للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقفات

[حسن الاتصال بالناس]

أحمد بن عبد الرحمن الصويان

نجاح الداعية في تحقيق أهدافه ونشر رسالته مرتبط ارتباطاً وثيقاً بقدرته على

الاتصال بالناس؛ فالدعوة إلى الله - تعالى - تفاعل تبادلي بين الداعية،

والمدعوين.

وتنمية مهارات الاتصال للدعاة في غاية الأهمية؛ لأنها هي - بعون الله

تعالى - الأداة الفاعلة للنجاح الدعوي.

ويعتمد حسن الاتصال على أمور رئيسة، من أهمها:

أولاً: القدرة على نقل المبادئ والعلوم بإتقان:

ويتطلب ذلك قدرة فائقة على ضبط المعلومات وفهمها فهماً صحيحاً، ثم

ترتيبها حسب الأوْلى، ثم نقلها إلى الناس بدقة واتزان، وهذا مصداق قول النبي

صلى الله عليه وسلم: «نضَّر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها، ثم أداها كما سمعها،

فرُبَّ حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه» [١] .

والحرص على ذلك يحول - بإذن الله - دون سوء الفهم، أو تداخل العلوم.

قال إبراهيم بن محمد: «كفى من حظ البلاغة ألا يؤتى السمع من سوء إفهام

الناطق، ولا يؤتى الناطق من سوء فهم السامع» [٢] .

ثانياً: معرفة أحوال المخاطبين:

إنَّ معرفة اتجاهات الناس الفكرية، والنظم الاجتماعية السائدة بينهم، تعين

في التزام الأسلوب العلمي المناسب في التواصل البنَّاء معهم، ولهذا لما أراد النبي

صلى الله عليه وسلم أن يرسل معاذاً - رضي الله عنه - إلى اليمن قال له: «إنك

تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله؛

فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم.. الحديث» [٣] .

فعرَّفه أولاً بالبيئة التي أرسله إليها، ثم بيَّن له سبيل التواصل معهم. فالاتصال

بالناس يتطلب مخاطبتهم على قدر عقولهم وفهومهم؛ ليكون ذلك أبلغ في التأثير

عليهم، كما قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: «حدّثوا الناس بما

يعرفون؛ أتحبون أن يُكذَّب الله ورسوله؟ !» [٤] . وقال ابن مسعود - رضي الله

عنه -: «ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة» [٥] .

ثالثاً: القدرة على الإقناع:

وهذه مهمة صعبة لا يتقنها كلّ أحد؛ فكم من متحدث متقن للعلوم التي يتحدث

عنها، لكنَّه يُخفق في إقناع الناس بما عنده؟ ! وربما تجد شخصاً أقل بضاعة

وأضعف فهماً، لكنه أَلْحن حجة وأحسن بياناً، وهذا المعنى أحد فوائد قول النبي

صلى الله عليه وسلم: «إنَّ من البيان لسحراً» [٦] . فالعرض الجيد يملك القلوب،

ويؤثر في النفوس، ولهذا عرَّف بعضهم البلاغة بقوله: «إهداء المعنى إلى

القلب في أحسن صورة من اللفظ» [٧] .

وإذا أردت أن تقف على أمثل درجات الإقناع وأعلاها منزلة، فاقرأ سيرة

النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهي عامرة بالشواهد والأمثلة، ومن ذلك أنَّه لمَّا أفاء

الله على رسوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قسم الفيء في المؤلفة قلوبهم، ولم

يعط الأنصار شيئاً، فكأنهم حزنوا إذ لم يُصبهم ما أصاب الناس، فخطبهم فقال:

«يا معشر الأنصار! ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ ! وكنتم متفرقين فألَّفكم الله

بي؟ ! وعالة فأغناكم الله بي؟ !» . كلما قال شيئاً، قالوا: الله ورسوله أمَنُّ.

قال: «ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ !» ، قال: كلما قال

شيئاً، قالوا: الله ورسوله أمنّ. قال: «لو شئتم قلتم جئتنا كذا وكذا، أترضون

أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم.

لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس وادياً وشعباً لسلكت وادي

الأنصار وشعبها، الأنصار شعار، والناس دثار، إنكم ستلقون بعدي أَثَرة

فاصبروا حتى تلقوني على الحوض» [٨] .

فانظر إلى عظيم حكمة النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف أنَّه ربَّى الأنصار -

رضي الله عنهم - أحسن تربية، ونقلهم من التطلع إلى فيء الدنيا وزخرفها

الزائل، إلى عظيم أجر الله تعالى لهم ونعيمه الدائم، ولهذا جاء في بعض روايات

الحديث: أن الأنصار بكوا بعد سماع كلامه صلى الله عليه وسلم، وقالوا: رضينا

برسول الله قَسَماً وحظاً [٩] .

ولأهمية الإقناع في إيصال المبادئ والأفكار إلى السامعين أضحت وسائله

علماً يُدرَّس، ووضعت له قواعد وأصول، فإذا كان التلقين المجرَّد عن البرهان قد

يستسلم له طائفة من الناس، فإن طوائف أخرى كثيرة لن تقبل إلا ما تؤمن به

وتطمئن إليه، وأحسب أنَّ الدعاة إلى الله أوْلى الناس بدراسة هذا العلم ومعرفة

فنونه وطرائقه؛ فهم حَمَلَةُ رسالة عظيمة، [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ

وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ] (فصلت: ٣٣) . وسلامة المنهج الذي

يحملونه ليس كافياً وحده في إقناع الناس، بل لا بد من سلامة العرض وقوة الإقناع.

رابعاً: الجاذبية الشخصية:

وهي عامل رئيس في مخاطبة الناس والتأثير عليهم، فإذا لم يحب الناسُ من

يدعوهم إلى الخير ويألفوه؛ فإنهم لن يسمعوا منه أو يلتفتوا إليه.

ومن أهم مقومات الجاذبية الشخصية:

١ - إظهار المحبة والشفقة على الناس، حتى على المقصرين منهم؛ فالداعية

الصادق همُّه أن يهتدي الناس إلى الحق، ولا يظهر الشماتة أو التشفي أو الرغبة

في الانتصار.

٢ - حسن الخلق في تواصله مع الناس: فذلك يجعل الداعية يألف ويؤلف،

والكلمة الطيبة مفتاح القلوب، وعنوان النجاح، وربّ كلمة لطيفة يسديها الداعية

إلى بعض الناس لا يلقي لها بالاً تفعل فعلها في نفوسهم، وتثمر خيراً كثيراً، وما

ظنك بذلك الأعرابي الذي بال في المسجد؛ فثار عليه الناس ليقعوا به، لو أنَّ

رسول الله صلى الله عليه وسلم عنَّفه وشدَّد عليه، فهل كان من الممكن أن يبقى

على دين الإسلام..؟ ! ولكن تأمَّل موقف النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا غلَّب

جانب الهداية على جانب الطهارة، حتى يُعلِّم الأعرابي ويفقهه في الدين، ثم انظر

أثر ذلك في قلب الأعرابي عندما قال: «اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا

أحداً» [١٠] .

٣ - الحلم وسعة الصدر: فالإنسان المتشنج الغضوب سريع الانفعال لن يجد

من المدعوين إلا النّفرة والإعراض، أما الحليم الذي يصبر على جهل الجهول وأذاه

فهو الذي يفلح في تبليغ رسالته البلاغ المبين، وينجح في استمالة الناس إليه، ومن

الدلائل اللطيفة على ذلك ما رواه معاوية بن الحكم - رضي الله عنه - قال: «بينا

أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجلٌ من القوم، فقلت:

يرحمك الله. فرماني القوم بأبصارهم! فقلت: واثُكْلَ أمِّياه! ما شأنكم تنظرون

إليَّ؟ ! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلمَّا رأيتهم يصمِّتونني، لكني

سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبأبي هو وأمي! ما رأيتُ

معلِّماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كَهَرني، ولا ضربني، ولا شتمني،

قال:» الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير

وقراءة القرآن «. أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [١١] .

خامساً: القدرة على التفاعل الإيجابي مع المدعوين:

أحسب أن كثيراً من الناس يأسرهم ويشدهم إلى قلب المتحدث تفاعله الحي

معهم. وكثير من الإخفاق الدعوي الذي يعرض لبعض الدعاة من أسبابه الرئيسة

قصورهم في التجاوب مع آراء الناس ومشكلاتهم، وقصورهم في إدراك ردود

الأفعال بحجمها الصحيح؛ فهو لا يعرف ما إذا كان السامعون فهموا مراده، وآمنوا

برسالته، أم أنه يتحدث في وادٍ والناس في واد آخر..!

لقد رأينا دعاة يعتقدون أنهم أدوا الواجب وأبرؤوا الذمة بمجرَّد وقوفهم أمام

الناس متحدثين، وهذّهم ما عندهم هذّاً، دون أن يُكلفوا أنفسهم عناء النظر في نتائج

ذلك العمل، ومقدار احتفاء الناس به وتفاعلهم معه.

لقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم الحرص على كسب قلوب الناس،

ولهذا قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -:» كان النبي صلى الله عليه

وسلم يتخوَّلنا بالموعظة في الأيام؛ كراهة السآمة علينا « [١٢] . ووصفت عائشة -

رضي الله عنها - حديث النبي صلى الله عليه وسلم بقولها:» كان يتكلَّم بكلام بيِّن

فصل، يحفظه من جلس إليه « [١٣] .

إنَّ ثمة حقيقة ناصعة الوضوح يجب على الدعاة أن يستصحبوها في جميع

مناشطهم الدعوية، وهي أن الساحة الحالية ساحة منافسة وسباق مع شتى التيارات

الفكرية، والأقدر على تحسين أدوات الاتصال بالناس؛ هو الذي سوف يحظى بلا

شك بقلوبهم.


(١) أخرجه: أبو داود، في كتاب العلم، رقم (٣٦٦٠) ، والترمذي، في كتاب العلم، رقم (٢٦٥٦) وقد رجح عبد المحسن العباد أنَّه حديث متواتر في كتابه: (دراسة حديث نضَّر الله امرأً سمع مقالتي، رواية ودراية) .
(٢) مقدمة ابن خلدون، (ص ٣٥) .
(٣) أخرجه: البخاري، في كتاب الزكاة، رقم (١٤٥٨) ، ومسلم في كتاب الإيمان، رقم (١٦ /٣١) .
(٤) أخرجه: البخاري معلقاً، في كتاب العلم، رقم (١٢٤) .
(٥) أخرجه: مسلم في المقدمة، (١/١١) .
(٦) أخرجه البخاري في النكاح، رقم (٥١٤٦) ، وفي الطب، رقم (٥٧٦٧) .
(٧) البيان والتبيين، (١/١٣٦) ، وقال أحد الكتاب الغربيين:» إن طريقة التعبير عن فكرة معينة لا تقل أهمية عن الفكرة نفسها «فن الاتصال، لبرت دكر، ترجمة الدكتور عبد الرحمن الشمراني.
(٨) أخرجه: البخاري في المغازي، رقم (٣٩٨٥) ، ومسلم في الزكاة، رقم (١٧٥٨) .
(٩) سيرة ابن هشام، (٣/٦٧، ٧٦ ٧٧) من طريق ابن إسحاق، بإسناد حسن لذاته، انظر السيرة النبوية الصحيحة، (٢/٥١٤) .
(١٠) أخرج هذا المقطع من الحديث: البخاري، في كتاب الأدب، رقم (٥٥٥١) .
(١١) أخرجه: مسلم، في كتاب المساجد، باب تحريم الكلام في الصلاة (١/٣٨١ ٣٨٢) .
(١٢) أخرجه: البخاري، في كتاب العلم، رقم (٦٨) .
(١٣) أخرجه: أحمد (٦/٢٥٧) ، والترمذي، في كتاب المناقب، رقم (٣٦٣٩) .