للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[فضيلة الشيخ: عبد الي يوسف يتحدث إلى البيان:]

حول التدخل الأجنبي في دارفور

متابعة: خباب بن مروان الحمد

سيناريو التدخل الأجنبي في السودان قد بدت نُذُره من أمد بعيد، لكن الناس لم يتنبهوا إلى ذلك إلا أخيراً، ففي أوائل حقبة التسعينيات من القرن الميلادي الماضي كانت حركة التمرد الجنوبية ـ بزعامة قرنق ـ تدير معاركها ضد حكومة الإنقاذ من داخل أراضي الدول المجاورة ـ تارة أثيوبيا وتارة أوغندا وتارة كينيا وأخيراً إريتريا ـ وغير خافٍ وجود الخبراء الإسرائيليين معهم، كما أن بعض المسؤولين الأمريكيين ـ كمادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية في عهد كلينتون ـ كانت تزور تلك الدول وتحثهم على مزيد دعم للمتمردين، ومحادثات السلام التي دارت أعواماً بين الحكومة ومتمردي الجنوب قد أشرفت عليها أطرافٌ أجنبية ليس فيهم عرب ولا مسلمون، بل تولَّى الأمر أمريكا وبريطانيا وإيطاليا والنرويج مع دول الإيقاد، وقد تمخض عن هذه المحادثات اتفاقية نيفاشا التي نصت على وجود قوات أممية تراقب تنفيذ الاتفاقية وتضمن عدم خرقها من أي الأطراف، وقبلها اتفاقية جبال النوبة التي أشرف عليها المبعوث الأمريكي دانفورث ـ مندوب أمريكا في الأمم المتحدة لاحقاً ـ التي فعلت الشيء نفسه.

وفي أزمة دارفور التي نشبت منذ سنوات معدودة كانت وتيرة التدخل الأجنبي سريعة، حتى إن أربعة قرارات من مجلس الأمن قد صدرت بخصوصها، كما أن الكونجرس الأمريكي والاتحاد الأوروبي نالا حظهما من قرارات مماثلة تشجع على التدخل المباشر، وها هنا أعرض جملة من الحقائق:

أولاً: ما سبب نقمة القوى الاستعمارية على السودان وحكومته؟

للإجابة عن هذا السؤال أقول: إن حكومة الإنقاذ قد ارتكبت ـ وفق العرف الدولي ـ جملة من الموبقات التي لا يمكن أن تُغفر لها، ومن ذلك:

٣ إعلانها عن معارضتها لدخول القوات الأمريكية في حرب الخليج الثانية التي نتجت عن غزو صدام للكويت ١٩٩٠م.

٣ قيامها بطرد السفير البريطاني عام ١٩٩٤ في سابقة لم تحدث قريباً من دولة من دول العالم الثالث، وذلك بسبب قيام السفير بتيسير دخول أسقف كانتربري إلى مناطق محتلة من المتمردين في الجنوب دون علم الحكومة.

٣ استضافتها لمجموعة كبيرة من عناصر القاعدة في الفترة من ١٩٩١ ـ ١٩٩٦م.

٣ إعلانها المتكرر عن رغبتها الأكيدة في إقامة المشروع الحضاري ـ النهج الإسلامي ـ وسعيها لتجييش الشعب لبلوغ هذه الغاية، وتربية قطاعات عريضة من الشباب على مفاهيم جهادية، بل إعلانها الجهاد مراراً، وآخرها عقيب التلويح بالتدخل الأجنبي في دارفور.

٣ ما قامت به من خطوات في سبيل حصول نوع من الاستقلال الاقتصادي العسكري عن المنظومة الدولية الاستعمارية؛ حيث استخرجت البترول واستغلته بتعاون صيني ماليزي بعيد عن الهيمنة الأمريكية، كما أنشأت عدداً من قطاعات التصنيع الحربي.

وفي مقابل ذلك عمدت الحكومة إلى محاولة طمأنة المجتمع الدولي ـ وعلى رأسه أمريكا ـ وذلك باتخاذ خطوات عديدة منها:

٣ أبدت الحكومة تعاوناً كبيراً ـ باعتراف الأمريكان ـ فيما يسمى بمكافحة الإرهاب حيث دفعت بكل المعلومات التي عندها للأمريكان، عقيب أحداث الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١، كما قامت بإبعاد أو تسليم من بقي منهم بالسودان

٣ توقيع اتفاقية السلام مع متمردي الجنوب بزعامة قرنق، مع ما في هذه الاتفاقية من سوء في رأي كثيرين، كإعطائها الجنوبيين حق تقرير المصير بعد مضي ست سنوات على توقيعها، وتمكينهم من حكم الجنوب كله، مع مشاركتهم في حكم الشمال، وتفاصيل أخرى في قسمة الثروة والسلطة.

٣ القبول بدخول قوات الاتحاد الأفريقي لحفظ السلام في دارفور، مع أن هذه القوات قد جيء بها من دول تعاني من مشكلات تربو بكثير على مشكلات السودان، وهي متهمة بأن أفرادها مصابون بمرض الإيدز، وأسقطت الحكومة ـ تحت ضغط دولي ـ شرطها في وجوب إخضاعهم لكشف طبي قبل مباشرتهم المهام التي أوكلت لهم.

٣ القبول بشروط الأمين العام للأمم المتحدة في فتح البلاد ـ بمطاراتها وموانئها ـ أمام بعثات ومنظمات الأمم المتحدة، وعدم اشتراط الحصول على تأشيرة دخول، أو تقييد حركتهم داخل البلاد، ومن أعجب ذلك أن طائرات الأمم المتحدة الآن تحتل نحو ثلث مطار الخرطوم، ولهم بوابة خاصة لا يدري أحد ما يُدخِلون منها أو ما يخرِجون عبرها، وممثل الأمين العام ـ يان برونك ـ يتصرف في السودان وكأنه المندوب السامي البريطاني سابقاً أو الحاكم العسكري الأمريكي للعراق لاحقاً؛ حيث ينتقد تصرفات الحكومة بصورة لاذعة، ويذرع البلاد شمالاً وجنوباً، ويدس أنفه في كل قضية بغير حياء، وأحياناً بجهل تام ومعلومات مغلوطة.

ثانياً: هل أجدى تجاوب السودان في تخفيف وطأة الحصار عنه؟

أقول: بعد كل هذا صدرت القرارات الجائرة من قِبَل الأمريكان والأمم المتحدة حتى صار لدى الحكومة قناعة بأن لا فائدة من التجاوب معهم أو الاستجابة لشروطهم، والكل يذكر كيف أن وزير الخارجية الأمريكي السابق ـ كولن باول ـ قد بذل الوعود بأنه في حال توقيع اتفاق السلام مع متمردي الجنوب سيُرفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وسترفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على الحكومة، وستعمل أمريكا على عودة السودان لمنظومة المجتمع الدولي ورفع العزلة عنه، وبعد توقيع الاتفاق تبين أن تلك الوعود {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور: ٣٩] بل زادت وطأة الضغوط الغربية، وصدرت تصريحات التهديد والوعيد.

ثالثاً: هل يتوقع استجابة الحكومة للضغط الدولي؟

أقول: إن المتأمل في تسلسل الأحداث يجد نفسه مدفوعاً إلى رفض هذا التدخل الدولي لاعتبارات عدة، منها:

٣ ما استقر لدى الناس من تجارب معاصرة ـ تجربة صدام خير مثال ـ أن سقف المطالبات الدولية لا حد له، وكلما استجاب الطرف الضعيف لمطلب توالت عليه الضغوط، وفي مثل حالة السودان لا يبعد أن تأتي هذه القوات إلى دارفور تحت دعوى حفظ الأمن، ثم تتسع مهمتها لتشمل مناطق أخرى حتى تصل إلى المركز.

٣ الهدف من مجيء هذه القوات إضعاف حكومة الشمال وإظهارها بمظهر العاجز عن ضبط الأمن ومنع التجاوزات، خاصة إذا علمنا أن مطالب ـ تشبه مطالب متمردي دارفور ـ يطرحها متمردو شرق السودان من قبائل البجا والهدندوة والرشايدة.

٣ لا يبعد أن يكون من بين أهداف مجيء تلك القوات إنفاذ قرار مجلس الأمن في إخضاع قائمة من واحد وخمسين مسؤولاً لمحاكمات جنائية بدعوى ارتكابهم جرائم ضد الإنسانية في دارفور، فتتكرر مأساة صدام في العراق، وأورتيجا في بنما؛ لكن هذه المرة باسم الأمم المتحدة.

٣ تثور مخاوف من أن يكون مجيء تلك القوات بهدف تمكين الجنوبيين من مسعاهم في إقامة ما يسمى بالسودان الجديد ـ يعنون به السودان العلماني ـ بما في ذلك الشمال المسلم، بعد أن مكنتهم الاتفاقية من الجنوب واستثنته من حكم الشريعة، خاصة إذا استصحب المتأمل قرارات محاكمة المسؤولين؛ إذ قد يحاكَمون ويُقبض عليهم ويُنصَّب غيرهم، كل هذا تحت مظلة القرارات الأممية والقوات الأممية، وليس بالضرورة أن يكون المنصَّب من قِبَلهم جنوبياً كافراً، بل يمكن أن يكون ـ بالاسم والصورة ـ شمالياً مسلماً لكن ليس له من الأمر شيء، بل هو كرزاي من طراز سوداني.

٣ دخول هذه القوات مُؤْذِنٌ بتمزيق السودان؛ إذ إن سعة مساحته مع تباين أعراق أهله ومعتقداتهم وضعف السيطرة على حدوده ينذر بحصول انفلات أمني لا تُدرى عواقبه، والعراق خير مثال، ولعل بعض الغربيين متخوف من مثل هذا وقد صرح بعضهم به، وبعض المسؤولين لوَّح ـ من باب التخويف ـ بأن السودان سيكون نقطة انطلاق لعمليات القاعدة.

رابعاً: ما الذي يمكن عمله لتفادي الآثار المدمرة التي يمكن أن تحصل؟

أقول: لا زال الأمل معقوداً على إنجاز جملة مصالح منها:

٣ تسريع الوصول إلى اتفاقية سلام تحقن دماء المسلمين في دارفور، رغم قناعة الجميع بأن المتمردين الذين يحملون السلاح لا يمثلون أهل دارفور، بل يمثلون أنفسهم ومن يأتمرون بأمره من دهاقنة السياسة العالمية، ولعل في رفع التمثيل الحكومي في المفاوضات ـ بمستوى نائب الرئيس ـ ما يبعث الأمل في النفوس بقرب التوصل إلى اتفاق إن شاء الله.

٣ كفكفة آثار الاحتراب والاختلاف في شرق السودان؛ بإعطاء أهل الشرق ما يؤمِّلون في حدود الممكن، لقطع الطريق على أسباب التدخل الأجنبي.

٣ أن يكون موقف الحكومة واضحاً لا لبس فيه في رفض التدخل الأجنبي، مع بيان أن هذا الذي يراد للبلاد إنما هو احتلال صارخ واستعمار مقنع، حيث تسيطر قوة أجنبية كافرة على بلاد المسلمين لتحكمها مباشرة ـ كما حدث في فلسطين ـ أو عن طريق صنائعها وعملائها ـ كما هو في العراق وأفغانستان ـ ولا يلغي هذا الوصف صدور قرار من الأمم المتحدة، وإلا لكان الحادث في فلسطين لا يسمى احتلالاً لكونه صادراً عن الأمم المتحدة فيما عُرف بقرار التقسيم، والمبادرة إلى إعلان الجهاد وتعبئة الشباب ورفع الروح المعنوية؛ وذلك من خلال إجراءات مرتبة لا فورة سريعة تتمثل في مظاهرات ومسيرات سرعان ما تخبو جذوتها ولا يتحقق الغرض منها.

٣ السعي إلى توضيح القضية للشعوب المسلمة في طرح قوي نتجاوز به القيادات التي لا تصنع شيئاً، ولعل تجربة إخواننا في حماس مثال جيد لحصول دعم شعبي يتجاوز الأطر الرسمية التي تأتمر بإرادة الشرعية الدولية كما يسمونها.

٣ العمل على تقوية الجبهة الداخلية من خلال رفع المظالم والسعي إلى جمع الكلمة ووحدة الصف عن طريق إحياء مشروع أهل القبلة؛ عملاً بقوله ـ تعالى ـ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: ١٠٣] وحذراً من العقوبة القدرية: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: ٤٦] ولْيَسْعَ في ذلك أهل العلم والدعاة إلى الله ومشايخ الجماعات والطرق.

٣ أن يسعى المربون وأهل التوجيه إلى العمل على إعادة الثقة للناس، وبأنهم قادرون على العمل لو أرادوا، وأنهم ليسوا نعاجاً يُذبَحون متى ما أراد عدوهم ذلك، بل عليهم أن يستعيدوا شعورهم بذاتهم، وليتذكروا ما قام به الأسلاف في عهد قريب ـ على أيام الثورة المهدية ـ حين قتلوا واحداً من أعظم قادة الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس ومرَّغوا أنوف الصليبيين في التراب.