مذكرات قارئ
كارتر.. من الرئاسة إلى التنصير
بقلم: محمد حامد الأحمري
عندما تنتهي فترة رئيس أمريكي في الحكم، فإنه وأنصاره يبحثون عن
مشروع يخلد ذكراه ويقدم به نفعاً للأمة من بعده، وقد اكتسبت أغلب مشاريع
الزعماء السابقين شهرة كبيرة، وخدمت المجتمع، وقد اتخذت في غالبها طابع
المؤسسة الثقافية والعلمية مثل: مركز هوفر، ومركز كيندي، ومكتبة ريجان،
ومركز روزفلت، وجامعة إيزنهاور ... وأمثالها.
وأما كارتر، الرئيس الذي جاء به إلى الرئاسة التوابون! (المولودون من
جديد) في المسيحية، فقد أنشأ مع زوجته روزالين مركز كارتر في مدينة أطلنطا،
وبدعم من كنيسته، وهذا المركز أظهر للناس اهتمامه بالقضايا الإنسانية والسياسية، والبحث عن السلام في العالم، أو كما يقول كارتر: (إنهم يقومون بفتح صدورهم
وقلوبهم للناس، ونشر كلمة الله) ، وقد قام المركز بأعمال مهمة وبارزة في العالم،
من اليابان شرقاً إلى المساعدات الطبية للنساء في جورجيا، وبناء المساكن للفقراء
في فلوريدا، ومروراً بإفريقيا، حيث يقومون بأنشطة في أكثر من ثلاثين دولة
إفريقية، وساهم المركز في تجنب وقوع حرب بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية، ونزع فتيل الحرب من هاييتي، وساهم في المصالحة البوسنية الصربية السابقة،
وتدخل في السودان، وكانت لقاءات متعددة ما بين روزالين كارتر والبشير، وقد
عبرت عن انزعاجها من تعامل البشير معهم، ومن مشكلة المواعيد التي كانت
تعطى لهم، وتحدث كارتر عن اهتمامه بالسودان، وبخاصة الجنوب السوداني.
وعند المركز ما يسمى بمشروع القرن، وهذا المشروع في إثيوبيا، وهو
مشروع دعم زراعي وديني لمئة وعشرة آلاف عائلة إثيوبية، حيث يوفر المركز
حقلاً صغيراً وخدمة وإشرافاً ومتابعة لكل أسرة يتم تنصيرها، إذ يرى كارتر أن
تطوير إفريقيا يجب أن يتم روحيًّا! وماديًّا.
وبعد خروجه من الرئاسة لم يقر له قرار، ويرى أن عمله (منصراً) هو عمل
أرقى من الرئاسة، وهو الذي يليق به وبقدراته، يعمل ذلك في راوندا، وبورندى، وكينيا، وهاييتي، واليابان، وغينيا، وغانا، وزيمبابوي، ويقابل السكان في
نيجيريا يقدم لهم النصرانية، وينصبونه زعيماً للقبيلة، ويعطونه الراية، وأرضاً
يبني عليها قصره، ويبني لهم الكنائس، ويوزع الإنجيل والذرة!
ثم يرجع إلى أمريكا يتحدث عن قصصه مع المزارعين والفلاحات في أدغال
إفريقيا، ولا ينسى أن يذكر للشباب النصارى ولداعمي المشاريع هناك كيف أن
عدداً من الأفارقة يمنعونه من مساعدتهم في المزارع، ويقولون له: لا تشارك
فتتسخ ملابسك، ولكنه يقول: (إني ألبس ملابس العمل والزراعة) .. ويذكر أيضاً
من مشكلات العمل في إفريقيا: أن الوزراء في الحكومات الإفريقية لا يستطيعون
كتابة خطط للتنمية؛ لذا: يقوم المركز بكتابة خطط التنمية لهذه الدول، ولأن
مقياس الوزارة في حكومات إفريقيا ليس القدرة ولا المعرفة، بل هو غالباً روابط
قبلية وقرابة وصداقة.
ومما هو جدير بالملاحظة: أن هذا المركز التنصيري استطاع إقناع الحكومة
الأمريكية والبنك الدولي ومؤسسات عالمية أخرى أن يتم تنفيذ مساعداتهم لإفريقيا
عبر ذلك المركز وبالاشتراك معه، بحيث أصبح عدد من المشاريع الدولية يدار من
قبل الكنائس مباشرة، تحت أسماء ومؤسسات عالمية، ومما أكسب هذه المشروعات
نجاحها أن كارتر يشرف مباشرة على العديد منها، وإلى جانب هذا: فإنه مستمر
في مواعظ الأحد في الكنيسة، وسوف تصدر مواعظه مطبوعة في كتاب، كما أنها
توزع مسجلة بصوته، ولعل القارئ لا ينسى أنه هو الذي أقام الصلاة في الكنيسة
في يوم الأحد الذي سبق توقيع اتفاقية السلام الأولى في واشنطن، وهو صاحب
كتاب (دم إبراهيم) الذي كتبه بعد توقيع السادات للصلح، و (دم إبراهيم) يقصد به
دم العرب واليهود أبناء إبراهيم كما هو مشهور عندهم في الكنيسة.
بقي أن نعلم أن هذا المتقاعد النشط كان مسؤولاً عن أقوى حكومة علمانية لا
تخلط الدين بالسياسة! ! وقد كان يحرص في القضايا السياسية العامة أن يبعد عن
نفسه وعن سياق كلامه الطابع الديني قدر طاقته، ويخفي حقيقة جهوده.
وقد سمعت أحد الزعماء يصفه بعد مقابلة معه بقوله: كارتر هذا (قدّيس) ! !
من شدة ما رأى منه من انصراف روحي كامل لمناصرة الكنيسة، لقد كان وما زال
كارتر زعيماً عمليًّا ومنصراً جادًّا، يثير نشاطه أسئلة كثيرة.