قراءة في كتاب
أزمتنا الحضارية
في ضوء سنة الله في الخلق
تأليف د. أحمد محمد كنعان
عرض وتقديم: محمد السيد المليجي
من رزق نور البصيرة، ونعمة الاستنباط، يستطيع أن يخرج من معطيات
الطبيعة التي تمثلت في سنة الله في مخلوقاته، الكثير والكثير من سبل التقدم
ووسائل الرفاهية التي تعود على الإنسان بالخير الوفير في وقته الذي يعيش فيه.
هذا ما يريده الدكتور كنعان أن يجسده في بحثه القيم.
دور المنهج السماوي في بناء الحضارات:
وفي وقفة سريعة وإطلالة عاجلة على أهم ما احتواه الباب الأول، بين لنا
الكاتب أهم الأسباب التي حالت دون تقدمنا ورقي مجتمعنا الإسلامي في العصر
الذي نعيش فيه والتي كان من أهمها (الغفلة عن منهج الله) .
فقد قدم لنا الباحث أهمية النظر في السنن التي تسير عليها المخلوقات، وفهم
مرادها وتسخيرها الصحيح لكي نستخلص منها ما يعيننا على صنع حضارة إسلامية
عريقة.
فهؤلاء العرب الذين لم يكن لهم علم ولا معرفة بالسنن التي تتحكم في حياة
الأفراد والمجتمعات، جاء الإسلام بقرآنه ودستوره الأزلي، فقدم لهم تلخيصاً وافياً
دقيقاً عن تلك السنن، حتى إذا فهموها وأخذوا بها في حياتهم، تغيرت نظرتهم
للكون والحياة تغييراً جذرياً، ولم يلبثوا أن أصبحوا أمة واحدة يشد بعضها بعضاً.
كما اكتسبت الأمة الإسلامية إلى جانب ذلك قدرة بفضل الله باهرة على تسخير
ما في أيديها لتنتفع به وتفيد به الآخرين، فحملت إليهم نور الهداية والرحمة حتى
انتشرت راية التوحيد في أرجاء المعمورة، وقد تم هذا الفتح المبين في سنوات
معدودات لا تعد شيئاً في عمر التاريخ ...
وهذا النور الذي استمر شعاعه ألف سنة بكاملها، دعا الكاتب إلى هذا التساؤل
المنطقي: ما الذي تغير حتى عاد المسلمون فانتكسوا؟ وكيف حط التخلف رحاله
في ديارهم بعد أن ظلت الحضارة الإسلامية أولى الحضارات تقدماً ورقياً على مدى
ألف سنة؟
يسوق لنا الباحث وجهة نظره، وجوابه عن هذا التساؤل في كلمتين خفيفتين
هما (الغفلة عن منهج الله)
وأعرب الكاتب عن مراده في معنى الغفلة حيث قال: وأهم ما تعنيه هذه
الغفلة، تجاهل السنن الربانية التي تحكم حياة الأفراد والأمم، وفهم هذه السنن
وتسخيرها على الوجه الصحيح، بالإضافة إلى ضعف اهتمامنا بمسألة السير في
الأرض، والبحث عن السنن التي يمكن أن تعيننا في تصريف شؤوننا المختلفة،
وتذلل لنا الصعاب وتيسر لنا أمر عمارة الأرض، وفق المنهج الذي يأمرنا إسلامنا
بإقامته في واقع الحياة، فالذي يطلب الأسباب لابد وأن يجد من يقوده إليها، وهنا
تبدأ رحلته معها.
فعلى قدر تسخيرها تجاه الطريق الصحيح يكون هناك التقدم والرقي
والإزدهار.
من ثمار النظر في السنن الكونية:
يطل علينا الباب الثاني والذي ضمنه الباحث عدة ثمار هي نتيجة للنظر
والتفكر في السنن الكونية.
وإن من أغلى هذه الثمار (الإيمان بالله تعالى) الذي يؤكد فهمنا واستجابتنا
والإقرار بأن هذا الكون البديع في آياته، لابد له من مبدع أوجد هذه السنن وسيرها
حسبما يريد الصالح العام للخلائق.
وبجانب هذه الثمرة اليانعة (ثمرة الإيمان) هناك ثمرات عديدة لها مساس
مباشر وعميق بسلوكنا وحركتنا في الحياة، ومنها على سبيل المثال، الحرية،
العلم، وهو المعرفة اليقينية بالسنن التي تحكم جزئية من جزئيات هذا الوجود.
مبدأ الاجتهاد في الشريعة الإسلامية:
هذه نقطة أخرى من نقاط الباب الثاني تعرض لها المؤلف ليثبت للغافلين عن
المنهج الإسلامي القديم، موافقته ومطالبته بالتفكر والاجتهاد القائم على مقدمات
علمية صحيحة سابقة، بالإضافة إلى الإعراب عن أهمية وجود الاستنباط في
المنهج الإسلامي بما يكفل لحياة الناس في كل وقت وحين حياة هادئة مطمئنة
يعيشون فيها.
فقد قسم المؤلف الاجتهاد في الشريعة الإسلامية على قسمين:
١- مسائل لا يجوز الاجتهاد فيها بل يجب الالتزام بالأحكام الشرعية التي
وردت بخصوصها مثل الصلوات الخمس والزكاة والصوم وتحريم الجرائم كالقتل
والزنا، والسرقة، وشرب الخمر، وما ورد فيها من عقوبات مقدرة مما هو
معروف بالقرآن الكريم أو السنة النبوية المطهرة.
٢- مسائل يمكن الاجتهاد فيها إما لعدم ورود نص فيها، وإما لأنه ورد نص
ظني الدلالة، أو ظني الثبوت والدلالة معاً، فهنا المسائل يجوز الاجتهاد فيها
للوصول إلى حكم شرعي أو لمعرفة السنة التي تحكمها، وبذلك يجدد الكاتب تأكيد
الإسلام على أهمية الاجتهاد وثمرة ذلك على الفرد والمجتمع.
خلاصة النتائج التي توصل إليها الباحث:
ومع مطلع الفصل الثالث الذي يبين لنا قرب انتهاء الرحلة، يقدم لنا الدكتور
كنعان خلاصة النتائج التي توصل إليها وتعيننا في نفس الوقت على فهم طبيعة
الأزمة التي تحل بنا وترشدنا أيضاً إلى الطريقة العلمية والميسرة لتجاوز العقبات.
ومن بعض هذه النتائج:
١- أن لهذا الكون ربا، خلق كل ما في هذا الكون من خلائق وأخضها جميعاً
لسنن كونية تحكم كل صغيرة وكبيرة منها.
٢- تتصف هذه السنن التي فطر الله عليها أمور خلقه، بمجموعة من
الصفات التي تعطيها صيغة القانون الرياضي الصارم، فهي من جهة ثابتة لا تتبدل
ولا تتحول، ومن جهة ثانية مطردة، تتكرر على الوتيرة ذاتها كلما توافرت
شروطها وانتفت الموانع التي تحول دون بلوغها.
٣- وسنة الله في الخلق تسري على كل شيء في هذا الوجود من غير تمييز
سواء أكان هذا الشيء مادياً أم معنوياً، ونحن البشر خاضعون كغيرنا من خلائق
هذا الوجود لسنن الله، سواء شئنا أم أبينا، وهذه الحقيقة تحتم علينا مسايرة هذه
السنن لكي نتمكن من تسخيرها فعما ينفعنا، وإلا فإن مخالفة السنن أو معاندتها لا
تأتي بخير.
٤- يقتضي معرفة السنة التي يقوم عليها أي عمل قبل الشروع فيه، فإذا
عرفنا سنته علينا أن نهيئ الشروط اللازمة لهذه السنة.
٥- فإذا فشلنا في إنجاز العمل المطلوب فإن هذا الفشل يعني وقوع خلل ما في
الخطة، ويمكن أن نحصر مواضع الخلل في ثلاثة مواضع رئيسية:
ا- عدم سلوك الطريق الصحيح نحو الهدف أو عدم إصابة السنة التي توافق
العمل.
ب - وجود عوامل خارجية تحول دون تحقيق السنة وبلوغها.
ج- وجود عوامل داخلية تؤدي إلى الإخلال بشرط أو بأكثر من الشروط
اللازمة السنة التي تتحكم بالعمل.
وبهذه النتائج يصبح الباحث مصيباً في محاولته في هذا المجال، وهي تعد
علامة بارزة تفتح الأبواب والنوافذ بمزيد من الدراسات والبحوث في هذا الموقع
الحيوي الهام والغائب بالنسبة لاستئناف المسلمين دورهم الحضاري، ومعالجة حالة
الركود التي يعيشونها.