[بريمر وعام في العراق]
ضوء على (مذكرات بريمر) بعد عام على العراق
أ. د. نعمان السامرائي
عيَّن الرئيس بوش السفير المتقاعد (بول بريمر) مبعوثاً إلى العراق، قضى ما بين الشهر الثالث من عام ٢٠٠٣م حتى حزيران عام ٢٠٠٤م، وكان آخر وظيفة شغلها سفيراً متجولاً لمكافحة الإرهاب.
كتب مذكراته مستعيناً بحاسوب محمول، وبر جل صاحب خبرة؛ فأخرج المذكرات بعد أن سقط، أو أسقط، منها رسائل مهمة تبادلها (بريمر) مع المرجع الشيعي (آيه الله السيستاني) ، عبر وسطاء ذكر بعضهم، ورسائل لزوجته في أمريكا تصور ما كان يعانيه من ضغط، وصلت إلى حد البوح بأنه (محبط) وأنه سيكون (كبش فداء) ؛ لأنه كان يعيش ما يسميه (هاجس الإرهاب) ، وكل قضية ينظر لها من هذه الزاوية. لهذا عاش يحارب بكل ما لديه من قوة ضد سحب أية قوات أمريكية من العراق، والأمر الآخر أنه ذكر بشجاعة أنه كان يعمل وفق سياسة (فرِّق تسد) ، وقد ظل يلعب على الفرقاء الكبار في العراق، محاولاً كسب طرفين ضد الطرف الثالث، فإذا كان الطرف عربياً سنياً أو شيعياً أو كردياً فهو يحاول كسب طرفين ضد الثالث، لاعباً بمهارة على التناقضات، مُخوِّفاً كل طرف بأنه يخسر إذا تشدد أو لم يساير السياسة الأمريكية.
وكان شجاعاً حين صرح أكثر من مرة أنه: يمثل قوة الاحتلال، وأن الكلمة الأولى له، ونسيان ذلك والتغني بالديموقراطية، لكنه يذكر: بأنهم لم ينفقوا الملايين ولم يضحوا بأبنائهم ليفعلوا كذا أو يضروا بكذا.
كان (بريمر) خلف حل الجيش العراقي والشرطة، ابتداءً صرح بأن أصدقاءه حثوه على ذلك، لكنه راح يعتذر بأن الجيش حل نفسه، لكنه سجل الأطراف الكردية والشيعية التي أسعدها ذلك، وذكر أنها قالت: هذا أفضل عمل قام به في العراق خلال فترة وجوده، وإن كان الواقع يشهد بأنه الأسوأ، والأكثر سواداً.
يسجل ـ دون مواربة ـ اهتمامه واهتمام حكومته بالمحافظة على (وزارة النفط) ؛ لأنها تحوي الكثير ممّا يهمهم، ويسكت عن حرق وإتلاف (١٤) وزارة. كما يصمت عن ذكر فتح مخازن الجيش العراقي، والسماح لكل من يريد أن يأخذ من السلاح ما يريد، ولم يذكر مصير هذا السلاح، والذي قُطِّع وبِيع (خردة) ، وأن العائد كان له مع بعض المتنفذين (الجدد) ببغداد. سأكتفي بذكر بعض القضايا، فالمذكرات استهلكت (٤٤٥) صفحة، نسقها (محترف) ليخرجها بحيث لا تسيء لصاحبها ولا لحكومته، وهذه بعض القضايا:
١ ـ (بريمر) يؤكد: نحن قوة احتلال، ولن نتحايل على ذلك، قالها في الاجتماع الأول مع العراقيين وكررها أكثر من مرة (١) .
بينما يصرح عراقيون (منتفعون) : إن القوات الأمريكية قوات تحرير!
٢ ـ محاربة تأسيس الجيش العراقي: يذكر (بريمر) أن الأكراد والشيعة رحبوا بحل الجيش العراقي، وأمروا أتباعهم بالتعاون مع (التحالف) منذ (تحرير العراق) ، ولا يمكننا المخاطرة بفقدان تعاونهم (٢) .
٣ ـ يمنُّ (بريمر) على الجيش العراقي الذي حله قائلاً: نحن سندفع لأشخاصٍ كانوا قبل أسابيع فقط يقتلون الشبان الأمريكيين، لكن ذلك ثمن (يجب تحمله) .
الجيش العراقي كان يحارب في بلده جيشاً جاء من وراء البحار، وخرب العراق، وقتل وما يزال، فمن هو الغازي ومن هو المغزو؟؟ وأخيراً: ما هذا الكرم الحاتمي يا (بريمر) ؟؟
٤ ـ يصور (بريمر) الوضع في العراق في منتصف عام ٢٠٠٣م قائلاً (٣) : الكهرباء دون المستوى القياسي، وفيها الكثير من الأخطاء، ومرفق الماء والصرف الصحي يشكلان وصمة عار في بلد من أخصب المناطق في العالم، أما نظام المواصلات والاتصالات فهو من نوعية ما في العالم (الرابع) وليس الثالث، وبالإجمال فالبنية التحتية للعراق أسوأ مما هي عليه في البلدان الأخرى، أما المدارس فـ (٨٠%) منها في حالة يرثى لها ـ كما تقول اليونسيف ـ.
وبعض الفصول الدراسية يحشر فيها (١٨٠) طالباً، ويوجد كتاب واحد لكل (ستة) طلاب في المتوسطة (٤) .
٥ ـ يذكر (بريمر) أن المياه تتسرب وتضيع، والمجاري تعمل بطاقة ٢٠%، والجديد أن النفايات ترمى بنهر دجلة والفرات، ويقدر تصريف ٠٠٠،٥٠٠ طن من النفايات ـ غير المعالجة ـ (برميها) في دجلة والفرات (٥) .
٦ ـ أسلحة الدمار الشامل: يذكر (بريمر) بغضب: أن حكومته أرسلت (١٤٠٠) فرد بين مدني وعسكري، يقودهم شخص اسمه (بيل) يحسن العربية ومختص بأسلحة الدمار.
أقامت الحكومة الأمريكية أكبر محطة في العالم (محطة بغداد) ، ومهمتها البحث عن أسلحة الدمار الشامل، لكنها لم تجد شيئاً.
يخاطب (بريمر) (بيل المذكور) قائلاً: إن البحث عن الأسلحة مهم، لكن الواجب علينا أن نهاجم من ينسفون عرباتنا ويقتلون جنودنا، ويخربون خطوط الكهرباء وأنابيب النفط، فجنودنا من المستبعد أن يُقتلوا بأسلحة الدمار الشامل، لكنهم يتعرضون يومياً للتفجير على أيدي الإرهابيين، والواجب العثور على هؤلاء والقضاء عليهم، وهو من الأولويات ... يقول (بريمر) : إن (بيل) لم يبدُ مقتنعاً (٧) .
وبالمناسبة فإن هؤلاء، وغيرهم كثير، يبحثون عن نسخة من (توراة) قديمة كانت في منطقة (الكفل) في جنوب العراق واختفت، والبحث ما يزال جارياً عنها، وقد تكون وصلت لـ (الصهاينة) ، مع الكثير من التحف التي سرقت من المتحف العراقي، ومنها ألوف الألواح المكتوبة والمنقوشة بالخط المسماري، والتي لا تقدر بثمن.
٧ ـ السفير (بريمر) ينثر وعوداً لكن بدون قبض:
يخاطب (بريمر) العراقيين قائلاً: ستعيشون بكرامة وبسلام وازدهار، مستقبلكم مليء بالأمل والكرامة، وإن كان من الصعب الحفاظ على الكرامة عندما تسير قوات (أجنبية) في شوارعكم، بصرف النظر عن حسن نواياها؛ لكن في الأشهر التالية سيقل عددها (٧) .
الذي حصل حتى الآن عشرات الألوف من المعتقلين، ووصل عدد القتلى ٥٠ قتيلاً فأكثر، ولا ماء ولا كهرباء، ولا بنزين ولا غاز للطبخ (وستعيشون بكرامة وسلام وازدهار) !! علماً بأن خطة (بريمر) كانت ضد سحب أي جندي أمريكي من العراق، وقد حارب بكل قواه لإبقاء الجيش الأمريكي وزيادته.
وصدق الله العظيم فيما ذكره عن قصة بلقيس مع نبي الله سليمان ـ عليه السلام ـ: {قَالَتْ إنَّ الْمُلُوكَ إذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل: ٣٤] .
٨ ـ (بريمر) الذي يبدو أحياناً أنعم من الحرير، ويتحدث عن الاحتلال وأنه ضده، ولا يوجد في العالم من يقبله، ومع ذلك ينسى كل هذا فيقول ـ وهو يخاطب وزراء عراقيين ـ: أنتم الآن مسؤولون، لكن عليكم أن تعلموا من كبار مستشاريكم في الائتلاف بشأن مبادرات سياسية كبرى (مقترحة) ، أحببتم ذلك أم كرهتموه؟! بالطبع ليس من الممتع أن تكون خاضعاً للاحتلال، ويمكنني أن أضيف: أو أن تكون المحتل، فالائتلاف هو (السلطة الحاكمة هنا) (٨) .
٩ ـ شهادة صريحة: كان (بريمر) يدور في زيارات على الوزارات العراقية، وزارَ وزارة (العدل) ، وكان الوزير هاشم الشبلي، في استقباله، وبعد مباحثات قال (بريمر) (١) : كان الشبلي بالنسبة لي برهاناً على أن (الطائفة السنية) تضم قادة مهمين لمستقبل العراق، وغير ملوثين بالبعثية.
تلك شهادة، مع أن سياسة (بريمر) كانت قد دمرت كل سلطة أو وجود للعرب السنة، وسلمت كل شيء لغيرهم، وهمشتهم وأقصتهم إقصاء كاملاً.
بل إن (بريمر) راح يشيع أن الشيعة والأكراد يشكلون ٨٠% من سكان العراق (٢) . وهو تقدير لا صحة له (٣) .
١٠ ـ الأسلحة المفقودة: يذكر (بريمر) أن الدكتور (ديفيد كاي) جاء للعراق مع مجموعة في بداية (تشرين الأول) من عام ٢٠٠٣م، ثم قدم تقريراً لمجلسي النواب والشيوخ الأمريكيين جاء فيه (٤) : فلم يكن يمتلك (صدام) ـ عند اندلاع الحرب ـ آلافاً من الأطنان من الغازات السامة أو الرؤوس الحربية لإطلاقها، من تلك التي قالت أجهزة الاستخبارات الغربية: إنه يمتلكها ... ا. هـ.
ويبدو أن هذه كانت قناعة السفير (بريمر) ، لذا ذكرها دون تعليق وكان يستنكر البحث عنها، وحين سأله الرئيس بوش عن عمل (المخابرات) ؟ يخبره بصراحة: أنه غير راضٍ؛ فهي ما تزال تبحث عن الأسلحة التي لا جدوى من البحث عنها، وتترك أموراً أهم وأكبر.
١١ ـ النفط النفط: يتحدث السفير (بريمر) عن شاب عراقي لقبه (خشب) قام وعماله بحماية مصفاة حين أراد غوغاء نهبها، حتى جاء جنود أمريكان وسيطروا على المصفاة القديمة (٥) .
(بريمر) هزه هذا الموقف فقال: أنت رجل شجاع، لكننا بحاجة إلى أكثر من هذه الشجاعة العنيدة، فصناعة النفط بمثابة دم الاقتصاد العراقي، وسيموت الاقتصاد إذا لم يتدفق، فالعراق يملك ثاني أضخم احتياطي نفطي في العالم، أي نحو (١١٢) مليار برميل ... ا. هـ.
وهنا استذكر ما قاله مسؤول أمريكي: لو كانت الكويت تشتهر بزراعة الموز (فقط) لما أرسلنا جيشنا إلى هناك.
وحين سقطت بغداد كان أول شيء فعله الجيش الأمريكي إرسال دبابات لحراسة وزارة النفط، بينما تركت (١٤) وزارة للنهب والحرق، وأحرقت مكتبة الأوقاف، وحاول الصحافي البريطاني (باتريك سيل) أن يحرك الجنود الأمريكان فلم يتحرك أحد، ونُهب المتحف العراقي ولم يتحرك أحد، ومع ذلك يريد الأمريكان إقناع العالم أنهم جاؤوا لنشر الديموقراطية وليس من أجل النفط!!
١٢ ـ اعتراف صريح: يكرر (بريمر) موضوع حل الجيش والشرطة، وكل مرة يعلل بأمر، لكنه يصرح بأنه وأحد مساعديه (والت) : ارتكبنا الخطأ المميت بتسريح القوات العراقية، ويبدو أن البنتاغون يمهد الطريق لتصحيح ذلك الخطأ.
لكنه يدرك خطورة ذلك على التحالف الثلاثي ـ الأمريكي الكردي الشيعي ـ لهذا فهو يقول: إننا إذا أعدنا وحدات من الجيش القديم، فإننا نعرّض هذا التعاون للخطر، وربما ندفع الشيعة إلى معارضة الائتلاف ... ا. هـ (٦) ، أما اليوم فهناك مفاوضات جادة من أجل إعادة الكثير من الضباط.
١٣ ـ دعوة الكل وحضور خمسة فقط: بين (بريمر) ومجلس الحكم ود مفقود، وتهجم من قبل (بريمر) بمناسبة وبدونها، وقد دعاهم إلى (عشاء خاص بمناسبة عيد الشكر) لكن لم يحضر سوى خمسة فقط (أكراد وشيعة) (٧) . ظل (بريمر) يتهم مجلس الحكم بالتكاسل وعدم الفاعلية، وعدم الرغبة بالعمل، وفي كل مناسبة يسمع المجلس ما يهز البدن!!
١٤ ـ جئنا من أجل حرية العراق: السفير (بريمر) نسي مقولته عن جيش بلاده، وراح يتحدث قائلاً: ذكّرت العراقيين بأن شبابنا وشاباتنا اجتازوا نصف العالم للموت من (أجل حرية العراق) . علينا أن نفهم ما هي المخاطر التي تواجهنا اليوم، إننا نواجه تحدياً لمستقبل العراق، هل سيحكم القانون العراق؟
وهنا أستعيد ما قاله المسؤول الأمريكي عن الكويت: لو كان العراق يزرع الموز لما أرسلنا جنودنا للقتال فيه.
فحرية العراق آخر ما يشغل بال السياسة الأمريكية. وأدلهم على مكان أفضل: فالحرية تقتل يومياً في فلسطين، وفي بلاد كثيرة رأس مالها أنها موالية لأمريكا عاشقة للدولة العبرية.
فلماذا هذا التذاكي؟ ولماذا لم يذهب جيشكم إلى كوبا أو كوريا الشمالية مثلاً؟
ولماذا الإصرار على إرسال جيش إلى دارفور ومنع ذلك عن فلسطين؟