للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الإسلام لعصرنا

ليسوا عقلانيين.. وإنما هم أهل أهواء

أ. د. جعفر شيخ إدريس

رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة

شاع في عصرنا اصطلاح (العقلانيين) وصفاً لأصحاب المناهج المنحرفة

عن المنهج الصحيح لفهم الدين وتفسير نصوصه واستخلاص النتائج منها. وهذا

مصطلح غير سديد.

أولاً: لأن فيه اعترافاً ضمنياً بأن العقل يمكن أن يكون مخالفاً للشرع؛ هذا

مع أن المستعملين لهذا الاصطلاح يؤمنون بموافقة صريح المعقول لصحيح المنقول. فلماذا إذن نستعمل اصطلاحاً يتضمن تقريراً لأمر ننكره؟

ثانياً: لأننا لا نجد في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن

إنساناً ضل بسبب عقله، وإنما نجد أن الضالين هم الذين لا يعقلون ولا يتدبرون

ولا يتفكرون ولا ينظرون، وأن المهتدين هم أصحاب العقول وأولو الألباب: [أولئك

الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب] [الزمر: ١٨] .

ثالثاً: لأن هنالك فرقاً بين العقل والهوى؛ فالإنسان يضل بهواه لا بعقله،

ولذلك كان السلف يسمون المعتزلة وأمثالهم أهل الأهواء لا العقلانيين كما يسميهم

الآن بعض المعاصرين تقليداً لبعض المستشرقين.

رابعاً: ولأن هنالك فرقاً بين الرأي والعقل، فما كل رأي هو على مقتضى

العقل حتى لو كان صاحبه مجرداً عن الهوى، وإنما الرأي رأيان: رأي صائب

فهو موافق للعقل ضرورة، ورأي غالط فلا يمكن أن يكون من مستلزمات العقل.

خامساً: لأن وصف أمثال هؤلاء بالعقلانيين فيه فتنة لهم؛ فقد يزيد أحدهم

غروراً فيذهب يقول متباهياً: أجل نحن العقلانيون، نحن المفكرون، وما أنتم إلا

حشوية جامدون مرددون لما لا تفقهون.

سادساً: لأن أئمة أهل السنة من أمثال أبي سعيد الدارمي وابن تيمية لم يكتفوا

بالكلام المجمل في أن المذهب الحق هو الموافق للعقل؛ بل بينوا ذلك بياناً مفصلاً

شافياً، كما ساقوا البراهين العقلية الدالة على مخالفة أهل الأهواء لمقتضيات العقل،

ودللوا على أن ما ادعوا بأنه عقليات إنما هو جهليات، ما أنزل الله بها من سلطان

عقلي ولا شرعي.

سابعاً: لأن كل أمر من أمور الدين يمكن أن يُستدل عليه بدليل عقلي!

أكرر: (كل أمر) سواء كان في الاعتقاد أو في العبادات أو في المعاملات،

وسواء كان في أصول الدين أو في الفروع الفقهية. وعليه فإن العقلانيين حقاً هم

أصحاب المنهج الحق، مذهب أهل السنة والجماعة.

إن الاقتناع بالدليل العقلي يعتمد على أمرين: أولهما: أن يكون المخاطَب

عاقلاً، فإذا لم يكن كذلك فلا سبيل إلى مجادلته أو إقناعه، وثانيهما: أن تكون

مقدماته صحيحة مؤدية إلى النتيجة المبتغاة. لكن المقدمات منها ما هو بيِّن بنفسه

يدرك العاقل صحته ببداهة عقله، ومنها ما يعتمد هو نفسه على دليل آخر. وهذا

هو الذي يحدد طول دليلك أو قصره مع من تخاطب. قد يسلِّم من تخاطب بأول

مقدمة من دليلك فيكون الدليل قصيراً، وقد يحتاج إلى أن تدلل له على صحة بعض

مقدماتك، إذا كان لا يسلِّم بها فيكون الدليل طويلاً. فمن الأدلة القرآنية القصيرة

جداً دليل على وجود الخالق يقوم على مقدمتين بدهيتين لدى كل عاقل، ولا يماري

فيهما إلا مكابر. وهما: أنه لا شيء يأتي من العدم المحض، ولا شيء يخلق نفسه: [أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون] [الطور: ٣٥] ؛ لكن هب إنساناً زعم أن البعث أمر مستحيل كما كان بعض منكريه من العرب يدعون. ستقول له ما قرر القرآن: إن الذي خلقه أول مرة قادر على إعادته؛ لكن هذا الدليل يعتمد على تسليمه بأن الله - تعالى - هو الذي خلقه. فإذا أنكر ذلك احتجت لأن تبرهن له على وجود الخالق. قد تقول: هذه أمثلة بدهية واضحة؛ لكن ما كل مسائل الدين كذلك؛ بل منها ما نسلم به مجرد تسليم!

وأقول: لكن التسليم نفسه هو مقتضى العقل؛ فكيف يكون ذلك؟

وعلى أي شيء تبني تسليمك بأن المغرب ثلاث ركعات مثلاً؟ إنك تبنيه على

أن هذا ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم. لكنك لو شئت لمددت حجتك فقلت: والرسول صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى؛ فكل ما أمر به فهو من أمر

الله، والله - تعالى - لا يقرر إلا حقاً، ولا يأمر إلا بخير: [وتمت كلمت ربك

صدقا وعدلا] [الأنعام: ١١٥] . إن كل عاقل يسمع ما تقول يدرك أن مقدماتك التي ذكرت تؤدي إلى وجوب التسليم بأن المغرب ثلاث ركعات. أقول: إذا كان عاقلاً منصفاً فسيرى هذا حتى لو لم يكن يؤمن بما تؤمن به من مقدمات. وأما إذا أراد أن يسلِّم بما سلمت به فسيسألك الدليلَ على صحة بعض مقدماتك. كأن يقول لك: ما الدليل على أن الرسول قال ما نسبتَ إليه؟ أو: ما الدليل على أن محمداً رسول الله؟ وهكذا وكل هذه أسئلة عليها أدلة عقلية إن علمتها ذكرتها لصاحبك، وإن لم تعلمها أحلته على من هو خبير بها.

قد تقول: لكن هب أن صاحبي قال: إنه لا يريد دليلاً يقوم على مثل هذه

المقدمات الدينية؛ بل يريد دليلاً مباشراً!

فأقول: إن صاحبك لا يكون إذن عاقلاً. إن النتائج إنما تبنى على المقدمات

التي تناسبها، والتي من شأنها أن تؤدي إليها، فإذا كان مسلِّماً بها سلَّم بالنتيجة،

وإذا لم يكن مسلِّماً بها كان من حقه أن يطلب الدليل على صحتها. ليس له إلا هذا.

قل لصاحبك هذا: ما الدليل على أن ٤ × ٥ =٢٠؟ فإذا بدأ يقول لك إن ٤

× ٥ معناها ٤ + ٤ + ٤ + ٤ + ٤ فقل له: أنا لا أريد دليلاً مبنياً على الجمع، بل

دليلاً مباشراً. سيقول لك: فكرة الضرب مبنية على فكرة الجمع، وإذا كنت لا

تعرف الأخيرة ولا تسلم بها فلا يمكن أن أعطيك دليلاً على الأولى. وكذلك الأمر

بالنسبة لعدد ركعات المغرب؛ فإن الدليل عليها مبني على التسليم بأن محمداً رسول

الله صلى الله عليه وسلم، وعلى الإيمان بالله.

ذلك هو موقفنا من العقل. فما موقف أصحاب الأهواء؟

لقد أجاب أئمة أهل السنة عن هذا السؤال بكثير من التفصيل فيما يتعلق

بأصحاب الأهواء في عصرهم، وبقي علينا نحن أن نفعل الشيء نفسه بالنسبة لمن

في عصرنا، ولا نكتفي بوصفهم بالعقلانيين للأسباب التي ذكرتها. وقد أبلى بعض

مفكرينا المعاصرين في هذا بلاء حسناً، وكنتُ قد رددتُ في مقال سابق في هذه

الزاوية على مفهوم بعضهم الغالط لقاعدة صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان، وربما

تعرضتُ في مقالات لاحقة إلى بعض دعاواهم ومبادئهم الأخرى إن شاء الله تعالى

وإذا كان لبعض إخواننا القراء من اقتراحات في هذا المجال فأرجو أن لا يبخلوا

علينا بها، ولهم منا الشكر، ومن الله الأجر إن شاء الله.