[الدراسات الفقهية المعاصرة للنوازل وإشكالية الاصطلاح]
عبد الله الشريف
استأثرت الدراسات الشرعية المتعلقة بالنوازل بحيز وافر من الدراسات الشرعية بوجه عام؛ مع التأكيد على أن هذه الدراسات لم تكن وليدة هذا العصر، بل كانت موجودة في السابق؛ إذ النوازل لا زالت مستمرة، ولكل عصر نوازله. ولعل أهم ما ميز هذا العصر ما يلي:
١ - وجود نخبة من المتخصصين في هذه الدراسات سواء كانت على هيئة أفراد أو مؤسسات علمية.
٢ - استعانة كثير من المؤسسات الطبية والمالية والتقنية باللجان الشرعية.
٣ - توفر الخبرة بشكل كبير في هذه الدراسات؛ فمن الملاحظ أنه عند وجود ندوات أو دراسات حول هذه النوازل تجد أنها قد ضمت نخبة من المتخصصين الذين استعين بهم لبيان آرائهم.
وبلا شك أن هذه العوامل قد أعطت هذه الدراسات دفعة قوية أثمرت العديد من الكتب والدراسات والندوات والمجامع والمؤتمرات والدوريات العلمية؛ بالإضافة إلى أن الاجتهاد الجماعي قد ألقى بظلاله على هذه الدراسات.
وككل حركة علمية لا بد أن يصحبها ما يصحبها من جوانب قد تكون إيجابية أو سلبية، ولعلِّي أركز هاهنا على جانب واحد وهو جانب الاصطلاح ومدى تأثيره على سير هذه الدراسات.
_ مواطن الخلل في البحوث:
ويمكننا هنا أن نميز بين طرفين يمكن من خلالهما أن نقف على مواطن الخلل الذي يتطرق للبحث من خلال الاصطلاح.
١ - الفئة الأولى:
وهي الفئة التي بالغت في استخدام المصطلح على وجه أثَّر في الإدراك الكامل لماهيته ومعناه، وهذا بلا شك أثَّر تأثيراً بالغاً على الفهم الصحيح للنازلة، بل إنه تجاوز ذلك لسحب الحكم على كل ما يتفرع عن تلك النازلة من فروع، لا لشيء إلا لأنها تمتُّ بصلة لذلك الاصطلاح.
٢ - الفئة الثانية:
وهي الفئة التي استخدمت الاصطلاح استخداماً مضاداً حتى أصبح مجرد الاسم تُكأة للتحليل بمجرد اكتساب المعاملة اسماً من الأسماء الشرعية.
_ نقاط مهمة في الموضوع:
وأورد هنا بعض النقاط التي يمكن من خلالها أن نتجاوز بعض الإشكاليات التي ترد على بحوث هذه النوازل:
١- عدم التعجل:
والتعجل هو بالفعل داء الدراسات بصورة عامة ومع المطالبة الملحة بضرورة مواكبة الأحداث والنوازل ببيان حكمها الشرعي؛ إلا أن ذلك لا يعني أبداً أن تتحول العملية إلى مجرد سباق قبل اكتمال البحث ونضوجه.
٢ - المسار الواحد:
فكثيراً ما تأخذ بعض الأبحاث مساراً واحداً في الدراسة، وغالباً ما يحدث ذلك نتيجة لكون البحث عالة على دراسة واحدة غالباً ما تكون هي الأولى، ولا ريب أننا لا نتحدث هنا عن مسالة إجماعية أو اتفاقية، وإنما نتحدث عن مسالة اجتهادية كان باحثها الأول مجتهداً في تخريجه.
٣ - الحساسية المفرطة:
والتي كثيراً ما تواجه بعض الدراسات التي تمس بعض المسائل ذات الحساسية الشديدة.
٤ - الاستفادة من أهل الخبرة:
وهو أمر جرى عليه الفقهاء، ونصُّوا عليه في كثير من المسائل، وليحذر الباحث من الانزلاق في بحث المسالة قبل تصورها التصور التام والذي يفتقر في كثير من الأحيان إلى خبرة فنية محضة. وأشير هنا إلى أمرين:
الأمر الأول: الاستعانة بأكبر عدد من الخبراء؛ وهذا بلا شك سيوسع الرؤية حول تلك المعاملة ويقلل من احتمالات الخطأ.
الأمر الثاني: الحذر من تعدي الخبرة لمهمتها؛ فكثيراً ما تمتزج بعض آراء الخبرة بنظرة أو اجتهاد؛ لذا كان من المهم التأكيد أن دور الخبرة دور وصفي بحت؛ أما الحكم فمردُّه للعالم الشرعي.
٥ - العلماء العلماء:
فكثيراً ما يجترئ صغار الباحثين على بحث مسالة ليصل بها إلى رأي شاذ تماماً، ولا يعني هذا بحال قَصْرَ الاجتهاد والجمود، ولكنها وقفة تعجُّب من مسالة نازلة جديدة استغرقت فيها الهيئات العلمية الكبرى والمجامع الفقهية وقتاً طويلاً ولم تستغرق من ذلك الباحث سوى بضعة أيام.
ووقفة تعجُّب أخرى من إهمال أقوال تلك المجامع والهيئات الفقهية في دراسات أولئك الباحثين، وما أجمل البحث حين يتزين بنظرة عالم ومراجعته قبل نشره.
٦ - تعدد الدراسات:
وهذا أمر هام؛ فكثير من المواضيع تنتهي بصدور بحث أو بحثين فيها. ولا شك في أن تعدد الدراسات يثري الدراسات بالمزيد والمزيد، والخطاب هنا موجه للأقسام العلمية في الجامعات بأن تساهم بشكل فاعل وألا تغلق الأبحاث في مسألة ما لمجرد سبق بحثها، ولا سيما في المواضيع المعاصرة التي ما زالت في مهدها.
٧ - البعد عن التعميم:
فكثيراً ما تعتمد بعض الآراء على العموميات دون تفصيل وعلى وجه أخص النظر في الاعتبارات والأنواع؛ فبعض المعاملات المعاصرة لا تأخذ شكلاً واحداً؛ ولذلك ما أكثر ما يحصل الخطأ بسبب الإجمال.
٨ - نشأة الاصطلاح:
فحتى لا نسير خلف اصطلاح واحد ينبغي أن نبحث نشأة هذا الاصطلاح؛ فقد يكون وصف تلك المعاملة بذلك المصطلح ناشئاً عن اجتهاد محض محتمل للخطأ والصواب، وهو الأمر الذي يستدعي تدخل الباحث بنظرته واجتهاده لينظر مدى ملاءمة ذلك المصطلح لتلك النازلة من عدمه.
٩ - التخريج:
وهو أهم مرحلة في دراسة النازلة بعد مرحلة التصور؛ كما أنه أدق مرحلة. وفي هذه المرحلة بالذات تتفاوت الآراء والاجتهادات لتصل إلى العشرات أحياناً، وأهم ما يطلب في هذه المرحلة توافر القوة العلمية والتأصيل الشرعي لدى الباحث ليتمكن من الوصول السليم لحكم المسألة؛ فهناك فقه الضرورات، وفقه المقاصد والمآلات والنظر لأحوال المخاطب؛ وكل هذه الأدوات وغيرها تستدعي لزاماً تَمَكُّنَ الباحث قبل الولوج في بحث هذه النوازل.
وختاماً فهذه ليست دعوة للتقيد كما قد يتبادر إلى الذهن، وليست دعوة للخروج عن الاجتهاد العام؛ فكما أن بعضنا يعاني من الاستعجال في التحريم؛ ففي ذات الوقت يعاني آخرون من التحليل المستعجل؛ وإنما هي دعوة للوصول السليم للرأي الصواب الذي تبرأ به الذمة أياً كانت النتيجة حِلاًّ أو حُرمة.