الورقة الأخيرة
(نخبة) البيوت المحميّة
بقلم: د. محمد البشر
طلائع النخبة التي تحمل أعلى المؤهلات العلمية وتنتسب إلى أجلّ الوظائف الإنسانية في بلداننا العربية تصاب بداء عضال ومرض اجتماعي يسلبها مكانتها
وتأثيرها في الأوساط التي تعيش فيها.. وبخاصة تلك النوعية من النّخب التي
درست وعاشت في الأجواء الطبيعية للإنسان.. ومارست كل طرائق التعبير الحر
عن إنسانيتها وهويتها.
مجرد أن تطأ أقدامها الأراضي العربية وتبتلعها أمعاء المجتمع، نجد أن أفراد
هذه النخبة يصابون بازدواج في الشخصية، يفقدهم سمات تلك الهوية التي طالما
عبروا عنها وكافحوا من أجل الحفاظ عليها.. بل ناضلوا بالقلم واللسان والفعل من
أجل أن تصل معانيها السامية إلى الآخرين.. شفقة عليهم.. ورحمةً بهم.. وإنقاذاً
لهم من المُزلات والمُضِلاّت. ما أن تعود هذه النخبة إلى أوطانها وتلبث هنية من
الزمن حتى تتكيف مع أساليب العيش في البيوت المحمية.. وتتعرف على فن
التعامل مع الرموز.. وتفكيك الطلاسم.. وتأخذ دورها (غير) الطبيعي على
المسرح، الذي لا يسمح بالخروج عن النص.. ويؤكد على ضرورة أن تكون
الشخصيات مستعارة على الأقل أثناء حركتها على خشبة المسرح وما عدا ذلك فهو
شأن خاص. وفي هذا الاستثناء تمارس النخبة دورها الطبيعي.. وعوضاً عن أن
تكون فترة الاستثناء وقتاً لاجتلاء الصدأ الذي علق بعقلها وإزالة ركام الزيف الذي
ملأ مساحات فكرها، نجد أن هذه النخبة تمارس نوعاً من الحنين إلى ما مضى من
أيامها.. والقراءة المتأنية لتاريخها.. و (قد؟ !) يساورها شعور بالذنب وتأنيب
الضمير إذا ما أحست بالفارق بين أمسها ويومها.. ومع ذلك كله فهي عاجزة عن
أن تحدث تغييراً.. ليحس لأن المصلحة تقتضي الانتظار والتريث.. وليس لأن
ذلك من لوازم العقل والاتزان والاعتدال والتسديد والمقارنة وغير ذلك من معاني
الحكمة.. بل لأنها أَلِفَت الدور واستكانت له.. فهي أضعف من أن تُسفر عن
مبدأ.. أو تعلن عن شخصية.. أو تناضل عن هوية.
إنها نخبة البيوت المحمية.. تتغذى بتربة غير التربة.. وتستنشق هواءً غير
الهواء.. وتنتج ثمراً غير الثمر.
إنها نخبة البيوت المحمية.. التي تتبسم في العلن.. وتتمعر في الخفاء..