افتتاحية العدد
نحو ترشيد للصحوة الإسلامية.. بالحوار حولها
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه،
أما بعد.
مرت الدعوة الإسلامية المعاصرة في عقودها الأخيرة بتجارب مختلفة - وهي
كجهد بشري - لها سلبياتها وإيجابياتها؛ نتيجة مدى قربها أو بعدها من مشكاة النبوة؛ مما جعل الغيورين على هذه الدعوة يطالبون بضرورة المراجعة والحوار لحل
الإشكاليات التي أدت إلى سلبيات لا تخفى على الجميع، فما الهدف - إذن - من
نقد الصحوة الإسلامية..؟ !
هل هو: النقد من أجل النقد، وملء صفحات المجلة بلون من ألون الترف
المعرفي؟ !
هل هو سبيل لتزكية الذات وإلقاء التبعة على الآخرين؟ !
أم هو وقفة تقويميه تلائم المفترق الذي تمر به الصحوة الإسلامية؟ !
كانت تلك الأسئلة تراودنا كثيراً عند إعدادنا لملف (متابعات حول نقد الصحوة
الإسلامية) المنشور في العدد السابق، وكنا نقدّم رجلاً ونؤخر ثانية، ولكننا أخيراً
... رأينا أن نستعين بالله (تعالى) وننشر ما وَصَلنا من مشاركات الكُتّاب، ونرجو
أن يكون القراء قد وجدوا فيها ما يستحق العناية والتقدير ... وثمّة ملحوظات مهمّة
أردنا أن نؤكد عليها في فاتحة هذا العدد:
أولاً: الذين يخافون من النقد لهم بعض الحق في ذلك؛ فالصحوة الإسلامية
المعاصرة أصبحت مادة عذبة وفاكهة شهية للأقلام الحاقدة الحاسدة، التي صوبت
سهامها لمحاربة كل أو بعض أبواب التدين، وسعت بكل إمكاناتها وقدراتها لتجفيف
منابعه وسدّ أبوابه، وأجلبت بخيلها ورجلها لحرب علمائه ودعاته ... ! !
وكذلك فبعض الناقدين يتحدثون بصورة الاستعلاء والفوقية وتحقير الخصوم،
وينظرون إلى الناس نظرة ازدراء واستهانة؛ فترى شغلهم الشاغل وهمهم الغالب
هو: افتعال الخلاف، وتصيد العثرات وتضخيمها بصورة تطغي على رؤيتهم؛
فتحجب عليهم منافذ الرؤية والرأي..! !
ولكننا في الوقت ذاته لا نرى أنّ الأقلام الشانئة الحاقدة، أو الجاهلة المتنطعة، تحجبنا عن البحث عن الحقيقة، أو سلوك السبيل القويم.
ونحسب أنّ النقد العلمي البناء من المحب المشفق، الصادق، نعمة عظيمة ثمرتها: معرفة النقص أو القصور لعلاجها وتداركها، وبالتالي: الترقي في درجات النضج والكمال.
إنّ التناصح باب عظيم من أبواب التعاون على البر والتقوى، حثّ عليه
الشرع، وتواترت به النصوص، ولأن يأتي هذا التناصح من داخل البيت الواحد
بصوت مشفق حنون مخلص، خير من أن يأتي من خارجه وقد علته الغبرة،
ودفعه الهوى أو البغض والعياذ بالله (تعالى) .
وعندما فتحنا ذلك الملف، كنا نستحضر المكتسبات العظيمة، والمنجزات
الكبيرة التي قدمتها الصحوة الإسلامية عبر تاريخها المعاصر في شتى المجالات
(الدعوية والعلمية والاجتماعية والسياسية.. ونحوها) . والنقد الذي نطمح إليه هو
وسيلة من وسائل حفظ تلك المكتسبات، بل تنميتها وتطويرها وتسديدها لتحقيق
أكبر قدر ممكن من النجاح إن شاء الله (تعالى) .
ثانياً: أنّ الصحوة الإسلامية المعاصرة بتاريخها الطويل، ومكتسباتها العديدة، وامتدادها الرحب الواسع الذي ملأ الآفاق، لا يتيسر نقدها نقداً شاملاً وعميقاً
بمقالة عابرة أو بسلسلة مقالات مهما بلغت جودتها، ولا يتيسر تقويمها تقويماً
متكاملاً من شخص واحد أو عدة أشخاص اختزلت تجربتهم الدعوية والفكرية في
نطاق محدود، وإنما يحتاج تقويم الصحوة إلى جهود كثيرة تتضافر، ومراكز بحثية
متخصصة تنتج أفكاراً تتلاقح؛ لينضج بعضها بعضاً، ولكن حَسْبُنا في ذلك الملف: أننا أسهمنا في تجديد هواءٍ ساكن، وتحريك ماءٍ راكد، ولعل هذا يستحث أهل
العلم والكفاءة للمساهمة معنا بتعليقاتهم واجتهاداتهم.
ثالثاً: احتوى ملف (متابعات حول نقد الصحوة الإسلامية) على مسائل عديدة، وناقشها من زوايا وأبعاد مختلفة، ممّا يعطيه صبغة الشمول النسبي.
ولكن افتقد الملف محاور مهمة جداّ، كنا نتمني أن تتم معالجتها وتدارسها،
ولم يتيسر ذلك.
ومن أبرز هذه المحاور:
المحور الأول: التقويم الشرعي والفكري لمسيرة الصحوة الإسلامية:
لا يخفى على كلّ متابع أن هناك مدارس مختلفة في فهم النص الشرعي
ومنهج تلقيه والتعامل معه؛ ممّا جعل هناك تبايناً واضحاً في طرائق الاستدلال
والمعرفة، وأساليب التفكير والتربية، وبالتالي: أدى ذلك إلى الاختلاف في
توصيف الواقع وتحديد مشكلاته وخصائصه؛ ولهذا نرى أطروحات مختلفة في
مناهج التغيير والدعوة والفكر والبناء، تصل إلى حدّ الغلو والإفراط أحياناً، وتنزل
إلى حدّ الإرجاء والتمييع أحياناً أخرى، وبين هذين البعدين مدارس أخرى كثيرة
تقرب وتبعد من المنهج الحق.
ونحسب أنّ التقويم المعرفي والفكري، ونقد الخطاب الدعوي، وما يتبع ذلك
من دراسة مناهج التغيير: جانب في غاية الضرورة والأهمية؛ لأنه السبيل لمعرفة
منهاج الفرقة الناجية السالمة من الشبهات والشهوات التي وصف الله (تعالى) طريقها
بقوله: [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ
وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ] [يوسف: ١٠٨]
المحور الثاني: التصدع الداخلي في بعض صفوف أهل الصحوة الإسلامية:
على الرغم من الخير الكثير الذي قدمته الصحوة، وعلى الرغم من الانتشار
الواسع الذي انتظم شريحة كبيرة من أبناء المسلمين، إلا أنه ممّا تضيق به صدور
المخلصين من العلماء والدعاة والمصلحين: وجود ذلك التنازع والتقاطع بين أبناء
البيت الواحد، بل التهارش والتدابر، بل البغي والظلم (! !) الذي أنهك الطاقات
وأعجزها، حتى أصبحت الحزبية بمعالمها المختلفة شرخاً غائراً يسيطر على بعض
الصفوف، ويعوقها عن العمل الجاد والمثمر، وأصبح والعياذ بالله معيار الولاء
والمحبة عند بعضهم مقدار قربهم أو بعدهم من الحزب..! !
لقد استعرت نيران الحزبية عند بعضهم بصورة محزنة جداّ، حتى استطاع
الأعداء أن ينفذوا من خلالها لتفريق الصفوف وضرب بعضها ببعض، وصدق
الحق (تعالى) بقوله: [وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ] [الأنفال: ٤٦] .
المحور الثالث: الضعف الإداري والفني:
الضعف الإداري والفني سمة مميزة لمعظم أبناء ومؤسسات المنطقة الإسلامية بسبب الظروف السياسية والاجتماعية التي مرت بها الأمة، وأبناء الصحوة
الإسلامية جزء لايتجزأ من هذا النسيج الواسع، حيث أصابها ما أصابهم من عدوى
الضعف وأحياناً التخلف الإداري والفني، وظهرت علامات ذلك عند بعضهم ضعف
الخطط والبرامج الآنية والمرحلية والدراسات المستقبلية، وقصور في تحديد
الأولويات، وعجز ظاهر في توظيف الطاقات والإمكانات المتوفرة، وتخبط في
ردود الأفعال، وأصبح بعض أبناء الصحوة الإسلامية يجترون تجارب سابقة،
ويستنسخونها بآلية ساذجة، وبدون وعي بالمتغيرات الإقليمية والدولية! !
تلك إذن: محاور جديدة مقترحة لمزيد من الحوار وتبادل الرأى، نتمني أن
يتحفنا بدراستها وعلاجها أولو الرأي والحكمة والخبرة، وأبواب المجلة مشرعة إن
شاء الله (تعالى) لكل رأى جاد مخلص.
ونؤكد ختاماً أنّ الهدف من هذا الحوار كله هو: التناصح والتواصي بالحق بعيداً عن الهمز أو اللمز أو التعالي والتشفي، يحدونا في ذلك قول الله (تعالى) : ... [وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ] [هود: ٨٥] وقول النبي-صلى الله عليه وسلم-:
(ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا) .
اللهم أرنا الحق حقّاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.