيا والصين ودول العالم الإسلامي) ؛ وهو ما يشكل حالة التفاف على الضغط الأمريكي على تلك الدول.
٦ - موافقة الاتحاد الأوروبي على الشروع في مباحثات مع تركيا ابتداء من ٣/١٠/٢٠٠٥م يعطيه نوعاً ما من الاستقرار النفسي بسبب كون تركيا تشكل الخاصرة الجنوبية الشرقية لأوروبا، وهي موطن الانفتاح الإسلامي على الدول الأوروبية. ومحصلة ذلك: هو إبراز أوروبا قوية مقابل أمريكا قوية.
إن تلك النقاط الستة التي ذكرتها لا تعني بالضرورة عداءً أوروبياً أمريكياً بقدر ما تعني أن التعاون الأمريكي الأوروبي ينبغي أن لا يكون تعاوناً مفروضاً في توجهاته ومفرداته من قِبَل أمريكا على أوروبا.
ملاحظة أخيرة لا بد من ذكرها بهذا الخصوص: وهي أن الخلفية العقدية النصرانية للأوروبيين والأمريكيين توحد صفوفهما فيما يتعلق بالحرب على الإسلام، سواء بشكل ظاهر أو خفي.
- ثالثاً: روسيا:
صحيح أن أمريكا وقفت مع روسيا بشكل قوي وداعم عندما انفكت عرى الاتحاد السوفييتي، إلا أن ذلك الوقوف كان يقصد منه سد طرق ومنافذ عودة الشيوعيين إلى دفة الحكم في روسيا. وقد تطلَّب ذلك من أمريكا أن تدعم (يلتسين) بكل ما أوتيت من وسائل الدعم؛ لضمان إقرار وضع سياسي ديمقراطي رأسمالي على أنقاض الحكم الشمولي الشيوعي، ولم يكن لدى السياسيين الروس من بد سوى قبول ذلك الدعم، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي.
لقد مرت روسيا بعد الانهيار الشيوعي في مرحلة اقتصادية صعبة جداً؛ مما ضعضع مواقفها داخلياً وخارجياً، وما حالة الانحطاط العسكري في مختلف أصناف القوى المسلحة، وخاصة الأسطول إلا واحدة من تلك التضعضعات المذكورة، كما أن حالة الانفلات التي حصلت في الاتحاد السوفييتي لدى انهياره قد أدت إلى تسرب كثير من الأسرار الاستراتيجية، وخاصة العسكرية إلى قوى معادية لروسيا، وقد صاحب ذلك أيضاً ما فعلته المافيا الروسية من بيع لأنواع من صنوف الأسلحة ـ بما فيها السرية ـ في السوق السوداء الدولية.
كل ذلك سبب قبول روسيا قدوم وفود أمريكية للتفتيش على الأسلحة النووية الروسية؛ بما شكل حالة خلل خطيرة في التوازن النووي الروسي الأمريكي. ثم جاءت انتفاضة المسلمين الشيشان في عام ١٩٩٦م للحصول على الاستقلال من روسيا لتعزز حالة الضعف الروسي. غير أن روسيا بقيادة (بوتين) تمكنت في المرحلة الأولى من رئاسته من إعادة ترميم كثير من التصدعات التي أعقبت الانهيار السوفييتي، ما عدا قضية الشيشان التي لا تزال عصية على الحل؛ بسبب إصرار المجاهدين الشيشان على الاستقلال، ونجاحهم في التصدي للآلة العسكرية الروسية، رغم قلة عددهم وعتادهم. إن الحالة الشيشانية تمثل عملية نزف في الجسم الروسي، وهذا يحقق فائدة لأمريكا، لكنه في الوقت نفسه يعتبر مصدر قلق لها؛ لأنها تعتبره نواة توسع، وبروز إسلامي في القوقاز، وهذا ما تخشاه أمريكا كثيراً.
- هل تعتبر روسيا أن أمريكا تمثل خطراً عليها؟
الجواب: نعم بكل تأكيد! وسبب ذلك تقاطع المطامع بين الدولتين فيما يتعلق بالسيطرة على مواقع النفوذ السياسية والاقتصادية في العالم. إن روسيا تتوجس الآن كثيراً من أمريكا بعد أن نجحت الأخيرة في احتلال أفغانستان، وفي إقامة قواعد عسكرية في كل من أوزبكستان، وطاجيكستان، وقيرغيزستان، وحصولها على تسهيلات عسكرية مفتوحة من باكستان، وتغلغلها العسكري في جورجيا، إضافة إلى وضع يدها على نفط بحر قزوين، ونجاحها في إيصال المعارضة إلى دفة حكم أوكرانيا؛ مما أحدث خللاً شديداً في منطقة آسيا الوسطى لصالح الأمريكان على كافة الصعد.
فما الذي ستفعله روسيا لمجابهة الأخطار الأمريكية عليها؟ يمكننا بيان ذلك وفق النقاط التالية:
- لا تريد روسيا في المرحلة الراهنة إبراز تقاطع المطامع، بل تريد إبراز التقاء المصالح، والتي من أهمها محاربة ما أسموه بالأصولية الإسلامية.
- تسابق روسيا الزمن لتحقيق غايتين، الأولى: الحد قدر الإمكان من السيطرة الأمريكية على العالم. الثانية: إعادة البناء الداخلي على المستويين الاقتصادي والعسكري؛ بغية الوصول إلى حالة التوازن مع أمريكا مستقبلاً. وبقدر النجاح الذي تحققه في الغاية الثانية بقدر ما يمكنها تحقيق الغاية الأولى.
- تبذل روسيا جهوداً مضنية كي لا تفلت جورجيا، وأوكرانيا من يدها بشكل نهائي.
- تحاول روسيا تعزيز علاقاتها السياسية مع الدول التي تدور في الفلك الأمريكي، أو التي تحاول أمريكا تدويرها في فلكها، كي لا تتمكن أمريكا من الانفراد بها وتوجيهها بحسب مطامعها، دون أن تواجه بضغوط مقابلة.
- تقوم روسيا بدعم الدول المعادية لأمريكا عسكرياً، وخاصة إيران، وكوريا الشمالية، كما أنها لا تبخل في دعم القدرات النووية لهما.
- تواصل روسيا أبحاثها العلمية لتطوير قدراتها العسكرية الاستراتيجية.
- فيما عدا الاستنزاف الشيشاني فإن روسيا تريد الابتعاد عن أية بؤرة صراع إضافية تفاقم استنزافها؛ بغية محاولة توفير أكبر ما يمكن من الناتج الاقتصادي، وخاصة البترول لمواصلة برامج التنمية؛ مما يوفر لها حالة استقرار داخلي يساعدها على الوقوف على مستوى الندِّية لأمريكا مستقبلاً.
- رابعاً: الصين:
لا تزال الصين تتوجس من أمريكا السكرانة شراً، ولعلها تعتقد أن ليس بينها وبين المواجهة معها إلا طي الزمن، ومن الممكن بين عشية وضحاها أن تصنفها أمريكا ضمن محور الشر، وليس ذلك عليها بعجيب؛ إذ إن سكر القوة يهيل على مركز التفكير التراب!
في إطار صراع المصالح وتحت ضغط نفسية الهيمنة في مواقع اتخاذ القرار الأمريكي؛ فإن الصين تشعر بالمخاطر التالية من قِبَل الولايات المتحدة:
- رغم أن الصين دولة نووية لكن ذلك لا يمنع من إمكان تعرضها لحرب ذرية تحت ظروف معينة، ورغم أن ذلك قد يبدو مستبعداً لدى المحللين السياسيين غير أنه يبقى خطراً كامناً، قابلاً للخروج إلى السطح عندما يراد له ذلك.
- من الناحية الواقعية أضحت الصين حقاً محاصرة عسكرياً بعد احتلال الأمريكان لأفغانستان، ونجاحهم في إقامة القواعد الهائلة في معظم الجمهوريات المستقلة عن الاتحاد السوفييتي، ويشكل ذلك خطراً عظيماً على القدرة الدفاعية الصينية.
ولا مناص للصين من إعادة النظر في تعبئتها العسكرية وقواها القتالية؛ لتتمكن من صيانة حدودها الممتدة آلاف الكيلو مترات، وليس ذلك بمقدور عليه في الوقت الراهن.
- ولا شك أن الخطر الأمريكي يجد له ثلاث بؤر رئيسة يمكن أن ينطلق منها في مشهد تفجيري هائل، هي: حصول حرب بين الصين وتايوان، أو حصول حرب بين الصين والهند، أو وقوف الصين مع كوريا الشمالية في حالة حصول حرب بينها وبين أمريكا.
- في الوقت الذي تشهد العلاقات الأمريكية الصينية تحسناً في الجانب الاقتصادي، إلا أن الولايات المتحدة ترقب عن كثب التطورات الإيجابية للاقتصاد الصيني، والبدء في انفتاحه على الاقتصاد العالمي. إن القيادة الصينية الحالية تقوم الآن بإعادة بلورة المفاهيم الشيوعية لتتلائم بطريقة ما مع السيطرة الرأسمالية على العالم، وخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. إن الولايات المتحدة لا يروقها ذلك الانفتاح؛ ولذلك فإنها لا تيسّر السبل لامتداده، بل تضع أمامه العوائق المختلفة. وإنني لا أستبعد إذا تطور الصراع يوماً ما بين أمريكا والصين أن تفرض أمريكا حصاراً اقتصادياً على الصين.
- تقوم القيادة الصينية الحالية بمد بساط العلاقات السياسية مع جميع دول العالم ودعمها وتمتينها، ويلاقي هذا التوجه الصيني ترحيباً متعاظماً في كل الدول، في الوقت الذي يلاقي امتعاضاً في أوساط الاستراتيجيين الأمريكيين؛ وذلك لأن أمريكا ترى أن التحجيم السياسي للقيادة الصينية يساعد في المستقبل على الضغط على الصين في الأوقات الصعبة، ومن ثم فإن الصين تعتبر هذا التوجه الأمريكي خطراً عليها.
- تشعر الصين بالقلق من القدرة الأمريكية على اختراق الحواجز الصينية المنوعة، والوصول إلى المكامن المجتمعية الصينية التي بشيء من التنظيم والصبر والدعم المادي والمعنوي الأمريكي تستطيع أن تنشئ بؤر معارضة داخلية لنظام الحكم الشيوعي الصيني.
- لقد بذلت القيادة الصينية جهوداً مضنية عبر عقود عديدة، حتى تمكنت من إدخال الشعب الصيني الملياري في القوالب الشيوعية الحديدية، إلا أن رياح العولمة الأمريكية باتت تغشى أراضي الصين الشاسعة، وشرعت ذرات غبارها في اختراق النوافذ والأبواب الشيوعية الموصدة، وبدأ الناس يستنشقون ذلك الغبار العولمي الأمريكي رغماً عن الاحتياطات الحكومية والحزبية. إن القيادة الصينية الحالية باتت لا تستطيع أن تغض الطرف عن هذا الخطر الجديد، والمتمثل في وقوع الشعب الصيني تحت مظلة الامتداد العولمي الأمريكي، وأضحت تتساءل: هل بالإمكان الصمود إزاء ذلك؟
تلك هي المخاطر الأمريكية على الصين؛ فما هي احتياطات الصين للوقوف ضدها؟ يمكننا إجمال ذلك في نقاط محددة كالتالي:
١ - التوسع في الإنتاج النووي، وهو ما تضطلع به الصين حالياً وهي تسابق الزمن.
٢ - المضي قُدُماً في تحسين وتوسيع الصناعات العسكرية وخاصة الصواريخ البالستية، والتوجه نحو بناء قوة عسكرية ضاربة ومؤثرة.
٣ - الانفتاح الاقتصادي المتضمن إتاحة الفرصة للدول الأوروبية، وحتى الولايات المتحدة، بالمشاركة في المعارض الدولية التي تقام في الصين، وكذا إعطاء الرخص لإقامة مصانع غربية على الأراضي الصينية؛ وذلك لاتاحة فرصة تشغيل الأيدي العاملة من جهة، وللاستفادة من التقنية الغربية من جهة أخرى.
٤ - توطيد العلاقات السياسية مع دول العالم كافة، وخاصة دول الاتحاد الأوروبي، ودول الشرق الأوسط، وأمريكا اللاتينية، وتطبيعها مع روسيا، بهدف إيجاد محيط مؤيد للصين على المستوى الدولي، ولتحجيم التأجيج الأمريكي ضدها في حالة تزايد الاضطراب بينهما.
- بذل الجهود الحزبية الشيوعية؛ لتجنيب المجتمع الصيني التغلغل الأمريكي في خصوصياته.
- الابتعاد قدر الإمكان عن عوامل الاحتكاك مع أمريكا، وتوقي المسارات المفضية للتصعيد معها.
- أخيراً؛ تبقى قضية «الإرهاب» مسألة قابلة للتداول بين أمريكا والصين، كل بحسب مصلحته.
- خامساً: سائر دول العالم:
إذا كانت أمريكا تشكل أخطاراً على الدول الكبرى؛ فإن مخاطرها على الدول الأخرى بالتأكيد أشد وأنكى، ويمكننا تلخيصها بالتالي:
- التدخل في المسارات السياسية لتحويلها في مصب السياسة الأمريكية.
- بسط الهيمنة الاقتصادية، وفي بعض الحالات استخدام السلاح الاقتصادي؛ وذلك لتوظيف ثروات الشعوب لخدمة المصالح الأمريكية.
- الاحتلال العسكري (أفغانستان، العراق) ، أو الاكتفاء بالتدخل العسكري واقعاً أو تهديداً.
- التهديد بالحروب الاستباقية.
- إسقاط أنظمة الحكم عن طريق الانقلابات، أو تهييج الثورات الشعبية.
- التصرف في الشؤون الدولية خارج إطار الأمم المتحدة؛ أي: مستقلة عن الإرادة العالمية، أو كما يسمونها الشرعية الدولية.
- التدخل في الشؤون الداخلية للدول، بما في ذلك الفعاليات الثقافية، والمناهج الدراسية، والأعمال الخيرية، والتشريعات القانونية، والأعراف والتقاليد المحلية.
إن سُكْرَ أمريكا بقوتها قد جعلها لا تبالي في اقتحام كل الذي ذكرته دون أن تشعر بأنها ستكون في محل محاسبة في يوم من الأيام، رغم أن المظاهرات تجوب جميع أنحاء العالم احتجاجاً على سياساتها الغاشمة، وتصرفاتها الظالمة، وتدخلاتها الحاقدة.
- بروز الأقطاب الدولية:
رغم أن المرحلة الراهنة تشكل الفرصة الذهبية لأمريكا للانفراد بالقطبية الأحادية العالمية؛ فإن الواقع الدولي في ظل التنافس المحموم، والتوجه لإثبات الذات حفاظاً على المصالح القطرية يتجه لسحب البساط من تحت أقدام أمريكا.
إن هذا الهاجس هو الذي يجعل أمريكا في سباق مع الزمن لابتزاز أكبر ما يمكن من الغنائم قبل أن تصل إلى مرحلة التوازن.
إن الأقطاب العالمية المتوقعة هي نفسها التي ذكرناها سابقاً، وهي: الاتحاد الأوروبي، وروسيا، والصين. هذا بالنسبة للعالم ككل، ولكن هناك أقطاب قارية تنفرد بها آسيا فقط، وهي: الهند، وباكستان، والصين، وإيران؛ وذلك ضمن حسابات معقدة؛ فالهند ضد باكستان والصين، وباكستان ضد الهند ومع الصين، والصين ضد الهند ومع باكستان وإيران، وإيران مع الصين، لكنها ليست ضد الهند أو باكستان. إن هذه الحسبة القطبية القارية المعقدة، جعلت كلاً من باكستان، والهند، وإيران محط أنظار الأقطاب العالمية، وهي أمريكا وروسيا والاتحاد الأوروبي؛ إذ إن كلاً منها يبني حساباته الخاصة للاستئثار بنتائج هذا الصراع القاري الآسيوي.
في الختام لا بد من الإشارة إلى عدم إغفال تأثيرات أخرى لبعض الدول: كالتأثير الياباني على الاقتصاد العالمي، وكذا الدور الاقتصادي التنموي للنمور الآسيوية (ماليزيا، وكوريا الجنوبية، وسنغافورة، وأندونيسيا) .
- العمل الإسلامي واللوحة العالمية:
كان القصد من طرح هذه الدراسة المكثفة رسم لوحة للواقع العالمي الحالي؛ بهدف توجيه أنظار الدعاة والعاملين في الحقل الإسلامي، وخاصة من هُمْ في مواقع القرار إلى خريطة الصراعات الدولية، والتواءاتها المنوّعة؛ فإن ذلك سيساعد كثيراً في وضع الخطوط العريضة للعمل الإسلامي المحلي والإقليمي والعالمي، وتأثيراته المنظورة أو المنتظرة.