الافتتاحية
أيها المسلم
إنك تعاني ما لا يعانيه غيرك من البشر، جهودك تضيَّع، وخططك تدمر،
وأحلامك تُغتال. وتتواتر عليك المصائب دون انقطاع. إن من يقرأ ما كتب عنك
ولا يعرفك يخرج بنتيجة حتمية - هذا إذا أنصف - وهي أنك أصبحت منبوذ هذا
العصر، يتحاماك الناس في كل مكان، وينفرون منك لا لشيء، إلا لأن عقولهم
امتلأت بالصور القبيحة التي يرسمها الإعلام لك، والإعلام في هذا العصر هو
السلاح الذي لا يوضع، والحرب المشنونة التي لا تهدأ، إنك تواجه ضربين من
الحروب:
أ- ضرب يجيء ويذهب بين الفينة والفينة، حينما تبلغ الكراهية الذروة،
ويصل الضجيج إلى منتهاه، ولا يسكت إلا حينما يشفي غليله السنان والحسام
والمدفع والدبابة والصاروخ.
ب- وضرب هو هذا (العرس الإعلامي) القائم الدائم بفحيحه وضجيجه،
والذي لا يهدأ عن الهجوم على الإسلام: أفكاراً وأشخاصاً.
والضرب الثاني هو الأقسى والأنكى لأنه الأبقى، ومع أن الأول آلامه أعم،
وبلاياه يحس بها الجميع، إلا أن الثاني لا يشعر به إلا العلماء وقادة الفكر وذوو
الحس الحي في الأمة، الذين يتألمون لمصائب غيرهم ويشفقون من الآتي قبل
حلوله.
إنك - أيها المسلم - غدوت ضحية هذه الحضارة المادية العاتية، تريد أن
تطحنك برحاها، فتجدك عسر الهضم صعب المكسر، وهذا من أكبر العزاء لك،
فلتكن ثقتك بالله قوية، ولا تحتقر نفسك وتشكو الضعف، وتجنب طريقة بني
إسرائيل حيث شكوا لموسى عليه السلام الضعف والضراعة والاستكانة: [قَالُوا
أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا ومِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ ويَسْتَخْلِفَكُمْ
فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ] [الأعراف ١٢٩] .
أفلس أعداؤك جميعاً، مادياً ومعنوياً، أفلسوا من الخلق والدين والدنيا، باعوا
دينهم بعرض قليل منزوع البركة، ينطبق أكثره على نشر الفساد واستئصال
المعروف وإرساء المنكر وإشاعة التقاليد الفرعونية، كل ذلك خوفاً منك، وعلاجاً
لحضورك الذي يخيف سَدَنَة الفرعنة، ويهدد تقاليدها العفنة ورسومها المنخورة.
فاعرف نفسك - أيها المسلم - واعلم أنك - إن صدقت النية واستجمعت
العزم - كنت اليد التي تُنَفَّذُ بها إرادة الله في الأرض من سحق الباطل وإنعاش الحق.
إن أعداءك يسلكون في سبيل إضعافك وإلغائك سياسة النَفَس الطويل والبناء
الهادئ والمشاعر الباردة التي لا تستثار بسهولة، اطوِ قلبك على كراهية الكفر
ورموزه، واثنِ جوانحك على مقت الخيانة والمكر التي تجرّب عليك كل حين،
ولكن إياك أن تُستَدْرَجَ إلى عمل ينتظره شانئوك للإيقاع بك. أجِّل خلافاتك مع من
يشاركونك كلمة التوحيد، ويهدفون مثلك إلى إحياء عقيدة أهل السنة والجماعة،
واستخلاصها من براثن الماسخين والمستغلين، فأعداء هذه العقيدة أمرهم عَجَبٌ في
كثرتهم وتنوعهم واجتماعهم على هذا الهدف، رغم اختلافاتهم العميقة. وجِّه كل
جهدك إلى من يريدون حصرك في مفهوم للدين من صنعهم، فهؤلاء هم العدو
فاحذرهم، قاتلهم الله أنى يؤفكون. هؤلاء هم وكلاء الاستعمار بين ظهراني
المسلمين، وهم موضع ثقته، وعيبةُ أسراره، ورواد دهاليزه.
إياك أن تنخدع بدعوى أن بلادنا مستقلة، حرة في قراراتها وإراداتها، تلفَّت
يمنة تجد ألف دليل ودليل في كل صقع على أننا مكبلون، يُقرأ لنا، ويرسَمُ لنا،
ويزرَع لنا، ويصنَع لنا، ويحفرَ لنا.
إن صعوبة المرحلة الاستعمارية المكشوفة - مع شراستها ومرارتها - لا
تقارن بما يحدث في هذه المرحلة التي أعقبت تلك، التي يدبر أمرك فيها عدو من
جلدتك بقلب مجلوب وعقل مستعار. لقد بان الصبح لذي عينين، فأنت الذي يحمل
الشرعية، وأمامنا مثالان حاضران من أمثلة كثيرة، أحدهما في شرق الأرض،
والآخر في غربها.
أما الأول ففي أفغانستان، حيث أنت الذي قام في وجه الإلحاد الغازي،
وصليت بنار الشيوعية قبل أن تولِّيك الأدبار تحت شدة ضرباتك الموفَّقة واستوصت
على وليدها الخديج [١] كل من خَبُث من الأوصياء، قبل أن تندثر في مقبرة
التاريخ.
وأما الآخر ففي الجزائر، لما قام الشعب هناك، فصحَّحَ خطأ عمره ثلاثون
سنة سلماً لا حرباً، وأفصح عن إرادته تحت رقابة هؤلاء الذين يغتصبون هذه
الإرادة بكل صلافة وصفاقة وبعد عن المعقول حيث:
أجمعوا أمرهم عِشاءً فلما ... أصبحوا أصبحت لهم ضوضاءُ
وقالوا: هذا لا يكون، وما هكذا رجونا أن تكون النتيجة، (والشعب لم
يصوِّت على شيء) ! ! الديموقراطية في خطر. الوحى الوحى، أدركوها قبل أن
يعصف بها الإسلاميون! !
يا لله وهذا الافتراء! كيف يدان شخص قبل اقترافه الجريمة؟ ويدان ممن؟
ممن يداه ملطختان بدماء الأبرياء، وجيوبه منتفخة من حقوق المستضعفين!
أيها المسلم:
لا تستغرب ما ترى، فأنت تعيش في عصر الغرائب والأعاجيب، وحسبك
هذا ليدفعك إلى الصبر والعمل ليل نهار دون كلل ولا ملل، لا تسمح للإحباط أن
يتسرب إلى نفسك، فحق لك أن يتعب منك المرجفون ولا تتعب، وييأس من ثنيك
عن عزيمتك وأهدافك دهاقنة الباطل ولا تيأس. لا تبالِ بالأوصاف الكاذبة التي
تلصق بك، ولا بالأقلام المأجورة التي تنهشك، ولا تصرفْك الدعايات المسمومة
التي تلفَّق ضدك عما توجهت له.
يعيبون عليك الاشتغال بالسياسة؟ وهل شرط المشتغل بالسياسة أن يتخلى
عن دينه، ويدوس الأخلاق، ويترك هذا المجال لمحترفي الدجل يرسون دعائم
الفساد ويحوطونها بالشريعات الباطلة، ويحرسونها بالدساتير والقوانين المفصلة
على قدِّ نواياهم الخبيثة، وسلوكهم المنافق؟ لم هذا التردد والخوف البادي على
تعبيراتك وأعمالك كلما سمعت من يتهمك بحب السلطة والحكم مع أنك لم تمارسهما
يوماً، وكأنه عار وشنار تحب أن تتوارى منه، مع أن غيرك - وهو السفيه
الأرعن، والجاهل الرعديد - تراه واثقاً من نفسه، لا يفكر أن توجه له مثل هذه
التهمة مع أنه متلبس بهما تلبساً كأن أمه ولدته على رقاب الناس؟
إن الباطل لا يستبحر في دنيا الناس ولا يعرِّش إلا حينما يراهم يحبون الدعة
والراحة والرفاه الكاذب الذي يُمنِّيهم به، ويستحون مما لا يستحى منه، فيخجلون
من الرجولة، ويتفاخرون بالفرار من تسمية الأمور بأسمائها التي وضعها لها البشر
الأسوياء.
أيها المسلم:
إن الباطل ذا الرؤوس المخيفة الذي يخوفونك مغبة غضبته ليس كما يدعون،
نعم، له أساليب جهنمية، وأرواح كثيرة، سبعة أرواح! ولكنها أرواح قصيرة
كأرواح القطط والكلاب، فلا ترعك غضبته، ولا تصرفك عن طِيَّتِك أساليبه
وتجاربه، لا تتردد عن الإصرار على دمغه بحقك فيزهق ويضمحلّ، [وَيَوْمَئِذٍ
يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ الله يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ] [الروم ٤-٥] .
(١) الخديج: المولود الذي يولد ناقصاً.