قصة قصيرة
[وانطفأت شمعة الأمل]
أم أسامة [*]
في وسط صحراء مخيفة.. كثيفة الظلام.. بعيدة عن أضواء المدينة.. مكان
مهجور.. لا يوجد فيه سوى الأتربة المتطايرة.. والأحجار المتناثرة.. والتلال
البعيدة.. في ذلك المكان كانت نهايتي.. فهل تعرف من أنا..؟
أنا فتاة في عمر الزهور.. أغرتني صاحبتي ببريق لامع من بعيد.. بريق
الحياة الزوجية.. حيث طلبتني للزواج من أخيها.. فسرت معها بطريق لا أعرف
نهايته.. فأصبحت تتحدث عنه بالقصص والحكايات.. فأعجبت به قبل أن أعرفه
أو أعرف صدق هذه الكلمات ... وبعد فترة قصيرة طلبت مني أن أهاتفه ليسمع
موافقتي ويتقدم لخطبتي.. فوافقت دون تفكير.. وبعيداً عن الأنظار.. أجد نفسي
أمسك سماعة الهاتف.. أتحدث معه.. وكانت هذه أول خطوات اللعب بالنار..
حيث أصبحت المكالمة تجر الأخرى.. فنجح في تسلق جدران قلبي.. وأصبحنا
نرسم طريق حياتنا.. ولكن من بين تلك المكالمات فاجأني بطلب رؤيتي ودون علم
من أهلي وبعيداً عن منزلي.. فرفضت في البداية.. ولكن بعد محاولاته الطويلة..
ووعوده الموثوقة.. وإلحاح أخته المستمر.. الصديقة التي زينت لي هذا الطريق
.. عند هذا كله وافقت..
وافقت في وقت أصبحت به أسيرة لرغباته.. وافقت في وقت حطمت به
أبواباً مغلقة.. وتدرجت بسلم الآثام.. وسرت به بخطى سريعة.. وافقت في وقت
كانت رقابة أهلي تشكو من أوجاع دائمة.. وكسور يصعب جبرها.. تشد أعينها..
وتصم آذانها.. ويلفها رداء الإهمال..
وافقت في وقت نسيت به كلام الشاعر الذي يقول:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل ... خلوت ولكن قل عليّ رقيبُ
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ... ولا أن ما يخفى عليه يغيبُ
نعم وافقت وكانت هذه الخطوة من أخطر خطوات اللعب بالنار.. فبعد خروج
أهلي من المنزل.. واعتذاري عن الذهاب معهم.. بأسباب اختلقتها.. وعند اقتراب
ساعة اللقاء.. أحسست بخوف شديد وخفقان متزايد.. فحاولت تهدئة روعي..
بأنها أول مرة أخرج بها.. ولكن الذي سأخرج معه سيكون زوجاً لي يوماً ما.. فَلِمَ
هذا الخوف؟! .. وفي هذا الوقت يقترب من باب منزلي.. وأجد نفسي أفتح باب
سيارته لأستقر فيها.. وفي وقت بدأ بحديثه المعطر بقصائد شعره.. أجد نفسي
بعيدة عن أضواء المدينة.. في طريق مظلم.. فكلمته عن تأخري..
وطلبت منه إرجاعي إلى منزلي.. فرفض وهو يضحك استهزاءً مني.. فقلت له:
أين وعودك الموثوقة.. وعهودك المغرية؟ .. ولكنني أتفاجأ بالرد وهو يقول:
وهل صدقتني بأن أتزوج ممن تسمح لنفسها بالخروج مع شخص لا تعرفه؟ ..
حينها أصابتني صدمة كبيرة.. وأنا أرى تحول الحمل الوديع إلى ذئب مفترس..
فأين وعودك أيتها الصديقة؟ .. أين الطريق الذي رسمته لي؟ .. الطريق الذي
نثرت فيه الورود.. وجعلت حوله الأنهار تجري.. وتطفو عليها أوراق الأزهار..
وتنبت حولها الحشائش الخضراء.. والطيور تغرد من فوقها؟ .. أين الشموع التي
جعلتني أمسك بها؟ .. ولكنني أتفاجأ بتحول النهر إلى مستنقع للرذيلة.. تطفو عليه
الضفادع.. وتعلوه الخفافيش.. وتتحول الورود إلى أشواك.. والشموع إلى شعلة
من النار تحرقني.. حينها بدأت بالصراخ.. ولكن من يسمعني في هذا المكان؟
وفي ساعة تحطمت فيها جميع الأحلام.. في وقت لم أملك فيه سوى دموع
تنزف.. وصوت عالٍ ينادي بمن حولي.. ولكنها لم تنجح في تخفيف معاناتي..
فلا أحد يرد على ندائي.. سوى صدى صوتي الذي يقول: هذا ما جنته يداكِ.. ثم
أجد نفسي وسط تلك الصحراء المخيفة.. حيث ينتهي أجلي بطعنات سكينة..
بعد أن سقاني من مر كأسه وولى هارباً..
فالآن يا أرضُ أقترب من ثراك لألفظ أنفاسي الأخيرة.. ومع كل زفرة من
زفرات موتي أخرج حروفاً.. أنحتها على جسدي.. فقلمي سكيني.. وحبري دمي
.. حروف تجتمع لتسطر قصتي.. فاحذري أختاه.. ولا تكوني زهرة قطفت من
بين الزهور.. وفقدت رائحتها.. ثم رميت في وسط الطريق لتسحقها الأقدام..
ليتني أستطيع جمع أوراقي المبعثرة.. لأحكي فيها تجربة قاسية دفعت حياتي ثمناً
لها.. وتبقى رمزاً لكل فتاة تعيش في وسط صراعات.. وكيف يجرها التيار إلى
طريق شائك لنهاية مسدودة.. ليتني أستطيع إخبار أهلي بحالي.. فالآن يا أمي
شمعة منزلك انطفأت.. وأنا التي أطفأتها بيدي.. فابنتك كانت أسيرة لأهوائها..
فلا تبكيني يا أمي؛ فأنا لا أستحق دموعك.. والآن أودعك لأسترسل في نوم عميق
.. نوم لا يوقظني منه صوتك الحنون.. ولا ضحكات أخي الصغير.. نوم لا أملك
قبله سوى أن أقول..
أرى العُمْرَ قد ولى ولم أدرك المنى ... وليس معي زاد، وفي سفري بُعْدُ
وقد كنت جاهرت المهيمن عاصياً ... وأحدثت أحداثاً وليس لها رَدُّ
وأرخيت خوف الناس ستراً من الحيا ... وما خفت من سري غداً عنده يبدو
أنا عبد سوء خُنْت مولاي عهده ... كذلك عبد السوء ليس له عَهْدُ
فكيف إذا أحرقت بالنار جثتي ... ونارك لا يقوى لها الحجر الصلدُ
أنا الفرد عند الموت والفرد في البلى ... وأبعث فرداً فارحم الفرد يا فردُ
(*) كلية الدعوة، جامعة الإمام.