[المقاومة العراقية]
والحاجة إلى مواقف جادة
هيثم الحداد
كثيرة هي الأزمات الرهيبة التي تصيب الأمة المسلمة في هذه الأيام، فلا نكاد نلتقط أنفاسنا لاستراحة المحارب حتى تتجدد المواجهات الدامية في بقعة أخرى من بقاع جسدنا الجريح، حتى نصل إلى حالة يتعذر معها التفكير والتخطيط الاستراتيجي المتوازن والبعيد المدى.
أحداث العراق الآن، أثارت العلماء والمفكرين والأدباء للحديث عن هذا الواقع المؤلم؛ تارة لشد العزائم، وأخرى لبيان الورطة الأمريكية، وفي النادر القليل لوضع تحليل شرعي للوضع القائم؛ فالجميع يشعر بوجوب المساعدة ولو بالقليل الممكن.
لكن يبدو أن هناك قضيتين محوريتين لم يأخذ الحديث عنهما حجمه المناسب في الأدبيات الإسلامية الصادرة بهذا الخصوص، لا يزاولني شك في أن المقاومة العراقية بأشد الحاجة إليهما، بل إن واجب النصح المأخوذ على أهل العلم ـ مهما بلغت درجتهم في العلم ـ بيان ما يعرفونه من الحق، أو المساهمة في هذا البيان: {وَإذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: ١٨٧] .
أما أولى تلك القضيتين: فهي حاجة المقاومة العراقية للتخطيط الاستراتيجي في هذا الوقت الذي تمر فيه، فلا شك أن المقاومة حققت مكاسب كثيرة، على جميع الأصعدة، وفي شتى المستويات، وهي في خضم العدوان، ينحصر تفكيرها شاءت أم أبت في زوايا محددة تمليها الظروف التي تمر بها، لكن تبقى هناك جبهات عديدة بحاجة إلى من ينظِّر لها، ويدمج التخطيط لها والتفكير بها بتلك النتائج التي توصلت إليها النخب التي تعمل من داخل دوائر المقاومة العراقية.
من تلك الجبهات المشار إليها:
١ - مراحل العمل العسكري التي ينبغي أن تسلكها المقاومة في جانب مراحل العمل السياسي؛ فما من شك ـ شئنا أم أبينا ـ أنّ أي نصر تحققه حركات التحرر ينهض على ساقين إحداهما عسكرية، والأخرى سياسية. فما هي صورة هذا العمل، وما هي مراحله؟ العالم الإسلامي قد مر بتجارب مشابهة لعل أبرزها التجربة الفلسطينية؛ فبعد الاحتلال البريطاني نشأت حركات مقاومة فلسطينية، وإسلامية، لكن النجاح ـ الذي يقاس إلى درجة كبيرة بالتحرر ـ لم يكن حليفها، فما هي الأسباب، وما هي الأخطاء التي ارتكبتها المقاومة، وماذا كان عليها أن تفعل لتلافي بعض المنعطفات الخطرة التي أودت أو كادت تودي بحياتها؟ ما هو واقعها الآن؟ هل استفادت من التجارب السابقة؟ هذه وغيرها محاور أساسية في نقاش ساخن يتم من أجل التوصل إلى خطة استراتيجية شاملة لمراحل العمل العسكري والسياسي الذي يتوجب على المقاومة سلوكه.
٢ - موقف المقاومة من العلاقات العراقية ـ العراقية؛ فالتركيبة العراقية العرقية والدينية، والطائفية من أعقد التركيبات في العالم العربي كله، وهو الأمر الذي يفرض معالجة عميقة حساسة لتلك الطبيعة وانعكاساتها السياسية والعسكرية على الوضع القائم الآن في العراق.
فلدينا من جهة العلاقات المعقدة والمتشابكة بين المعسكرين السني والشيعي: السنة بوصفهم كتلة عقدية بجميع أطيافها، والشيعة باعتبارهم كتلة عقدية أيضاً بجميع أطيافها.. وهل انتهى حقاً ما سمي بشهر العسل الأمريكي الشيعي؟ وإذا كان ذلك حقيقياً لا صورياً؛ فكيف يمكن استثماره؟
فإذا خرجنا إلى دائرة أخرى بنظرة عرقية، فلدينا العلاقات العربية ـ الكردية؛ فالمعسكر الكردي حتى الآن لم يتدخل في الصراع بشكل واضح ومباشر؛ فهل سيبقى كما هو عليه يمثل حالة من الحياد السلبي، أم يتدخل بصورة إيجابية حذرة، أم أنه يمكن أن يقوم بدور فعال ومؤثر؟ وما هي انعكاسات موقفه على مستقبله السياسي والعسكري، بل على علاقاته الكردية الكردية.
٣ - فعالية استخدام أساليب العسكرية النفسية، وكيفية توظيفها الفعال لصالح المقاومة العراقية على مدى بعيد.
٤ - الحكم الشرعي تجاه الحرب على العراق؛ فهذه قضية حساسة، وشائكة، وخطيرة، وهي دائرة محاذير بالنسبة لكثير من أهل العلم القادرين على الحديث في هذه القضية، وهنا قد يُقَلِّلُ من أهمية هذا الجانب، لأسباب كثيرة؛ فقد يقال: ما هو الأثر العملي له؟ وربما يقال: إن القضية تجاوزت الحديث عن الحكم الشرعي، أو أن الخوف من انعكاسات ذلك على الشباب المتحمس في البلاد الإسلامية، وما يثيره ذلك من قلاقل أو ردود فعل غير منضبطة؛ والخوف من ذلك يمنع الحديث بصراحة ووضوح عنها، لكن في ظني ـ والله أعلم ـ أنه يمكن وبكل سهولة تجاوز هذه المحاذير، كما أنها تتضاءل في مقابل كفة المصالح المترتبة عليها، والتي يمكن أن نذكر منها:
أ - إبراء الذمة أمام الله جل وعلا، وقد أخذ الله الميثاق على أهل العلم أن يبينوه للناس ولا يكتموه، وكتمان العلم خيانة لله ولرسوله، وللمؤمنين، وإزهاق لمبدأ الصدع بكلمة الحق، وترك الناس في العماية.
ب - شحذ الهمم للعمل الجاد لنصرة العراق وغيرهم، سواء بالنصرة المباشرة أو غير المباشرة.
ج - تذكير الغافل، وتنبيه الناسي ـ وكثير ما هم ـ تجاه القضية العراقية أو غيرها.
د - إقامة الحجة على المشاركين في العدوان على العراق بصورة غير مباشرة، مثل الأنظمة التي وقفت موقف المتفرج على ما يجري.
هـ - قد يكون ذلك سبباً لتحرك بعض القوى الموجودة على الساحة العراقية؛ فكثير من تلك القوى تعيش حالة حياد سلبي قاتل للمقاومة ولغيرها؛ فأين باقي المدن العراقية عن الانتفاضة ضد العدوان الأمريكي من أجل إلهاب الأرض كلها، وهو ما سيُعجز المحتل الأمريكي عن السيطرة، ويشل حركته المنضبطة، وينقله من حالة الهجوم والسيطرة، إلى حالة الدفاع والارتباك؟
و لا شك أنه سيشحذ الهمم لمد يد العون المادي؛ فقد تحرك المئات من العراقيين بالمؤن والإعانة لإخوانهم من أهل الفلوجة، شعوراً بواجب الأخوة؛ فكيف إذا تعمق الشعور ليصبح خوفاً من الإثم وعقاب الله جل وعلا، ولربما أيضاً تحركت بعض القوى الشعبية في بعض البلاد العربية فتبدأ في إنشاء لجان لمساعدة المنكوبين من أهل العراق.
ز - بيان ظلم الظالم، وخطأ المخطئ؛ مما يساعد على تقييم الوضع الإسلامي والعربي تقييماً صحيحاً، ويساهم في محاصرة الخطأ والمخطئ معنوياً ومادياً.
هاتان هما القضيتان الرئيستان اللتان خلت عنهما الأطروحات الإسلامية المتعلقة بالوضع العراقي، واللتان يمكن ملء الفراغ الناتج عنهما بالحوار الفعال والصريح بين خبرات متنوعة: عسكرية، سياسية، اقتصادية، اجتماعية، إسلامية، وغير إسلامية؛ فالمهم أن تكون مخلصة في إسداء النصح لحركة التحرر العراقية القائمة.
تبقى إشكالية ليست بالكبيرة تتعلق بطرق إقامة هذه الحوارات؛ لكن يمكن أن تُتجاوز هذه الإشكالية بإقامة بعض الندوات في بعض البلاد العربية التي يتاح للحريات فيها شيء من النفس، أو بتناول هذه القضية من خلال مواقع الحوار على شبكة الإنترنت، أو نحو ذلك.
نسأل الله أن يكشف الغمة، ويلهم أهل العلم القيام بالواجب، والله المستعان.