[إعصار كاترينا آية للمتجبرين]
ممدوح إسماعيل
كثيراً ما تهفو قلوب المؤمنين وتتشوق إلى آية من الله في ظل غيابات التيه المادي والظلم الذي يطغى على حال الناس في كل مكان؛ ودائماً ما تحتاج البشرية إلى التذكرة بقدرة الله القوي الجبار؛ فالتقدم العمراني والصناعي والتقني المتنوع، وابتكار أقوى الأسلحة القادرة على الفتك بالآخرين ولو على بُعد آلاف الأميال كلها قدرات وأسباب أفقدت الكثير من البشر والدول الإيمان بقدرة الله وقوته، وأنها قوة تفوق قوة الأرض ومن عليها، بل هي القوة القادرة وحدها، وأن ما على الأرض من قوة لا تكون إلا بإذن الله.
ولكن الله ـ تبارك وتعالى ـ عندما يبتلي المؤمنين في وقت من الزمان، ويعطي القوة لدولةٍ ما كافرة تستضعف المؤمنين يزداد طغيانها، وعندما ينتفخون غروراً وكِبْراً في الأرض يرسل الله الآيات للتذكرة والإعلان أن القوة لله جميعاً الواحد الأحد. وقد قص القرآن الكريم الكثير من القصص في هذا الشأن، وأيضاً بعض الكتب السماوية رغم ما ورد فيها من بعض التحريف عبر السنين والأيام، إلا أن سنن الله في الكون لا تتغير ولا تتبدل، وما زالت كتب التاريخ والآثار تحدث البشرية عما حدث للأمم الغابرة من آيات الله بعد علوها وطغيانها في الأرض.
ومنذ شهور اهتزت البشرية لِمَا حدث في جنوب آسيا من مآسٍ نتيجة (إعصار تسونامي) الذي شرد وقتل الآلاف ودمر بلداناً في شكل غير مسبوق. ولكن البشرية التعسة ببُعدها عن الإيمان بالله سرعان ما تناست تلك الآية وعادت إلى حياتها ولهوها وطغيانها، وفجأة وفي أواخر شهر أغسطس ٢٠٠٥م وفي عز ارتفاع الطغيان والكِبْر الأمريكي منتشياً بسيطرته على العالم؛ فأفريقيا المسكينة تتسول الرضا الأمريكي، وآسيا المثقلة بالمشكلات تتودد وتتقرب له بكل ما تستطيع درءاً لشره، حتى أوروبا القوية ضعفت أمام جبروته، والعالم كله حيران يدبِّر الخطط والأفكار كل لحظة كي يفلت من قبضة ذلك الطغيان، وكل ذلك يزيد الانتفاخ والكبر والغرور عند القوم؛ فهم يفعلون ما يشاؤون في العالم، ويستولون على مصالح وحقوق الشعوب من أجل مصلحتهم فقط، ويقولون: هذه سياسة. وقد استبدت هذه القوة الغاشمة واستكبرت، ومن مظاهر ذلك:
أولاً: حربها للدين الإسلامي وقولها بأنها حرب صليبية (وإن أظهروا التراجع عن ذلك) فحاربوا تعليم الدين الإسلامي في بلاد المسلمين، وتدخلوا في مناهجهم التعليمية وأفسدوها، وحاربوا تطبيق الشريعة في أي بلد من بلدان المسلمين، وروَّجوا للعلمانية، وعملوا على فرضها في بلداننا تحت زعم الإصلاح السياسي، ودنسوا المصحف الشريف، وحاربوا الجمعيات الخيرية التي تقدم المساعدات الإنسانية للمحتاجين.
ثانياً: حاربوا الله بالربا، فسيطروا على أموال العالم واقتصاده عن طريق بنوكهم الربوية، وأخضعوا حركة المال والتجارة في العالم كله لسيطرتهم الربوية، فأفقروا كثيراً من بلاد المسلمين، وجعلوها ذليلة تخضع لأوامرهم وطلباتهم.
ثالثاً: استحلوا دماء المسلمين في فلسطين، وأعانوا اليهود على قتل الفلسطينيين بكل سلاح متطور، وتدنيس المقدسات واستباحة الحرمات، واحتلوا أفغانستان والعراق ظلماً وعدواناً واستحلوا دماء المسلمين فيهما، ولم يفرقوا بين شيخ أو طفل أو امرأة، ودمروا البلاد واحتلوها، وتواطؤوا مع غيرهم على استباحة دماء المسلمين في الشيشان وكشمير وغيرهما من بلاد المسلمين، وفي العراق كان وما زال لجيش الاحتلال الأمريكي فظائع في حق المسلمين؛ ففي مدينة الفلوجة استباحوا كل شيء فلم تسلم المساجد من جبروتهم، بل قتلوا المسلمين الآمنين فيها من الشيوخ، ويوم الإثنين ٢٩/٨/٢٠٠٥ وفي أثناء هجوم القوات الأمريكية على مدينة القائم يُعلَن في القنوات الفضائية عن مقتل خمسة وأربعين من المدنيين العراقيين ومنهم نساء وأطفال، بل دُمِّر المركز الطبي بالمدينة، ثم يأتي بعده خبر يعلن عن إعصار يسمى (كاترينا) يجتاح الشواطئ الأمريكية. ثم تتوالى الأخبار عن الإعصار المدمر لمدينة (نيو أورليانز) وتحجب كل الأخبار، ويبقى فقط خبر (إعصار كاترينا) الذي اجتاح البلد ودمرها، وشرد وقتل الآلاف، ولم يوقفه لا الصواريخ العابرة للقارات ولا القنابل الذرية والهيدروجينية ولا قواعد الدفاع الجوية وبها أحدث أنواع الرادارات في العالم، ولا قوات المارينز مشاة البحرية الأكثر خبرة قتالية في العالم، ولم تحرك وكالة ناسا الفضائية ساكناً أمام الإعصار الرهيب وهي التي تتفاخر بإرسال الرحلات من رواد الفضاء إلى خارج نطاق الأرض، وهي الوكالة الجبارة التي تراقب كل سكان الأرض: كل هؤلاء وغيرهم من القوى العسكرية والتقنية الجبارة لم يستطيعوا وقف ذلك الإعصار المدمر.
وقد تمخض عن هذا الإعصار المدمر نتائج هي آيات للعالمين منها:
١ - أن الولايات المتحدة الأمريكية التي تدعي حماية الأمن العالمي بقواتها وتملك أقوى جيش في العالم تعلن عن انتشار السرقات والسلب والنهب وفقدان الأمن تماماً، والشرطة في المدينة المنكوبة لا تقاوم بل تترك الميدان لِلُّصوص بحجة البحث عن ذويهم، وعمدة المدينة يعلن عن أعمال النهب من المدمنين للمخدرات. ويلاحظ من مشاهد المدينة أن تلك السرقات والنهب لم تحدث في بلاد المسلمين التي دمرها إعصار تسونامي. ومن آيات الله أن الأمريكان دبروا مثل هذه السرقات والسلب والنهب عند احتلالهم للعراق وسقوط بغداد وأظهروها للعالم كله على أن أهل العراق لصوص، واليوم أهل ولايات أمريكية كلهم لصوص. سبحان الله! ولكن بدون تدبير من أحد إلا إرادة الله أن يفضحهم ويفضح حضارتهم المادية.
٢ - معظم أهل المدن المنكوبة من السود حيث إن ٦٧% من سكانها من أصل إفريقي، ويتهم عمدة المدينة الإدارة الأمريكية الفيدرالية بالتأخر عن المساعدة العسكرية والاقتصادية لينفضح شكل من أشكال العنصرية الواضحة في المجتمع الأمريكي تهدد بانقسامه. وتاريخ الأنجلو ساكسون العنصري معروف بفظائعه مع السود وهم الذين يحكمون الولايات المتحدة الأمريكية الآن، وقد تجمع النواب السود في الكونجرس الأمريكي يعلنون غضبهم واحتجاجهم على تلك العنصرية.
٣ - مراكز الأبحاث مثل شركة (ريسك ما نجمنت سوليوشتز) المتخصصة في إدارة الكوارث تعلن أن الخسائر تصل إلى أكثر من مائة مليار دولار. والعجيب أن مجلس الشيوخ الأمريكي يقرر صرف إعانة تبلغ عشرة مليارات ونصف فقط للمتضررين، ثم يُتبعها بخمسين ملياراً.
٤ - بالنسبة لخسائر البترول الذي قيل إنه من أسباب الحرب الأمريكية على المسلمين؛ فقد انخفض معدل التشغيل في ١٢ مصفاة تكرير أمريكية، وانخفض معدل تكرير البترول بنسبة ١٧% وأصيبت أربع منصات بترول في خليج المكسيك بأضرار بالغة غير الانفجارات في مصانع الكيماويات في المدينة.
٥ - يقدر عدد القتلى بعشرة آلاف والعدد قابل للزيادة؛ حيث إن معرفة عدد القتلى يحتاج إلى شهرين كما ذكرت التقارير في الولايات المتضررة؛ ذلك غير المشردين الذين لا حصر لهم، منهم حوالي ٣٠٠ ألف طفل مشرد، ولم يفعل هذا بالمدينة جيش دولة معادية ولا تنظيم القاعدة ولا الإرهاب الذي تدعي الإدارة الأمريكية محاربته ولا أي إنسان مطلقاً، ولا غضب الطبيعة كما يقول بعض الجهلة والحمقى.
٦ - تعلن الولايات المتحدة الأمريكية عن فتح باب التبرعات بكافة أشكالها من جميع الدول والمنظمات في العالم وهي الدولة الغنية؛ ولكن سبحان المعز المذل! وكأنه تفسير للآية: {ذُقْ إنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: ٤٩] . ومن المحزن أن تسارع أكثر من ثمانين دولة ومنظمة إلى التبرع في الوقت الذي يتضرر فية ثلاثة ملايين مسلم في النيجر من المجاعة والأمراض المهلكة ولا يجدون غير مساعدات الأمم المتحدة التي تاتيهم على استحياء ليُفضَح ويسقط زيف قشرة الإنسانية التي تغطي شكل المساعدات للأمريكان الأغنياء (أصحاب الفيزا كارت) وبوالص التأمين؛ بينما أهل النيجر لا يجدون كسرة الخبز والدواء لأطفالهم.
٧ - الرأي العام في أمريكا ينقلب على حكومته ويتهمها بالتأخر المتعمد عن تخفيف الأضرار وعلى رأسهم كولن باول وزير الخارجية الأمريكي السابق؛ ورفعاً للحرج أقالت الإدارة الأمريكية رئيس وكالة الكوارث دون غيره لتحمله المسؤولية وحده. وقد انتشر بين الأمريكان أن ما حدث هو بسبب حرب العراق وانشغالها بها وتوجيه كل الجهد لها، وانتشر هذا الرأي في كثير من البلاد الغربية وعند كثير من المحللين في الصحافة والإعلام العالمي.
٨ ـ وأخيراً يبقى أن يتوقف كل مؤمن ومسلم مع تلك الآية العظيمة من الله في ظل الضعف الشديد للمسلمين والطغيان الشديد للأمريكان: يرسل الملك الواحد العدل آياته إنه هو الله رب السموات والأرض ومن فيهن، خالق الطبيعة وربها، ومصرف أمرها، خالق الماء والهواء وبأمره لهما دمرا كل شيء بأمر ربهم، إنها سنة الله في الحياة لكل أمة متكبرة في الأرض، وراجعوا التاريخ البشري وماذا فعل الله بالأمم التي طغت في الأرض؛ إنها قدرة الله القادر على كل شيء، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلاَّ هُوَ} [المدثر: ٣١] وإنها أيضاً إجابة لدعوات المظلومين في الأرض التي قال الله لها: «وعزتي وجلالي لأنصرنَّك ولو بعد حين» ، وتسلية وبرهان للمؤمنين ليزدادوا إيماناً وتثبيتاً لقلوبهم، ودفعهم إلى العمل الصالح لبناء الأمة الإسلامية القوية لإصلاح الأرض ودحر الطغيان مهما كانت العقبات. وأخيراً: إن (إعصار كاترينا) ربما يسبب مشكلات داخلية للإدارة الأمريكية لا تنتهي سريعاً {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: ٢١] .
(*) محام وكاتب مصري.