[وقفه مع الثقة بالنفس]
فوز بنت عبد اللطيف كردي
الدعوة إلى الثقة بالنفس ... جُملة جميلة برّاقة.
كلمات يرسم لها الخيال في الذهن صورة خلابة ظلالها بهيجة، تعال معي ـ أيها القارئ الكريم ـ نتأمل جمالها:
إنها صورة ذلك الإنسان الذي يمشي بخطوات ثابتة وجنان مطمئن.
إنها صورة ذلك الصامد في وجه أعاصير الفتن.
إنها صورة ذلك المبتسم المتفائل برغم الصعاب.
إنها صورة ذلك الذي يجيد النهوض بعد أي كبوة.
إنها صورة ذلك الذي يمشي نحو هدفه لا يتلفت ولا يتردد.
ما أجملها من صورة! لذلك تجد الدعوة إلى «الثقة بالنفس» منطلقاً لترويج كثير من التطبيقات والتدريبات؛ فكل أحد يطمح في أن يمتلكها، وكل أحد يود لو يغيّر واقع حياته عليها.
ولكن قف معي لحظة وتأمل هذه النصوص:
{هَلْ أَتَى عَلَى الإنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا} [الإنسان: ١] .
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: ١٥] .
{وَخُلِقَ الإنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: ٢٨] .
{وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: ٢٣ - ٢٤] .
{إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: ٥] .
وتفكّر معي في معاني هذه الدعوات المشروعة:
اللهم إني عبدك وابن عبدك، وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حُكمك.
أبوء بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي فاغفر لي.
اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك فإنك تعلم ولا أعلم.
اللهم لا حول ولا قوة لي إلا بك.
اللهم إني أبرأ من حولي وقوتي إلى حولك وقوتك.
اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي.
اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا أقل من ذلك فأَهْلَك.
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك.
ألا ترى معي ـ أيها القارئ الكريم ـ أن النفس التي تتربى على هذه النصوص تعترف بعجزها وفقرها، وتُقرّ بضعفها وذلها، ولكنها لا تقف عند حدود هذا الاعتراف فتعجز وتُحبط وتكسل، وإنما تطلب قوّتها من ربها، وتسعى وتعمل وتتذلل لمن بـ «كن» يهبها القدرة على ما يريد، ويُلين لها الحديد، ويعطيها فوق المزيد.
هذه ـ يا أحبة ـ هي طريقة الإسلام في التعامل مع النفس، والترقي بها، وتتلخص في:
ـ تعريفها بحقيقتها؛ فقد خلقها الله من عدم، وجبلها على ضعف، وفطرها على النقص والاحتياج والفقر إليه.
ـ دلالتها على المنهج الذي يرفعها من هذا الضعف والفقر جُبلت عليه، لتكون برغم صفاتها هذه أكرم خلق الله أجمعين! إنه تكريم تتجاوز به مكانة من خلقهم ربهم من نور، وجبلهم على الطاعة، ونقّاهم من كل خطيئة «الملائكة الأبرار» !
ـ تذكيرها بعَدُوِّها الذي يريد إضلالها عن طريق الله المستقيم بتزيين طرق غواية تشتبه به، وتحذيرها من اتباعه، وبيان طرق مراغمته.
إنه منهج تعترف فيه النفس بفقرها وذلها إلى الله، وتتبرأ من حولها وقوتها، وتطلب من مولاها عونه وقوته وتوفيقه وتسديده، فيعطيها جل جلاله، ويكرمها ويُعليها.
منهج تعترف فيه بضعفها واحتياجها، وتستعين فيه بخالقها ليغنيها ويعطيها، ويقيها شر ما جبلها عليه؛ فيقبلها ويهديها، ويسددها ويرضيها.
منهج تتخذ فيه النفس أهبة الاستعداد لعدوها المتربص بها ليغويها؛ فتستعيذ بربها منه، وتدفع شر ذلك العدو بما شرع لها؛ فإذا كيده ضعيف، وإذا قدراته مدحورة عن عباد الله المخلصين؛ فقد أعاذهم ربهم وكفاهم وحماهم وهو مولاهم؛ فنعم المولى، ونعم النصير!
إنه منهج يضاد منهج قارون: {إنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص: ٧٨] .
إنه منهج ينابذ منهج الأبرص والأقرع: «إنما ملكته كابراً عن كابر» .
إنه منهج يتبرأ صاحبه أن يكون خصيماً مبيناً لربه الذي خلقه ورباه بنعمه، أو ينازعه عظمته وكبرياءه.
إنه منهج لا يتوافق مع مذهب «القوة» الذي يقول زعيمه «نيتشه» : سنخرج الرجل السوبرمان الذي لا يحتاج لفكرة الإله!
إنه منهج يصادم (الثيوصوفي وليام جيمس) ومذهبه البراجماتي، ومطبقي فكرة باندلر وجرندر، ومن بعدهم، وإبراهيم الفقي: «أنا أستطيع.... أنا قادر.... أنا غني ... أنا أجلب قدري ... » .
تأمل هذا ـ أيها القارئ الكريم ـ ولا يشتبه عليك قول الله ـ عز وجل ـ: {وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ} فقد جاء بعدها {إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: ١٣٩] ؛ فمنه يستمد العلو، وبدوام الإلحاح والطلب منه تحقق الرفعة.
احذر ـ أخي ـ ولا يشتبه عليك قول الرسول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف» ؛ فالمؤمن القوي ليس قوياً من عند نفسه، ولا بمقومات شخصيته، ولا بتدريباته وبرمجته للاوعي! وإنما هو قوي لاستعانته بربه، وافتقاره إليه وتذلله بين يديه، وثقته في موعوداته الحقة.
تأمل كلمات القوة من موسى ـ عليه السلام ـ أمام البحر والعدو وراءه: {كَلاَّ إنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: ٦٢] .. لم يثق بنفسه وقد أُعطي ـ عليه الصلاة والسلام ـ من المعجزات وخوارق العادات ما أعطي! وإنما كانت ثقته بتوكله على الذي يستطيع أن يجعله فوق الإمكانات البشرية، بل يجعل لعصاه الخشبية قدرات لا يستطيعها أساطين الطقوس السحرية.
تأمل ـ أخي الكريم ـ هذه الكلمات النبوية «استعن بالله ولا تعجزن» .
إنها كلمات الحبيب -صلى الله عليه وسلم- يربي أمته على منهج الإيجابية والفاعلية، ليس على طريقة أهل البرمجة اللغوية العصبية.
لم يقل: تخيل قدرات نفسك.
لم يقل: أيقظ العملاق الذي في داخلك وأطلقه.
لم يقل: نوّم الواعي وخاطب اللاواعي لديك برسائل إيجابية، وبرمجْهُ برمجةً وهمية؛ وإنما دعاك ـ عليه الصلاة والسلام ـ إلى الطريقة الربانية، وخاطبك مخاطبة عقلية بعبارات إيمانية «استعن بالله ولا تعجزن» .
فاستعن به وتوكل عليه، ولا تعجزن بالنظر إلى قدراتك وإمكاناتك؛ فأنت بنفسك ضعيف ظلوم جهول، وأنت بالله عزيز، أنت بالله قادر، أنت بالله غني.
ومن هذا الوجه، ومن منطلق فهم معاني العبودية وفقه النصوص الشرعية قال الشيخ الكريم والعلاَّمة الجليل بكر أبو زيد ـ حفظه الله ـ في كتابه «المناهي اللفظية» : إن لفظة الثقة بالنفس لفظة غير شرعية ووراءها مخالفة عقدية.
فيا أخا الإسلام! إن رجوت ـ في زمان تخلُّف عامٍّ يعصف بالأمة ـ رفعة وعزة ونهضة وإيجابية.
وإن أردت قدرات اتصال وتواصل ـ على الرغم من الصعاب ـ بفاعلية.
وإن رغبت في نقض الإحباط عنك، والتطلع إلى الحياة بنظرة استشرافية تفاؤلية؛ فعليك بمنهج العبودية على المنهاج المحمدي، ودع عنك طريقة (باندلر وجرندر) الإلحادية؛ فوراءها فلسفة ثيوصوفية، وثقة وهمية ممزوجة بطقوس سحرية، وقدرات تميّز مادية تشهد على إخفاقها فضائحهم الأخلاقية، ومرافعاتهم القضائية التي ملأت سيرتهم الذاتية.
فحذار من هذه التبعية إلى جحر الضب الذي حذرك منه قدوتك -صلى الله عليه وسلم-، وحذارِ من استبدال الطريقة الربانية بتقنيات البرمجة اللغوية العصبية وتهويماتها؛ فإنها من حيل إبليس الشيطانية وتزيينه للفلسفات الإلحادية؛ لتتكل على نفسك الضعيفة وقدراتك المحدودة فيكلك لها رب البرية، ويمدك في غيِّك بحصول نتائج وقتية، وشعور وهمي حتى تنسى الافتقار إليه الذي هو لب العبودية؛ فتحرم من السعادة الحقة التي تغنّى بها من وجدها، وبيَّن أسباب حيازتها فقال:
ومما زادني شرفاً وتيهاً
وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك: يا عبادي
وأن صيّرت أحمد لي نبيا