للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ملفات

فلسطين.. نزف مستمر وعطاء دائم!

[البيان تقتفي خطى الشيخ ياسين في فلسطين]

نائل نخلة

يوم ١/٢/١٤٢٥هـ الموافق ٢٢/٣/٢٠٠٤م، وهو يوم اغتيال الشيخ أحمد

ياسين - رحمه الله - سيكون يوماً مفصلياً في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي،

وسيكتب التاريخ أن هذا اليوم شكَّل نقطة تحوُّل في المواجهة مع هذا العدو.

مجلة «البيان» تقدم هذه التغطية الخاصة من واقع الحدث في فلسطين

وغزة بالتحديد؛ حيث نستعرض محطات غائبة في حياة الشيخ، ونتحدث مع

الأشخاص الذين رافقوه في الأسْر طوال فترة اعتقاله في سجون الاحتلال

الصهيوني، ونتتبع الدقائق واللحظات التي سبقت اغتياله مع أقرب الناس

إليه.

* عبد الغني ياسين: هكذا اغتالوا أبي.

عبد الغني ابن الشيخ ياسين، بدا جالساً على سريره في مستشفى الشفاء بغزة

هزيلاً، غير قادر على الكلام، يتحدث وكأن في فمه ماءً، وبجواره جلس بعض

رفاقه محاولين تخفيف آلام جراحه، وآلام فقدانه لوالده الشيخ.

عبد الغني يشبه في ملامحه إلى حد بعيد ملامح أبيه - رحمه الله - وهو ما

يجعل مهمة التعرف عليه ليست صعبة.

ما الذي حدث ساعة القصف؟

- صليت الفجر مع والدي يوم الإثنين أنا وشقيقي عبد الحميد، ثم سبقنا

والدي للبيت، وكذلك شقيقي عبد الحميد الذي يعمل سائقاً للباص الذي يتنقل فيه

الشيخ، وما هي غير ثوانٍ حتى سمعت صوت انفجار فخرجت مسرعاً من البيت.

هل بيتكم قريب من مكان الجريمة؟

- نحن نقطن في حي الصبرا بغزة، وبيتنا لا يبعد إلا أمتاراً عن مسجد

المجمَّع الإسلامي الذي صلى فيه أبي الشيخ صلاته الأخيرة.

هل لك أن تشرح لي ما حدث؟

- ليلة الجريمة كانت الطائرات الزنانة (الاستطلاع) تحوم بكثرة في سماء

غزة، وكان الكل يتوقع أن ترتكب قوات الاحتلال جريمة ما؛ حيث إنه ما أن

تحوم الطائرات حتى نعلم أن هناك جريمة ستحدث، وحينما سمعت صوت الانفجار

الأول الذي كان قوياً جداً توقعت أن هذه عملية اغتيال لأبي الشيخ - رحمه الله -،

فخرجت مسرعاً إليه.

وفجأة أطلقت الطائرة صاروخاً ثانياً، أُصبت جراءه ولم أدرِ بعدها ما الذي

حدث.

من الذي أطلق الصواريخ: هل هي طائرات مروحية من نوع أباتشي كما

قيل؟

- لا، لا، لم تكن هناك طائرات أباتشي في الجو، إنها الطائرات الزنانة

(استطلاع بدون طيار) وكما سمعنا فإن إسرائيل طورت هذه الطائرات وجعلتها

بالإضافة إلى عمليات الرصد والاستطلاع تقوم بعمليات إطلاق صواريخ؛ وذلك

لأن المجاهدين حينما يسمعون صوت طائرات الأباتشي يتخذون احتياطات أمنية

على الفور، لكن طائرات الاستطلاع هذه لا تصدر أصواتاً.

لماذا أطلقت الطائرات الصاروخين الآخرين؟

- كما تعلم إسرائيل لم تفلح في المرة السابقة في اغتيال الشيخ حينما أطلقت

صاروخاً على البيت الذي كان يتواجد فيه.. فأرادت هذه المرة التأكد من قتله،

ومن أجل إيقاع أكبر عدد ممكن من القتلى.

هل شاهدت الشيخ وهو على الأرض شهيداً؟

- لم أرَ سوى جثث ملقاة على الأرض، وكانت الدنيا لا تزال فجراً، ولم

تشرق الشمس بعدُ، فلم أتبين شخصية أبي، إنما شاهدت جثثاً ملقاة على الأرض.

ما هو نوع هذا الصاروخ؟

- إنها صواريخ صغيرة جداً، ومليئة بالمسامير، عرفت هذا من خلال

إصابتي، وكذلك أخبرني الإخوة أن المكان الذي وقعت فيه جريمة الاغتيال مليء

بالثقوب في الجدران والأرض.

كيف كان شعورك حينما أخبروك بأن أباك استشهد؟

- كنت أتوقع هذا اليوم منذ زمن؛ فأنا كنت أشعر أن الشهادة هي نهاية أبي،

وهو كان يتمناها بصدق، ويدعو الله عز وجل في صلاته وتهجده أن يرزقه إياها،

والحمد لله نال أبي ما تمنى، ولحق بإخوانه الشهداء.

كيف أصيب أخوك عبد الحميد؟

- أخي عبد الحميد أصيب أيضاً من الصاروخ الثاني أو الثالث، وكان

لحظتها سائقاً للباص الذي يستخدمه أبي في التنقل، وكان متوجهاً إلى البيت سابقاً

أبي الذي يحب أن يعود إلى البيت على كرسيه، وحينما حدث الانفجار ترك الباص

وتوجه إلى المكان، وعندها سقطت بقية الصواريخ فأصيب أخي.

كيف هي حالته الآن؟

- الحمد لله اليوم زالت عنه حالة الخطر، ووضعه الصحي مستقر، كما

اخبروني.

والدك كان مهدداً بالتصفية؛ فلماذا كان يصلي في المسجد ويعيش في العلن؟

- كان - رحمه الله - مؤمناً أن لكل أجل كتاباً، كما أنه كان لا يخشى الموت،

بل يطلب الشهادة. كان أحياناً يتخذ بعض الاحتياطات الأمنية، ويخلي البيت

ويومها كان معتكفاً في المسجد.

هل بقية الشهداء هم من المصلين؟

- هؤلاء كانوا معتادين على توصيل الشيخ للبيت كل يوم.

هل استشهد الثمانية في نفس المكان؟

- نعم! وفي نفس اللحظة.

حسب معلوماتك كيف أصيب الشيخ واستشهد؟

- سمعت أنهم أطلقوا أول صاروخ على مرافقه كي يوقفوه، فجاء الصاروخ

في مؤخرة رأس الشيخ، وسمعت أنه أصيب في بطنه مباشرة، لكن لا أدري

بالضبط ما الذي حدث، هم أطلقوا الصواريخ على رصيف يبتعد أمتاراً قليلة عن

مسجد المجمع.

هل كان الشيخ يشعر أن أجله قد اقترب؟

- نعم! كان يشير إلى أنه في أيامه الأخيرة، وسمعت أنه قال لبعض أفراد

أسرتنا قبل استشهاده بيوم واحد إنه يشعر أنه سيُستشهد، وأنه قال لهم: أنا أطلبها،

ولا أريد الدنيا.

هل كنتم تبيتون في البيت في الفترة الأخيرة؟

- ليس دائماً. كانت أخَواتي يبتن خارج البيت، لكن أمي كانت تبيت في

البيت وتسلم أمرها إلى الله، وكنا نتخوف من قصف بيتنا. كان أبي رغم أنه

مطارد إلا أنه يحاول القيام بالكثير من الأعمال.

كيف كان يومه الأخير؟

- كان معتكفاً في المسجد، وكان صائماً؛ حيث اعتاد الصيام يومي الإثنين

والخميس.

* بنت الشيخ ياسين: بيتنا بدون بلاط، وحار جداً في الصيف، وبارد جداً في

الشتاء:

تصف إحدى بنات الشيخ ياسين أم همام في حوار مع البيان بيت أبيها،

فتقول: إنه بدون بلاط، ومساحته ضيقة، والمطبخ فيه متهتك، في الشتاء بارد

جداً، وفي الصيف حار جداً، لم يكن مطلقاً - رحمه الله - يفكر في تجديد البيت،

ورفض عرضاً، من السلطة عندما أفرج عنه بالانتقال للإقامة في منزل فاخر

وضخم في أحد الأحياء الراقية في القطاع.

وتتابع أم همام: لقد كان يحض أبناءه على الصلاة والصوم وتقوى الله،

وكان يحرص على تعليمهم في المدارس حتى المرحلة الثانوية، إلا أن ظروفه

المادية لم تسمح له بأن يدخلهم الجامعات.

ومن المواقف التي تتذكرها أم همام عن والدها ما روته لنا قائلة: في أحد

الأيام تبرع تاجر بخمسة قمصان من النوع الفاخر لتوزيعها على المحتاجين،

وعندما اقترح عليه أحد أبنائه أن يستبدلها بـ ٢٠٠ قميص متوسطة الجودة حتى

يعطي عدداً اكبر، لكنه رفض وقال: أليس من حق الفقير أن يلبس قميصاً فاخراً؟

* حارس الشيخ ياسين: أكثر ما كان يسعده العمليات الاستشهادية ورؤية الأطفال

الحافظين لكتاب الله:

«ليتني استشهدت ولم أبق حياً أتجرع لوعة الفراق» .. بهذه الجملة عبّر

عدنان أبو جبر، أحد حراس الشيخ أحمد ياسين، عن مشاعره التي تعصف بكيانه

منذ فارق شيخه الياسين مع اثنين من رفاق دربه من حراس الشيخ.

متى التحقت بحراسة الشيخ ياسين؟

- كنت مرافقاً للشيخ الدكتور الشهيد إبراهيم المقادمة - رحمه الله -؛ وذلك

مدة عامين ونصف، ولم يرد الله لي الشهادة؛ حيث لم أكن يومها (٨/٣/٢٠٠٣م)

برفقته. بعدها نلت شرف مرافقة الشيخ الشهيد إلى أن حقق الله له أمنيته بالشهادة،

ولم يكرمني الله أيضاً هذه المرة بالشهادة.

كيف تركت الشيخ أحمد ياسين؟

- كان مريضاً جداً وذهبنا به للمستشفى، ولقد توقعت ألا يعيش أكثر من

أسبوع؛ حيث إنني لم أره مريضاً كهذه المرة من قبل، كان متعباً للغاية.. ولقد

قلت للشباب (المرافقين) الشيخ: العلم عند الله أن الشيخ لن يعيش حتى نهاية

الأسبوع.

ما هي المهام الموكلة لكم في فريق حراسة الشيخ؟

- نحن مكلفون بعدة مهام: أولها: حراسة الشيخ؛ حيث وفرت لنا الحركة

(حماس) أسلحة أوتوماتيكية خفيفة، وثانيها: مساعدته على كافة أمور حياته؛

فالشيخ لا يستطيع تحريك أي جزء من جسده، كنا نحمله ونطعمه ونشربه ونساعده

على قضاء حاجته، ونساعده على الوضوء والصلاة وكل شيء تقريباً. وكذلك

نساعده على قراءة الكتب والرسائل والأوراق الخاصة بالحركة، وننظم زيارات

الناس والضيوف له.

ما أكثر ما كان يميز الشيخ؟

- بساطته الشديدة وطيبة قلبه وورعه الشديد وحبه للناس وعشقه للجهاد في

سبيل الله.. مهما تحدثت عن هذا الرجل فلا يمكن أن أوفيه حقه. وبخصوص

الأمور الشخصية كان الشيخ قليل النوم، لا ينام أكثر من ثلاث أو أربع ساعات،

وكذلك أكله خفيف جداً.

ما هو برنامجه اليومي؟

- كان يستيقظ قبل الفجر بساعتين أو ثلاث، ونوضئه فيصلي ويتهجد ويقرأ

القرآن، ثم يصلي الفجر في مسجد المجمع الإسلامي. بعد الفجر يقرأ القرآن،

ويستمع للأخبار ويقرأ نشرات خاصة يعدها المكتب الخاص به حول آخر الأخبار

والمستجدات. وكان يهتم بشدة بالشؤون الإسرائيلية، ويظل هكذا حتى الساعة

السادسة أو السابعة صباحاً. ثم ينام حوالي ساعتين ويصحو حوالي الساعة ١٠ أو

١١ فيتناول فطوره، وهو فطور خفيف جداً حيث لا يكمل رغيف خبز واحد

بالإضافة إلى كوب من لبن الزبادي.

وكان يؤدي صلاة الظهر في مسجد المجمع، ويجلس مع الناس في المسجد،

وبعد الظهر يجتمع مع قادة حماس وكوادرها، وكذلك مع الصحافيين أو مع الناس

العاديين الذين يأتون لزيارته.

أنت عايشت اثنين من قادة الحركة الإسلامية: ما الفرق الذي لاحظته بين

الشهيد إبراهيم المقادمة واحمد ياسين؟

- كان الشيخ - رحمه الله - صورة طبق الأصل عن الشهيد الدكتور إبراهيم

المقادمة؛ فكلاهما كان زاهداً في الدنيا، كل وقته وجهده وتفكيره من أجل الإسلام،

وكانا طالبي شهادة بحق، وكانا قليلي النوم والأكل.

كيف كان الشيخ يعامل حراسه، ويعاملكم؟

- كان كالأب الحنون، كان بسيطاً للغاية وكنا نحيا مع رئيس ليس بمستكبر

أو متعجرف؛ نتحدث إليه ويحدثنا بكل بساطة ورفق ولين. كان لا يرد أحداً،

وأذكر أنه في عيد الأضحى الأخير جاء إلى منزل الشيخ رجل معوق، فلم يأذن له

الحراس بالدخول، فغضب الشيخ غضباً شديداً وطلب منا أن نحضره. ولما دخلنا

به على الشيخ جلس إليه وتحدث معه وسأله: ماذا تريد؟ فقال: جئت (أعيّد)

عليك يا شيخ: فأنا أحبك.

ما أكثر ما كان يسعد الشيخ ياسين؟

- العمليات الاستشهادية والجهادية، وكذلك رؤية الأطفال والأشبال الحافظين

للقرآن والمهتمين بالدعوة.

هل كان الشيخ يغضب بسرعة، ومتى؟

- لم أره غاضباً إلا مرة واحدة وهي حينما قصفت طائرات الاحتلال منزل

الدكتور محمود الزهار، وأسفر ذلك عن استشهاد ابنه ومرافقه؛ حيث رأيت الشيخ

غاضباً وأقسم قائلاً: «واللهِ لأركِّعهم» يقصد الصهاينة.

هل لمست كرامات خاصة للشيخ؟

- كل حياة الشيخ كرامات.. وأنا أذكر أننا في أحد الأيام قمنا بنقل الشيخ من

بيته إلى مخبأ؛ وذلك لأسباب أمنية، وكانت المنطقة مليئة بالبعوض، وكنا نعاني

بشدة من قسوة لدغات البعوض لدرجة أننا كنا نضرب أنفسنا، لكننا فوجئنا أن

البعوض لا يقترب من الشيخ نهائياً، فسألنا الشيخ: لماذا لا يقترب منك البعوض يا

شيخ؟ فقال: هذا من فضل الله. وبالفعل فهذا من فضل الله؛ فالشيخ لا يحتمل

لدغات البعوض، ولا يستطيع أن (يهش) عن نفسه بعوضة.

هل كان يحب المزاح والمداعبة؟

- نعم! كان ضحوكاً. تجده مبتسماً دوماً، وكان صبوراً وكاظماً لغيظه.

وأذكر قبل استشهاده بيوم أنني تسلمت نوبة الحراسة من دون أن أعلم أن بذراع

الشيخ (حقنة ومحلولاً) فشددت قميصه بعنف كي أساعده على الوضوء فتسببت له

بألم شديد جداً لكنه - رحمه الله - لم يغضب وتحمل الألم.

ما أكثر ما كان يزعجه؟

- أي عمل منافٍ للأخلاق والدين، وأي تأخير في مواعيد الصلاة والعبادات.

وكذلك كان يغضب إذا ما عاملنا الناس بطريقة غير ملائمة، وكان لا يحب

استعجال شباب حماس وتسرعهم، ويكره أي عمل يهدد الوحدة الوطنية.

هل لا تزال حزيناً على فراق الشيخ؟

- الفراق صعب جداً؛ فما بالك إذا كان هذا الفراق لإنسان مثل الشيخ ياسين؟!

أنا حزين جداً على فراق الشيخ؛ ليتني استشهدت معه ولم أظل حياً أتجرع لوعة

الفراق.

رغم التهديدات الإسرائيلية للشيخ: هل كان خائفاً ومتخذاً لاحتياطات أمنية؟

- لا، الشيخ لم يكن خائفاً من الموت. كنا حينما نطلب منه مغادرة المنزل

يقول: أنتم تريدون أن تحرموني الشهادة. وبصراحة أنا أرى أن كل عمليات

الاختباء التي كنا نقوم بها كانت شكلية؛ وذلك لأن الشيخ كان يرفض الاختباء ولا

يخاف الموت، ولا زلت أذكر ذلك الصحفي الذي سأل الشيخ: هل أنت خائف يا

شيخ من التهديدات الإسرائيلية بقتلك؟ فأجابه الشيخ: نحن طلاب شهادة.

أنا حزين جداً وطوال الوقت أتذكر الشيخ ومرافقتي له وذكرياتي معه.

زوجتي تسألني دوماً فيمَ أنت سرحان؟ رافقت المقادمة عامين ونصفاً، ورافقت

الشيخ ١١ شهراً.

* كان سجناء اليهود ينتظرون ليسلموا عليه:

كان السجناء اليهود ينتظرونه لحظة خروجه إلى «النزهة» للتسليم عليه.

هكذا يتحدث بعض من رافقه أثناء اعتقاله في سجون الاحتلال.

في السنة التي رافقه فيها أبو القاسم، أحد الأسرى الفلسطينيين استشهد

المجاهد يحيى عياش وكان ذلك في ٦/١/١٩٩٦م، حيث حزن الشيخ كثيراً

لاستشهاده، وبكاه وتمنى لو أنه التقى به وتحدث معه، واحتجاجاً على اغتياله

أضرب يوماً عن الطعام هو ومرافقوه جميعاً، وكان ذلك في سجن تلموند.

ويذكر أبو القاسم أنه في أحد المرات التي كان يُجرى له مساج لجميع أعضاء

جسمه، كسر أحد أصابع قدميه؛ وبالرغم من الألم الشديد الذي تسبب به إلا أنه لم

يغضب أو يرفع صوته، واكتفى بالقول: «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي

العظيم» .

لم يكن أمام شيخ قعيد للدفاع عن نفسه ضد إدارة مصلحة السجون الصهيونية

وقراراتها الظالمة بحقه سوى إعلانه عن الإضراب المفتوح عن الطعام والدواء،

وهذا ليس بالأمر البسيط بالنسبة لشخص مصاب بعدة أمراض قد تصل في بعض

الأحيان إلى سبعة أمراض معاً.

وكان برنامجه اليومي في السجن يبدأ منذ صلاة الفجر جماعة، ثم تلاوة

القرآن حتى موعد الفطور، ويسبق صلاته الفجر قيام الليل ما تيسر له، تليها فترة

قراءة ومطالعة حتى موعد الفورة وهي النزهة اليومية للمعتقلين في العاشرة صباحاً

والتي تستمر حتى صلاة الظهر التي كان يصليها دوماً في ساحة النزهة.

ثم يأتي موعد الغداء الذي تقدمه إدارة السجون، يلي ذلك فترة قراءة الكتب

الثقافية والدينية التي تستمر حتى صلاة العصر، وبعد صلاة العصر يسمع الأخبار

ويشاهد التلفاز في محاولة منه ليبقى على تواصل دائم مع شعبه خارج السجن.

يصلي المغرب مع مرافقيه، ولم يكن يحب أن يصلي فيهم إماماً نظراً

لانخفاض صوته، ثم يكرر مشاهدة التلفاز ويتحدث في أمور الدنيا والأمور التي تهم

الأسرى مع مرافقيه ومن تواجد داخل غرفته حتى صلاة العشاء التي تليها فترة

قراءة تستمر عادة حتى الثانية عشرة أو الواحدة حيث يخلد شيخنا الجليل للنوم.

* الشيخ عبد العزيز الكجك: هذه قصتي مع الشيخ أحمد ياسين:

على مدار ٣٧ عاماً، عاشر رجلُ الإصلاح الفلسطيني المعروف الشيخ عبد

العزيز الكُجُك (أبو ناصر) عاشر الشيخَ أحمد ياسين، مشاركاً إياه درب الدعوة

الإسلامية التي بدأها الشيخ في وقت كانت رياح الإلحاد تعصف بالمجتمع

الفلسطيني، ومعاً شكَّلا أول لجان لإصلاح ذات البين، بين الناس حقناً لدماء

المسلمين.

متى تعرفت على الشيخ؟

- تعرفت على هذا الشيخ الفاضل في عام ١٩٦٧م، وكان الشيخ - يرحمه

الله - يمشي بصعوبة، ولم يكن أصيب بالشلل الكامل بعدُ، وكان يأتي إلى حي

الشجاعية حيث أسكن وقتها لإلقاء الدروس والمواعظ، وكان يصعد منبر مسجد

المحكمة ويلقي الدروس والندوات. وتعرفت منذ ذلك الحين على القائد الفذ الرباني

أحمد ياسين - رحمه الله - وكان عمري وقتها حوالي ٣٠ عاماً.

أين كان موقع الدعوة إلى الله في حياة الشيخ؟

- الشيخ أحمد ياسين ظهر في فترة كانت رياح الإلحاد تعصف بالمنطقة،

والله سبحانه وتعالى أرسل الشيخ أحمد ياسين في تلك الفترة لإحياء النفوس، فأخذ

يتجول في مخيمات اللاجئين وأحياء القطاع يدعو إلى الله، ولم يكن هناك نشاط

إسلامي على الإطلاق؛ فعندما كنت تدخل المساجد لم تكن تجد فيها إلا المسنين

والطاعنين في السن، وحتى داخل البيوت، ولا تجد في الشارع كله صفاً واحداً.

من أين بدأ الشيخ دعوته؟

- بدأ - يرحمه الله - دعوته من المسجد الشمالي في مخيم الشاطئ، وبدأ

يتحرك من ذلك المكان، وكذلك من بيته، ولم يقتصر على هذا المسجد فاعتمد كذلك

على مسجد العباس بحي الرمال.

عرف عن الشيخ نشاطه المميز في مجال الإصلاح بين الناس، وكنتَ

تشاركه في ذلك: كيف يمكن أن تصف لنا هذا النشاط؟

- كان الإصلاح من أهم الأمور التي يهتم بها الشيخ ويوليها جلّ اهتمامه؛

لأنه كان يقول: إن إصلاح ذات البين هي أرضية ودعامة لبناء المجتمع الصالح

وللعمل الإسلامي، خاصة أن مجتمعنا قَبَلي، وكانت فيه عادة الثأر عميقة. كان

الشيخ ذا وقار بين العائلات، واستطاع بحكمته ووعيه وذكائه أن ينال احترام جميع

العائلات في قطاع غزة.

حينما كنا نذهب لحل أي مشكلة ويعلمون أن الشيخ موجود فيها.. صدقوني

أننا كنا نحل ٩٠% منها فوراً؛ لأنهم يعلمون أن هذا الشيخ نذر نفسه لإصلاح ذات

البين ولإصلاح المجتمع كله.

هل أقمتم لجاناً للإصلاح؟

- خلال الانتفاضة المجيدة الأولى عام ١٩٨٧م ركزنا كثيراً على مجال

الإصلاح؛ لأن العدو كان يبث العملاء داخل مجتمعنا لافتعال المشاكل بين العائلات

والفصائل من أجل إشعال المجتمع بمشاكل داخلية. وسبحان الله فقد التفت الشيخ

بفطنته إلى ذلك الخطر الجسيم الذي كان يدبره العدو لشعبنا لتفتيت قواه، وكان

الرجل متواضعاً برغم هيبته ووقاره، ولا يقطع في الإصلاح أمراً إلا بعد أن يسال

ويستشير، والله وفقنا في إصلاح كثير من المشاكل وخاصة مشاكل (الدموم) القتل

والثأر.

هل تذكر حادثة معينة نجح الشيخ في حلها؟

- الله سبحانه وتعالى أجرى على أيادينا حل ما لا يحصى من المشاكل العادية،

وكذلك لما يقارب من سبع مشاكل بين عائلات كبيرة كان بينها (دموم) والله

أجرى الخير على أيادينا بفضل كرامة وبركة هذا الشيخ. و (الدموم) كانت من

أمور الجاهلية في القطاع، وكانت تأكل الأخضر واليابس، ولقد سن الشيخ سُنَّة

حسنة في الإصلاح بين الناس لم تكن موجودة من قبل؛ فلقد كان رجال الإصلاح

يعملون على حل المشاكل بشكل مؤقت. وكان بعضهم يقولون لأهل المقتول: خذ

الدية اليوم، ثم خذ بثأرك بعد سنوات، وكانت حلولهم مؤقتة. لكن الشيخ خط

للجميع سُنَّة «تحكيم شرع الله» في أمور القتل؛ فكنا نرغِّب أهل المقتول في أخذ

الدية (وهي مشروعة) وحينما يأخذها نبصِّره أنك أنت الآن عفوت، وأخذُك للدية

أنهى القضية، ونبصِّره أنه إذا غدر فإن الله سبحانه سينتقم منه؛ لأن الله هو

المنتقم.

وبهذا استطاع الشيخ إنهاء الكثير من نزيف الدم والاقتتال الداخلي وتفتيت

المجتمع، والله سبحانه وتعالى وفقنا في حل الكثير من حالات الشجار.

ولقد تدخل الشيخ في حادثة أخيرة قبل شهور من استشهاده في حي الشجاعية

عندما قتل شاب من عائلة (م) بعد أن انفجرت قنبلة في يده، وكان قد تشاجر قبلها

مع أفراد من عائلة (س) فذهبنا أنا والشيخ واستحلفناهم على حقنهم الدماء. وللعلم

أن تلك العائلتين هما أكبر عائلتين في قطاع غزة.

والله وفق الشيخ في حل جذري للمشكلة بعد أن وضع سند تحكيم، وأقام لجنة

شرعية ولجنة تحقيق، والحمد لله بعد جلسات وإحضار أهل الخبرة (كان الشيخ

يستعين بهم دوماً) من أطباء شرعيين وتشريح وخبراء متفجرات وخبراء تدريب

عسكري تبين أن الشاب - يرحمه الله - قتل من القنبلة التي كان يحملها في يده

وليس من العائلة الأخرى.

وهل كان الشيخ بالرغم من مشاغلة في حركة حماس ومرضه يصلح بين

الناس؟

هذا الرجل نقول - والقلب ينزف دماً على فراقه - إنه ترك فراغاً كبيراً؛

فقبل وفاته بأسبوع فقط استدعاني لحل قضية شجار بين عائلة (ج) وعائلة (س)

نتيجة عن مقتل شاب كان قد أصيب في ساقه، وتوفي نتيجة الإهمال الطبي،

وأرادت عائلته الثأر.

فالشيخ رغم انشغاله وأمراضه أرسل لي وقال: يجب أن نحاصر هذه المشكلة

فوراً وفي المهد؛ وذلك لأن أهل العرف ذهبوا للعائلتين، ولم يفعلوا شيئاً. فقلت له:

«أعطني وقتاً، فرد عليَّ قائلاً:» يا أخي! يجب التحرك بسرعة لحقن دماء

المسلمين «. وقبل استشهاده بيوم أرسل لي يقول:» ماذا فعلت في هذه القضية؟

هل عملت سند تحكيم؟ هل ذهبت إلى العائلات؟ «وكان الرجل لا يفكر إلا أن

تعيش العائلات مستقرة وفي حسن جوار.. وحدّث ولا حرج» .

كيف كان يتحرك في بداية حياته الدعوية رغم مرضه والشلل الذي كان

يعاني منه؟

- عندما بدأ الشيخ حياته الدعوية في السبعينيات كان يتحرك على دراجة

هوائية يقودها أحد الإخوة، وأحياناً كان يتحرك على رجليه، وحينما كان يأتي إلى

حي الشجاعية شرق غزة يأتي مشياً رغم أن المشي كان صعباً جداً عليه، وكان الله

سبحانه يمده بمدد من عنده؛ فيأتي مشياً لمسافات طويلة وهو يعرج، ويأتي لحي

الشجاعية لإعطاء الندوات، ولم يكن الناس يعرفون قبله هذه الندوات والدروس.

في فترة الستينيات والسبعينيات كانت تعصف رياح الشيوعية والإلحاد

والعلمانية في المجتمع الفلسطيني؛ فماذا كان دور الشيخ في نشر الدعوة

الإسلامية؟

- الشيخ - رحمه الله - كان رجلاً صاحب خبرة؛ فحتى الشيوعيون

والإلحاديون وكل أصحاب التيارات الإلحادية عندما كانوا يلتقون بالشيخ لا

يجاهرونه العداء إطلاقاً، وكانوا يقبلونه رغم حقدهم عليه، وكان بسياسته الحكيمة لا

يُغضب أحداً، ولا يستثير أحداً، ويعامل حتى الملاحدة برفق وطمأنينة حتى إن

كثيراً من الناس هداهم الله إلى الإسلام عن طريق الشيخ ومعاملته معهم. ولم يكن

الشيخ يجد أنصاراً وأعواناً، ورغم ذلك شق طريقه بكل صعوبة.

ما حقيقة المزاعم أن الشيخ كان يعارض في البداية العمل العسكري ويركز

فقط على العمل الدعوي؟

- هذا صحيح؛ فالشيخ في البداية لم تكن لديه أرضية يرتكز إليها؛ فكيف

يقاتل وهو لا يمتلك قاعدة يقف عليها؟ كان في ذلك الوقت يبني؛ فكيف يترك

الدعوة ويقاتل وهو لا يمتلك شيئاً؟ حينما امتلك العتاد والقوة كان من السباقين إلى

الجهاد. كان الرجل حكيماً ذا بُعد نظر، والله حقق له ما تمنى.

يروج الصهاينة لادعاء أنهم موَّلوا حركة حماس في بدايتها من أجل

محاصرة منظمة التحرير وخنقها؛ فكيف ترد على هذه الفرية؟

- هذا هراء وكذب وافتراء، هذه فرية افتراها الشيوعيون في حينه، وكانوا

يعادون الحركة الإسلامية، ويكرهون الإسلام والمسلمين؛ لأن حركتهم قامت على

العداء للإسلام، وهم من روَّج لهذه الافتراءات.

وبالمناسبة لم تكن هذه الافتراءات وحدها يستخدمونها ضد الحركة الإسلامية

في ذلك الوقت؛ فعندما بدأ الشيخ في عمله وانطلق من المجتمع الإسلامي، ولم تكن

حركة حماس قد تكونت، كانوا يكيلون شتى الاتهامات للمجمَّع ولشبابه ويسخرون

منهم.

فحينما كان أحد أفراد المجمَّع الإسلامي يطلق لحيته ينظرون إليه بمنظور أنه

من (المجمَّع) ويتهمونه بشتى الاتهامات ويسألونه: كم تقبض على لحيتك؟ وكم

تأخذ معاشاً شهرياً؟ ويسخرون منه، وكانت هذه دعايات مغرضة.

والحمد لله هؤلاء الناس اندثروا اليوم وانتهوا؛ في حين تعاظمت قوة الحركة

الإسلامية؛ وذلك لأنهم كانوا قائمين على حرب الله ورسوله.

وهناك مزاعم كذلك أن إسرائيل منحت ترخيصاً للمجمَّع الإسلامي؟

- إسرائيل منحت الترخيص للمجمَّع كجمعية عثمانية خيرية، كما منحت

ترخيصاً لجمعية الهلال الأحمر (الشيوعية) قبل المجمع بسنوات. لو كانت كل

جمعية تمنح ترخيصاً هي مشبوهة لكان الأوْلى أن نقول إن المشبوهين هم من أخذوا

ترخيصاً قبل المجمَّع بسنوات.

ثم إن الشيخ ياسين اعتقل في البداية بتهمة إنشاء المجمَّع الإسلامي دون

ترخيص، وأفرج عنه بعد تدخل (الحاج هاشم الخزندار) الذي كان من أكبر

الشخصيات في القطاع وقتها قبل أن يُقتل على خلفية تأييده لاتفاقية كامب ديفيد.

وقام هذا الرجل بالحصول على ترخيص للمجمع الإسلامي من السلطات

الإسرائيلية التي جاملته؛ لأنه أيد اتفاقية كامب ديفيد بين إسرائيل ومصر والتقى

السادات.

والحق يقال إن هذا الرجل (الخزندار) لم يكن معادياً للإسلام والحركة

الإسلامية وقد قتل على يد الشيوعيين لتأييده كامب ديفيد.

وأذكر أن هذا الرجل الذي كان تاجراً كبيراً جداً يقوم وحده عام ١٩٦٧م بجمع

جثث الشهداء الملقاة في الشوارع لدفنها، ونحن لا نغمط الناس حقهم.

وُصِفَ الشيخ بأنه كان أشهر خطباء القطاع: كيف تصف طبيعة خطبه،

والمواضيع التي كان يتحدث فيها؟

- كان الشيخ محبوباً في خطبه، كان لا يطُول الناس، ويتطرق إلى القضايا

المجتمعية، كان لا يسب ولا يشتم ولا يتطاول ولا يجرح، ولذلك كان الناس

ينتظرون خطب الشيخ من أجل الروحانيات التي كان يبثها فيهم.

كان صوته في تلك الفترة أنقى من الفترة الأخيرة وأقوى، وكان صوته حنوناً

رنانًا. كان يحث الناس على العمل للإسلام، ويركز أكثر من أي شيء آخر على

قضية التربية والأخلاقيات، وعندما آتت جهوده ثمارها أصبح يحث على الجهاد

والمقاومة.

كيف كان قبل وفاته؟

- الشيخ معجزة: تراه مريضاً لا يستطيع الحراك؛ لذلك تقول إنه في

الصباح سيموت. تأتي إليه في الصباح تراه جالساً ووجهه يشع نوراً، ومن فضل

هذا الشيخ أنه كان يداعب الصغير والكبير، ولا يُغضب أحداً. دائماً متفائل،

وعندما تذهب إليه وتكون مهموماً وتجلس بين يديه تجد جميع المشاكل قد انتهت.

كيف كان تأثيره في الناس؟

- كان بعض الشباب في قضايا الإصلاح تجده شرساً، وكنا لا نقدر عليه؛

فنرسل به إلى الشيخ بطريقة ما. وسبحان الله فما أن يجلس مع الشيخ حتى ينقلب

الشاب ويصبح كرديف وسند لنا في حل المشكلة.

وحينما كان المحامي عبد المالك دهامشة يزوره في سجنه، ويأتي إلينا لنسأله

عن حال الشيخ يقول لي: الشيخ (مكيِّف) نقول له: كيف؟ يقول: «السجناء

أجدهم يضجرون ويتأففون، وحينما أزور الشيخ أجده يضحك ويداعبني» .

ويقول للمحامي: «أنا بخير في روضة من رياض الله، ويقول له: كيف

(ابن الداية) يقصدني أنا، ويقول له مداعباً: انظر إنهم (الصهاينة) يضعون عليّ

الحراس، أنا أنام وهم يسهرون يحرسونني» .

يقال إن الشيخ كان ذا ذاكرة قوية جداً، ما صحة هذه الأقوال؟

- كان ذكياً جداً، وكان الله تعالى يلهمه التقوى. صدقني كان يذكرني بأيام

السجن، وعندما خرج كان يحدثنا بأحداث حصلت ونحن نسيناها. عندما كان يأتي

يسلم عليه الشباب يسألونه: هل تذكرنا يا شيخ؟ فيقول: نعم! أنت فلان. يحدثنا

عن أحداث حدثت قبل ١٥ عاماً يسردها كأنها حصلت قبل دقائق.

هل تذكر يوم ذهبت للقائه بعد خروجه من السجن؟

- عندما فرَّج الله كربه جاء معه شاب من الضفة الغربية، وقال لي الشيخ:

خذ هذا الشاب واصطحبه في بيتك، وأخذته وتعرفت عليه؛ وإذا بهذا الشاب كان

يخدم الشيخ في سجنه، وهو من عائلة بلبول بالضفة الغربية.

قلت له: حدثنا عن الشيخ! قال لي: أنا خرجت بكرامة الشيخ، قلت له:

كيف؟ قال: عندما جاء الحراس ليأخذوا الشيخ ذهبت لأعد حلوى له، وعندما

رجعت لم أجده، ثم عاد، وقلت له: أين أنت يا شيخ؟ قال لي: أعدَّ نفسك،

واحزم أمتعتي وأمتعتك. قلت له: إلى أين يا شيخ؟ قال لي: إلى أمر يعلمه الله.

وقال: بدأت أجمع كتب الشيخ وأمتعته، وبعد فترة جاء الحراس ليأخذوا الشيخ،

فقال لهم: «هذا الشاب سيكون معي» . قالوا له: «لا، أنت وحدك» قال لهم:

«إذاً أرجعوني إلى داخل السجن، والله لا أخرج إلا ومعي هذا الشاب» (انظر

إلى الوفاء) فقال لي الشاب: «رفضوا بشدة، وقالوا له: هذا أمر خطير لا نقدر

عليه» .

قال لهم الشيخ: «أنا لا أفهم هذه الأمور؛ أنا لا أعرف إلا أنني سأخرج مع

هذا الشاب» . فأرجعوا الشيخ، ومكث في السجن، وهم يفاوضون القيادة السياسية

والعسكرية الصهيونية لمدة ساعتين إلى أن خرجت معه بفضل الله وكرمه.

وذكر لي الشاب قصة أخرى حدثت له مع الشيخ قال: «في مرة جئت للشيخ

وقلت له: يا شيخ! هل سمعت ماذا قالوا في التلفاز؟ يقولون إن أحد المسؤولين

العرب سوف يخرجك من السجن (هذا الكلام قبل أن يخرج الشيخ من السجن

بعامين أو أكثر) . ويضيف الشاب:» نظر إليَّ الشيخ بعينه نظرة، وقال:

«اللهم يا رب العالمين! لا تجعل للظالمين عليَّ سبيلاً، ولا تجعل فرجي إلا

بفضل منك ومنة منك وحدك» . فقلت له مازحاً: يا شيخ! إذا قدر الله لك

الحرية فلا تنسني، خذني بجناحك. وبالفعل كان للشيخ ما تمنى، ولم ينسني،

وخرجت معه.

* إسماعيل هنية: تعلمت من رفقتي للشيخ في سنواته الأخيرة أكثر مما تعلمت

في كل حياتي:

تحدث الأستاذ إسماعيل هنية القيادي في حركة المقاومة الإسلامية حماس

ومدير مكتب الشيخ أحمد ياسين عن أستاذه في سنواته الأخيرة التي رافقه فيها من

خلال عمله كمدير لمكتبه.

كيف كانت صفات الشيخ وأخلاقه؟

- لقد شرفني الله بأن ألازمه هذه الأعوام منذ أن خرج من السجن عام

١٩٩٧م، ووالله لقد تربيت في تلك السنوات وتعلمت أكثر مما تربيت وتعلمت طيلة

حياتي؛ فقد كانت أعواماً مختلفة.

لقد عشت مع الشيخ وأكرمني الله - وأنا من تلامذة تلامذة الشيخ - أن أكون

إلى جنبه مصاحباً ملازماً له، لا أقول ذلك مبالغاً وتقديسا؛ فنحن لا نعبد الرجال،

ولكننا ننزلهم منازلهم.

كان الشيخ كالأب الحنون لعائلته الصغرى وعائلته الكبرى (حماس، والشعب

الفلسطيني) ، وأذكر أنه حين يشتد عليه المرض نجده يقول: أريد أن ازور ابنتي

الفلانية، فيذهب ويُدخل عليهم السرور وهو الرجل المعذور الذي يُزار ولا يزور.

ولكنه - رحمه الله - كان أباً حنوناً يأخذ زوجته رغم كل ظروفها،

ويصطحب أولاده معه ويزور بناته ورحمه وأهله، ولا يتخلف عنهم في أمر من

الأمور.

ما أقام مناسبة في عمل إلا دعا أشقاءه الكبار ليستقبلوا معه المدعوين على

طعام الغداء، وكم كان رحيماً رؤوفاً بزوجه (أم محمد) فما أن يأتي الدكتور عبد

العزيز الرنتيسي أو أبو خالد الزهار، حتى يدعوهما إلى قراءة تقاريرها الطبية؛

لأنها كانت مريضة؛ وذلك كي يسعدها ويدخل السرور إلى قلبها، ويشعرها باهتمام

إخوانها بها.

اذكر يوماً جاءه شاب مسرع وقال له إن سيارة دهست حفيده، فلم يهتز الشيخ

ولم يسأل عن الذي دهسه، وإنما اطمأن على حفيده، ولم يسأل عن صاحب السيارة

أبداً ولم يطلب ملاحقته.

أما أبوته لعائلته الأوسع فحدث ولا حرج. حينما كان يأتي إخوانه من قادة

حماس والإخوان يتحدث إليهم قائلاً: أستاذنا يا حبيبنا.. فقد كان ينزل الناس

منازلهم.

بيته كان مفتوحاً لا يغلق أمام أي أحد من إخوانه أو أمام قضية من القضايا.

لم يعوّد أحد من مرافقيه أن يمنعوا أي أحد عنه حتى وهو نائم رغم أنه كان

قليل النوم.

فإذا أتاه أحد وهو نائم يقول: أجلسوني. فيتهيأ للقاء إخوانه، ولم يلق أحداً

عاري الرأس؛ فقد كان يحترم إخوانه ويسمع إليهم، ويحل قضاياهم، ويخفف

آلامهم.

ما هي وصية الشيخ لحركة حماس؟

- كانت وصية الشيخ أحمد ياسين: «عجلوا بإنجاز ورقة الحوار والتفاهم

مع الفصائل قبل أن تأخذكم التطورات» ، وقبل استشهاده بيوم وصلتنا منه رسالة

تقول: «أنجزوا الأوراق، وواصلوا الحوار مع الناس جميعاً» .

كيف كان الشيخ يعامل الناس والمواطنين العاديين؟

- كان - رحمه الله - لا يغلق بابه أمام محتاج أبداً، ولا يمنع عن الناس شيئاً،

وعندما كان يطلب بعض الإخوة منه التحقق من صدق هؤلاء الذين يأتون لطلب

المساعدة من الشيخ، كان يقول: «لا تسألوا! والله لو أن عندي جبلاً من المال

لما أبقيت منه شيئاً، والمال مال الله» .

وإذا صادف أن طلب أحد الإخوة من الشيخ مالاً، ولم يكن عنده وقتئذ،

ويخرج الطالب، حتى يأتي الشيخ المال، فيطلب من مرافقيه أن يبحثوا عن

الطالب ليعطيه.

كان شيخنا - رحمه الله - رحمة واسعة أباً رحيماً رؤوفاً. كان يمثل عنواناً

للمقاومين حتى تبقى المقاومة مشدودة إلى قضيتها.

ماذا عن روحه المرحة، وحبه للدعابة؟

- كان الشيخ - رحمه الله - مرحاً يحب أن يُدخل السرور على الناس،

وأذكر أن أحد الشباب طلب الدخول على الشيخ وقال له: يا سيدي أريد الزواج.

فقال له الشيخ: كم عمرك؟ قال له: ١٨ عاماً، فقال له مازحاً: «اسكت! نحن

عندنا قائمة طويلة وكلهم فوق الثلاثين روح، روح، ولكنه أعطاه» .

كيف تصف لنا جهوده نحو الوحدة الوطنية؟

- عند خروج الشيخ من السجن رفع شعار: [لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي

مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ العَالَمِينَ] (المائدة: ٢٨) . هذا

الشعار رفعه الشيخ، وصار عُرفاً لكل أبناء الشعب الفلسطيني.

وأذكر أن أمين سر حركة فتح في قطاع غزة أحمد حلِّس، كان في زيارة

للشيخ وحدثهم الشيخ يومها عن الشعب والقضية.

وبعد أن خرج يومها فإذا بحلِّس يقول لي: الشيخ أحمد ياسين ليس لكم وحدكم؛

الشيخ أحمد ياسين للشعب كله.