للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

البيان الأدبي

الانحراف الفكري لأصداء

السيرة الذاتية لنجيب محفوظ

د. محمد بن عبد الله الشباني

الكلمة تكون أداةً لزرع اليقين وتحقيق السمو النفسي والحفاظ على التماسك

الفكري للأمة حتى يتحقق التغيير الذاتي، فيتحقق التغيير الكامل لواقع الأمة وفق

المبدأ الذي أوضحه القرآن الكريم في قوله تعالى: -[إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ

حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] [الرعد: ١١] أو أداةً للهدم وزرع الشك والعبث

بمرتكزات الأمة الفكرية؛ مما ينتج عنه فقدان القدرة على التحرر من عبودية

الشيطان، وقيام مجتمع لا يعرف غاية لوجوده غير المتعة واللذة.

من هذا المنطلق سيتم مناقشة ما تم نشره ضمن الملحق الخاص الذي نشرته

جريدة الرياض بالتعاون مع اليونسكو بتاريخ ٩ رمضان ١٤١٨هـ الموافق ٧ يناير

عام ١٩٩٨م للروائي نجيب محفوظ؛ فهذا الملحق الذي تقوم بنشره جريدة الرياض

ضمن سلسلة من الملاحق يتم نشرها تحت عنوان: (كتاب في جريدة) تتولى ثلاث

جهات إعداده وتمويله؛ وهذه الجهات هي: منظمة اليونسكو، وكتاب زايد العربي، ومؤسسة صخر. ويتم إصداره بالتعاون مع كبريات الصحف في الوطن العربي

من الخليج إلى المحيط. والهدف من ذلك كما أشير إليه في الصفحة الرابعة من

الملحق هو الاندماج الثقافي، وتعميم القراءة والتواصل؛ من أجل مزيد من التلاحم

وترسيخ وحدة اللغة والثقافة. ويتم توزيع هذا الملحق مجاناً عبر الصحف المشتركة

في التوزيع.

إن الغاية التي سعى إليها المنظمون لهذا الملحق الذي تُنفَق عليه أموال طائلة

هي غاية طيبة إذا تم توجيهها نحو غرس الثقافة العربية ذات التجذر الإسلامي؛ أما

إذا انحرفت عن هذا المسار فإن الأمر ينقلب إلى أن يصبح هذا الملحق أداة هدم

للحصن الثقافي للأمة العربية، وزرع للفتنة، وتمزيق للنسيج الثقافي الذي يربط

بين أبنائها؛ بحيث يتحول دور الكلمة التي سعى إليها المنظمون لهذا الكتاب إلى

أداة لنشر سرطان العبث والتشكيك بمرتكزات الأمة الثقافية والعقائدية؛ بما يفضي

إلى إيجاد الأجواء المناسبة لتمزيق وحدتها.

إن كتاب أصداء السيرة الذاتية لنجيب محفوظ هو الإصدار الثالث لهذه

المنظومة من الملاحق تحت اسم: (كتاب في جريدة) وإن أهمية مناقشة ما ورد في

أصداء السيرة الذاتية يعود إلى أن مؤلفه الروائي المشهور نجيب محفوظ قد منحه

الله القدرة على استخدام اللغة بصور شتى؛ إلا أنه يستغل هذه المقدرة في تسريب

أفكاره ذات البعد التخريبي لمرتكزات الأمة الاعتقادية بالشكل الذي يؤدي إلى تقبّل

السم الزعاف من شاربيه بنفس رضية؛ ولو أدى ذلك إلى الموت المحقق؛ كما أن

شهرته في عالم الأدب، والهالة التي صُنعت له، تدفع كثيراً من الناس إلى قراءة

كتاباته وتقبّل ما فيها من انحراف؛ وهذا هو مكمن الخطر على الأمة.

إن كتاب أصداء السيرة الذاتية يعكس المسيرة الفكرية لنجيب محفوظ وما

استقرت عليه أفكاره في خريف عمره بعد أن آذنت شمس حياته بالمغيب.

إن الدارس لهذه الأصداء من خلال كتابه هذا يتضح له عدة محاور ترتكز

عليها آراؤه وأفكاره وما يدعو إليه، وتتمثل في المحاور التالية:

أولاً: عبثية الحياة وأنه لا غاية من وجودها ولا معنى لها، والشك في وجود

حياة أخرى بعد الموت، وأن ما يقال عن الحياة الأخرى ترهات غير مقبولة! !

هذا المفهوم الفلسفي العدمي مصادم مصادمة كلية للعقيدة الإسلامية. وهو يصرخ

بهذا العبث الفكري بدون مواربة ولا تورية!

يقول في صفحة ١٨ تحت عنوان: (فيلسوف صغير جداً) ما نصه:

(يطاردني الشعور بالشيخوخة رغم إرادتي وبغير دعوة. لا أدري كيف أتناسى دنو

النهاية وهيمنة الوداع. تحية للعمر الطويل الذي أمضيته في الأمان والغبطة، تحية

لمتعة الحياة في بحر الحنان والنمو والمعرفة. الآن يؤذن الصوت الأبدي بالرحيل،

ودع دنياك الجميلة واذهب إلى المجهول، وما المجهول يا قلبي إلا الفناء. دع عنك

ترهات الانتقال إلى حياة أخرى، وكيف، ولماذا، وأي حكمة تبرز وجودها؟ أما

المعقول حقاً فهو ما يحزن له قلبي. الوداع أيتها الحياة التي تلقيت منها كل معنى،

ثم انقضت مخلفة تاريخاً خالياً من أي معنى) .

إن هذا القول الذي ينشره نجيب محفوظ من خلال كتابه هذا ويريد من العرب

الإيمان به يصادم بدهية من بدهيات عقيدة الأمة؛ فهو يزرع الشك والكفر،

ويرغّب في نزع الإيمان؛ وينشر الفكر الإلحادي؛ فالحياة الآخرة عنده ما هي إلا

ترهات، وأنه لا حكمة من وجود الحياة الأخرى؛ فهو بهذا لا يعدو أنه يكرر ما

قاله الأقدمون من مثل أبيقور الذي قال: (إن الحياة مهزلة فيها من الخبل ما يستحيل

معه أنه يكون قد أبدعها عقل إلهي) وأن الهدف من الحياة تحصيل اللذة والتعبير عن

الألم كما يقول به محفوظ في كتابه هذا، ومثل ما قاله أحد فلاسفة العصر الحديث

(شو بنهور) الذي صرح بأنه كان يفضل أن يترك في السكينة وسلام العدم من أن

يوجد في هذه الحياة التي ليس لها أي مغزى أو معنى سوى ما بها من شقاء [١] .

لقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الإلحاد في قوله تعالى: [وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ

أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ القُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ

إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ] . [الأحقاف: ١٧] .

وقوله تعالى: [أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ (١١٥)

فَتَعَالَى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ] [المؤمنون: ١١٥، ١١٦] .

أما ادعاء محفوظ بأنه لا توجد حكمة للخلق فقد رد القرآن الكريم على ذلك في

قوله تعالى: [وَهُوَ الَذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى

المَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً] (هود: ٧) وقوله تعالى: [إنَّا خَلَقْنَا الإنسَانَ مِن

نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢] ) [الإنسان: ٢] .

وأن من مقتضى ذلك أن يكون هناك حياة أخرى ليتم التحقق من اجتياز هذا

الابتلاء؛ ولهذا أوضح الله ذلك في قوله تعالى: [أُوْلَئِكَ الَذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ القَوْلُ فِي

أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الجِنِّ وَالإنسِ إنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (١٨) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا

عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٩) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ

أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُونِ بِمَا كُنتُمْ

تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ] [الأحقاف: ١٨-٢٠] ، وأن

جحود الحياة الآخرة وعدم الإيمان بها يعود في نفس كل من لا يؤمن بها إلى ما

ذكره الله سبحانه في قوله: [وَقَالَ الَذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُراباً وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ

(٦٧) لَقَدْ وعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِن قَبْلُ إنْ هَذَا إلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ] .

[النمل: ٦٧-٦٨] .

إن الحكمة من وجود الحياة الأخرى هو ما ذكره الله تعالى في قوله: [إنَّ

رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ] [السجدة: ٢٥] . وقوله

تعالى: [وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ

لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧) أَمْ نَجْعَلُ الَذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي

الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ] [ص: ٢٧-٢٨] .

ثانياً: زعم أن الحياة مصادفة عمياء، وأن الإنسان ما هو إلا ابن المصادفة،

وأنه لا هدف من خلق الإنسان ولا غاية في موته؛ حيث يصبح بعد موته كأنه لم

يكن. ولقد أفصح عن ذلك فيما قاله في صفحة (٢٤) تحت عنوان لا تصدق ما

نصه: (قال الشيخ عبد ربه التائه: جاءني رجل قال لي: لا تصدق؛ ما أنت إلا

ابن الصدفة [٢] العمياء وصراع العناصر.. بلا هدف جئت، وبلا هدف تذهب؛

وكأنك لم تكن. فقلت له: سبق أن صدق أبوك ما لا يجب تصديقه فخسر الراحة

والنعيم) ، والراحة والنعيم في فكر نجيب محفوظ حسب ما أشار إليه في مواقع

كثيرة في كتابه: (أصداء السيرة الذاتية) هو الاستمتاع باللذة والمتعة الجنسية؛ فهو

يقول في الصفحة نفسها موضحاً هذه الفكرة: (رأيت الشيخ عبد ربه التائه ماشياً في

جنازة، ولعلمي بأنه لا يشيّع إلا الطيبين انضممت إلى صفه حتى صلينا عليه معاً،

ثم سألت الشيخ عنه، فقال: رجل نبيل؛ وما أندر الرجال النبلاء ... أبى رغم

طعونه في العمر أن يقلع عن الحب حتى هلك) .

وهذا الحب الذي أشار إليه نجيب محفوظ يقصد به ما جاء في الصفحة ٥٢

تحت عنوان: (الفائز) : (قال الشيخ عبد ربه التائه: ذاع في الحارة أن المرأة

الجميلة ستهب نفسها للفائز، وانهمك الشباب في السباق بلا هوادة، ومضى الفائز

إلى المرأة، ثملاً بالسعادة، مترنحاً بالإرهاق، وعند قدميها تهاوى قريناً للوجد

فريسة للثغب، وظل يرنو إليها في طمأنينة حتى لعب النعاس بأجفانه) وقد أفصح

عن ذلك بشكل أكثر وضوحاً في صفحة ٢٧ بقوله: (لم يكن الشيخ عبد ربه التائه

يخفي ولعه بالنساء ولذلك قال: الحب مفتاح أسرار الوجود!) وفي موضع آخر

تحت خطبة الفجر صفحة ٢٩ يقول ما نصه: (قال الشيخ عبد ربه التائه لسمار

الكهف: أسكت أنين الشكوى من الدنيا، لا تبحث عن حكمة وراء المحير من فعالها، وفر قواك لما ينفع، وارض بما قسم، وإذا راودك خاطر اكتئاب فعالجه بالحب

والنغم) ! .

ويحدد نجيب محفوظ سر الوجود بأنه الزمن؛ فهو القوة المسيطرة. يقول

تحت عنوان: (الزمن) صفحة (٢٩) : (قال الشيخ عبد ربه التائه: يحق للزمن أن

يتصور أنه أقوى من أي قوة مدمرة، ولكن يحقق أهدافه دون أن يسمع له صوت)

إن ما يردده نجيب محفوظ حول الزمن ما هو إلا الفكر القديم المتجدد الذي أشار إليه

القرآن الكريم في قوله تعالى: [أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ

وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا

تَذَكَّرُونَ (٢٣) وَقَالُوا مَا هِيَ إلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إلاَّ الدَّهْرُ وَمَا

لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إنْ هُمْ إلاَّ يَظُنُّونَ] [الجاثية: ٢٣، ٢٤] وقوله تعالى: [زُيِّنَ

لِلَّذِينَ كَفَرُوا الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ

وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ] [البقرة: ٢١٢] .

ثالثاً: الصوفية الغارقة في الحلولية هي السمة البارزة التي يتصف بها فكره

الديني التي يدعو إليها في كتابه: (أصداء السيرة الذاتية) وهذه الصوفية الحلولية

مرتبطة بالمفهوم الوجودي الفلسفي، ونجد ذلك في أقوال عديدة أفصح عنها في

كتابه هذا، ومن ذلك ما نصه: (قال الشيخ عبد ربه التائه: في الكون تسبح

المشيئة، وفي المشيئة يسبح الكون) . وقوله: (قال الشيخ عبد ربه التائه: لولا

همسات الأسرار الجميلة السابحة في الفضاء لانقضّت الشهب على الأرض بلا

رحمة) ، وقوله: (أصابتني وعكة فزارني الشيخ عبد ربه التائه ورقاني، ودعا لي

قائلاً: اللهم مُنّ عليه بحسن الختام؛ وهو العشق) .

وقوله: (قال الشيخ عبد ربه التائه: كنا في الكهف نتناجى حين ارتفع صوت

يقول: أنا الحب لولاي لجف الماء وفسد الهواء وتمطى الموت في كل ركن) .

إن هذا الفكر الذي يدعو إليه نجيب محفوظ والذي تسهم اليونسكو وبعض

الصحف العربية بنشره من خلال تقديمه للقارئ العربي من خلال هذا الكتاب

بدعوى أنه فكر إبداعي إنما هو فكر تخريبي يجب أن تقف الأمة ممثلة في الجهات

المختصة في مختلف أنحاء الوطن العربي لتقويمه؛ حتى لا تكون فتنة ويكون الدين

لله.


(١) دروس في الفلسفة، للدكتور محمد كمال جعفر.
(٢) استخدام كلمة الصدفة من الأخطاء الشائعة التي وقع فيها نجيب محفوظ، والكلمة الصحيحة المعبرة في هذا المجال هي: (المصادفة) .