للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

في دائرة الضوء

قراءة نقدية لمفهوم

(تصادم الحضارات)

د.أحمد محمد العيسى

مقدمة:

إن الحديث عن العلاقة بين العالم الإسلامي والغرب، يعتبر من أكثر

المواضيع التي احتلت حيزاً واسعاً في أدبيات الفكر الإسلامي الحديث، وذلك بسبب

أن تلك العلاقة قد أخذت بعداً جديداً منذ أن استيقظت بلاد المسلمين على صيحات

جنود نابليون الذين عادوا إلى الشرق عام ١٧٩٨م، بعد انقضاء فترة ليست طويلة

حضارياً على نهاية الحملات الصليبية.

وقد أخذت العلاقة بعد تلك الحملة تتعقد كثيراً؛ لأن أهداف الحملة وما جاء

بعدها حتى انتهت بالاستعمار الغربي لبلاد المسلمين قد تغيرت كثيراً عن أهداف

الحملات الصليبية التي كانت تهدف إلى «استعادة الأراضي المقدسة» من

المسلمين، لكن أهداف حملة نابليون، ثم الاستعمار من بعده نقل الصراع من

صراع عسكري إلى صراع فكري ثقافي عسكري اقتصادي..، ولم تكتف تلك

الحملات بالسيطرة المطلقة على مقدرات الشعوب الإسلامية، بل اهتمت بزعزعة

عقائد المسلمين، وتبديل أخلاقهم وربط مصيرهم بالفكر الغربي، الذي بدأ يقوده في

تلك الفترة مجموعة من المستغربين أمثال: رفاعة رافع الطهطاوي، ثم سلامة

موسى، وطه حسين، ولطفي السيد، وأدباء المهجر، وغيرهم؛ لهذا فإن هناك

تفسيران لتأثير حملة نابليون على «الشرق الإسلامي» .

الأول: أن هذه الحملة هي بداية ما سمي التنوير، والعلم، والثقافة واللحاق

بركب التقدم والحضارة، وهذا هو التفسير العلماني للعلاقة الحضارية بين العالم

الإسلامي والغربي.

الثاني: هو أنها بداية حركة التغريب، والاستلاب الحضاري، وضياع هوية

الأمة، وهذا هو التفسير الإسلامي لتلك الحملة.

ونتيجة لهذين التفسيرين انتقل الصراع الحضاري جزئياً إلى داخل العالم

الإسلامي، بين ممثلين عن الغرب يتحدثون من منطلقاته وأهدافه، وبين المؤمنين

بالتميز الحضاري والعودة إلى جذور الأمة وأصولها لبناء الأسس العقائدية

والأخلاقية والفكرية، ثم الانطلاق للتنافس عالمياً مع حضارات سادت قيمها ...

ومنظومتها الحضارية، حتى كادت أن تزيل الحضارات الأخرى من الوجود.

وبعد صراعات عديدة في الداخل والخارج، أخذت أشكالاً متعددة سقطت

الأيديلوجية الشيوعية، وظن الكثيرون أن آخر القلاع التي تقف في مواجهة

الحضارة الغربية بكل قيمها وأنظمتها قد سقطت، وتوقعوا أن القيم الغربية لن تجد

عوائق جديدة تحول دون انتشارها ودون تداعي الشعوب والأمم عليها، فبعيد

الأحداث «الدرامية» التي كانت تسجل سقوط الشيوعية ظهرت كتابات وطروحات

عديدة مثل «طروحات فوكاياما» ، تؤكد على أن الحضارة الغربية سوف تكتسح

العالم لتسجل في زعمه «نهاية التاريخ» .

ولكن هذا التفاؤل، وهذه الأفكار اتضحت سذاجتها بعد مرور وقت قصير،

حين تبين أن هناك عوائق وعوامل أكثر تجذراً وثباتاً من الأفكار الأيديلوجية أو

الصراعات الاقتصادية والسياسية، بل لقد اتضح أن نهاية الحرب الباردة قد أبرزت

هذه العوامل وساعدتها على التجذر والرسوخ، بعد أن سقط وهم القوتين العظميين،

ووهم الجبهة الشرقية والجبهة الغربية، ووهم عدم الانحياز، وهذه العوامل أو

العوائق التي نشير إليها، هي خصائص الحضارات، ومقوماتها الداخلية، ومن

أهمها: الدين، واللغة، والتاريخ وهذا يجعل من الصعوبة القضاء عليها، بل إنها

تقوى عندما تشعر الشعوب أن حضارتها التي تنتسب إليها تتعرض لخطر خارجي

كبير.

إذن: تهاوت فكرة (فوكاياما نهاية التاريخ) ، وبرزت فكرة (صامويل هنجتون

تصادم الحضارات) ، التي تقول: إن الصراع في المستقبل، سيكون بين

الحضارات الرئيسة في العالم المعاصر، و «صامويل هنجتون» هو أستاذ علم

الحكومة ومدير معهد (أولين) للدراسات الاستراتيجية بجامعة «هارفرد» في

الولايات المتحدة، وقد نشرت أفكاره حول (تصادم الحضارات) في العديد من

الصحف والمجلات الغربية، وكان مقاله الرئيس قد نشر في مجلة «الشؤون»

المتخصصة في الشؤون السياسية والدراسات الاستراتيجية في عددها (صيف

١٩٩٣) ، وهذا المقال الذي سيكون (بإذن الله) مجال قراءتنا هذه، هو نتاج لدراسة

خاصة بالمعهد الذي يديره (هنجتون) حول «الظروف الأمنية المتغيرة والمصالح

القومية الأمريكية» .

أهمية الدراسة:

هناك بعض العوامل التي تعطي هذه الدراسة أهمية كبيرة في مجال العلاقات

الدولية ومستقبل العالم في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، ومنها:

١- يعتبر كاتب المقال (أو الدراسة بتعبير أصح) ذو مكانة علمية مرموقة في

الدراسات الاستراتيجية؛ إذ أنه يرأس معهداً مهماً وفي جامعة مشهورة عالمياً، فهو

إذن ليس صحفياً يهتم برصد الأخبار اليومية والمناسبات الإعلامية، كما أن الدراسة

في جوهرها نتاج مشروع عن التغيرات الأمنية ومصالح الولايات المتحدة، ومعظم

هذه الدراسات تدعمها الحكومة الأمريكية ومراكز الدراسات الاستراتيجية، وهدفها

تقديم مقترحات وتصورات حول القضايا الشائكة للحكومة الأمريكية، يتم تنفيذها

كسياسة مستقبلية للولايات المتحدة، ولعل من أهم ما جاء في هذه الدراسة،

التوصيات التي ذكرها الباحث في نهاية بحثه لأصحاب القرار في السياسة الغربية

والتي سنشير إليها في مكان آخر من هذا المقال.

٢- إن الحديث عن الصراع بين الحضارات ليس جديداً في أدبيات الأمم

وخاصة الأمة الإسلامية، فكثيراً ما طرق هذا الموضوع بعض المفكرين الإسلاميين

أمثال سيد قطب رحمه الله ومحمد قطب، وأبو الأعلى المودودي، ومالك بن نبي،

وأبو الحسن الندوي وغيرهم من المفكرين الذين كتبوا عن الصراع الحضاري بين

الإسلام والغرب، كما أن كثيراً من المفكرين الغربيين كتبوا حول هذا الموضوع

مثل أرنولدتوينبي، وول ديورانت وغيرهم كثيرون، وقد أشار الكاتب نفسه إلى

هذه الحقيقة عندما قال: «وعند كلا الجانبين: فإن التفاعل بين الإسلام والغرب

يُرى على أنه صدام بين الحضارات» ، إذن الفكرة ليست جديدة، ولكن الذي

يعطيها أهمية خاصة هو التوقيت الزمني لطرحها بهذا التفصيل والزخم الإعلامي

الذي روج لها.

إن الفترة التي أعقبت سقوط الشيوعية شهدت أحداثاً عالمية مهمة مثل (حرب

الخليج الحرب في البوسنة والهرسك الحروب التي نشبت داخل جمهوريات الاتحاد

السوفيتي السابق التكتلات الاقتصادية الجديدة) ، وهذه الأحداث أكدت أن أسباب

الخلافات هي أكثر عمقاً من المصالح السياسية أو الاقتصادية التي كان يُعتقد أنها

السبب في نشر تلك الأحداث، كما أكدت للمفكرين الساسيين الغربيين أن إقامة

(النظام العالمي الجديد) على القيم والمبادئ الغربية، سوف يقابل برفض كبير من

الشعوب الأخرى التي تعتز وتحافظ على مقومات حضارتها الخاصة، وهذا قد سبب

صدمة لدى هؤلاء المفكرين، جعلهم يعيدون طرح مسألة (تصادم الحضارات)

كحقيقة سوف تبرز كثيراً في المستقبل القريب.

٣- إنه لأول مرة في ما أظن يقوم مفكر سياسي غربي بتوضيح جملة من

الحقائق بوضوح تام وبعبارات سهلة، والتي طالما غُيبت في دهاليز العبارات

السياسية الفضفاضة والمقالات الأيديلوجية الموجهة لخدمة مصالح الطبقات ذات

النفوذ في السياسة الغربية، ومن هذه الحقائق التي وردت في دراسة (هنجتون) ما

يلي:

أ - إن الدين هو أهم العوامل التي تميز بين الحضارات، وهو العامل الأهم

في صراعات المستقبل.

ب - إن القرارات التي تصدر عن مجلس الأمن وعن صندوق النقد الدولي،

إنما تعكس مصالح الغرب، وهي تخرج إلى العالم على أساس أنها تعبر عن

رغبات «المجتمع الدولي» ، كما أن مصطلح «المجتمع الدولي» هوالوجه

الآخر لمصطلح «العالم الحر» ويستخدم لإعطاء الشرعية العالمية للقرارات التي

تعكس رغبات ومصالح الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى.

ج - مصطلح «الحضارات العالمية» هو فكرة غربية بحتة، هدفها إبراز

أن القيم الغربية هي قيم عالمية يجب على كل الشعوب الأخذ بها والحقيقة أن أحد

الباحثين قد توصل بعد مراجعة أكثر من ١٠٠ بحث مقارن للقيم في العالم، إلى

نتيجة أن «القيم التي تعتبر أكثر أهمية في الغرب هي أقل أهمية في العالم أجمع» .

د - الحكومات الديمقراطية الحديثة كان منشؤها في الغرب، وأنها إذا وجدت

في غير المجتمعات الغربية فهي قد نتجت عن الاستعمار والفرض بالقوة من جانب

الغرب.

هـ - الهدف الأساسي من عملية التحكم في التسلح في فترة ما بعد الحرب

الباردة: هو منع الدول غير الغربية من تطوير القدرات العسكرية التي قد تهدد

مصالح الغرب.

بعض الأفكار المهمة في الدراسة:

لقد وردت في دراسة (صامويل هنجتون) العديد من الأفكار الهامة التي يمكن

ترتيبها في عدة نقاط حتى يتمكن القارئ من معرفة أهم طروحات الكاتب في مجال

(تصادم الحضارات) :

١- يعبر الكاتب عن الفكرة الرئيسية من الدراسة في المقدمة: وهي أن

المصدر الأساسي للصراع في العالم الجديد لن يكون أيديلوجياً أو اقتصادياً وإنما

صراعاً حضارياً، «سوف تحدث الصراعات الرئيسة في السياسة العالمية بين

المجموعات والدول من حضارات مختلفة، وإن الخطوط المتصدعة بين الحضارات

سوف تكون خطوط المعارك في المستقبل ... » .

٢- الهوية الحضارية سوف تحظى بأهمية متزايدة في المستقبل، وسوف

يتشكل العالم عن طريق التفاعل بين سبع أو ثمان حضارات عالمية هي: الغربية،

الكنفوشوسية، اليابانية، الإسلامية، الهندية، الأرثوذكسية السلافية، الأمريكية

الجنوبية، وربما الإفريقية، وإن أهم صراعات المستقبل سوف تحدث على طول

الخطوط التي تفصل بين هذه الحضارات للأسباب التالية:

الأول: أن الاختلافات بين الحضارات هي اختلافات جوهرية، وذلك

لاختلاف التاريخ، واللغة، والثقافة، والتراث، وأهم من ذلك لاختلاف الدين،

وأن الناس من مختلف الحضارات، يملكون نظرات مختلفة للعلاقة بين الإنسان

والله وبين الفرد والجماعة، وبين المواطن والدولة، وبين الأطفال والآباء، وبين

الزوج والزوجة، ويملكون نظرات مختلفة حول الحقوق والواجبات، والحرية

والمسئولية والمساواة والطبقية وهذه الاختلافات هي نتاج قرون من الزمن وهي

اختلافات أصيلة إلى حد بعيد أكثر من الاختلافات بين الإيديلوجيات والأنظمة

السياسية.

الثاني: أصبح العالم الآن مكاناً صغيراً، والتفاعلات بين الناس من مختلف

الحضارات تزداد يوماً بعد يوم، وهذه التفاعلات تكثف الوعي الحضاري والمعرفة

بالفروق بين الحضارات، والأمور المشتركة داخل كل حضارة، وقد ولدت الهجرة

من شمال أفريقيا إلى فرنسا: الشعور بالعداء لدى الفرنسيين، وفي نفس الوقت

زادت من قبول الهجرة إلى فرنسا من البولنديين الكاثوليك، وكان رد الفعل لدى

الأمريكيين أكثر سلبية للاستثمار الياباني، مقارنة بالاستثمار الكبير من أوربا وكندا.

الثالث: لقد أثر التطور الاقتصادي، والتغيير الاجتماعي، في كثير من

الدول إلى إضعاف أن تكون الدولة الواحدة هي مصدر الهوية؛ ولهذا تحركت كثير

من الديانات العالمية لسد الفراغ، وجاء هذا في شكل حركات تُدعى الآن بـ

«الأصولية» ، ويشكل الشباب المتعلم في الجامعات والفنيين من الطبقات الوسطى والمهنيين ورجال الأعمال الأشخاص النشطين في الحركات الأصولية، وكما قال (جورج ويجل) : «إن رفض علمانية العالم هي واحدة من أكبر الحقائق الاجتماعية التي تسيطر على الحياة في السنوات العشرين الأخيرة من القرن العشرين» .

الرابع: إن نماء الوعي الحضاري قد ازداد بسبب الدور المزدوج للغرب فمن

جهة يعتبر الغرب حالياً في القمة من ناحية القوة العسكرية، ومن جهة أخرى فإن

ظاهرة العودة إلى الجذور تحدث بشكل أكبر في المجتمعات غير الغربية، «إن

غرباً في القمة من ناحية القوة يواجه عالماً غير غربي يملك الرغبة والإرادة

والإمكانات لتشكيل العالم بطرق غير غربية..» ، لقد كانت النخب في المجتمعات

غير الغربية تتكون من الأشخاص الذين تعلموا في جامعات الغرب، وتشربوا

المواقف والقيم الغربية، وفي نفس الوقت كان العامة يحتفظون بعمق الثقافات

المحلية أما الآن فقد انعكست العلاقة حيث أصبحت النخب تتشكل من الأشخاص

الذين رفضوا التأثر بالثقافة الغربية، وفي الوقت نفسه بدأت الثقافة الغربية وخاصة

الأمريكية تصبح مشهورة على مستوى الجمهور العريض في تلك الشعوب.

الخامس: إن خصائص الحضارات واختلافاتها هي أقل تحولاً وتقلباً كما أنها

لا تقبل الحلول الوسط والتسويات بسهولة، بعكس خصائص الاقتصاد والسياسة:

فمثلاً في الاتحاد السوفيتي السابق يمكن أن يصبح الشيوعي «ديمقراطياً» ،

والغني فقيراً، والفقير غنياً، ولكن الروسي لا يمكن أن يصبح أستونياً، والأذاري

لا يمكن أن يصبح أرمينياً، ففي الصراعات الأيديلوجية والطبقية يكون السؤال

الرئيس هو: (مع أي الجهات تقف؟) ، أما في الصراعات الحضارية فيصبح

السؤال هو: (من أنت؟) . «وكما نعلم من البوسنة إلى القوقاز، إلى السودان:

فإن الإجابة الخاطئة على ذلك السؤال قد تعني رصاصة في الرأس» .

السادس: إن «أقلمة» الاقتصاد تزداد يوماً بعد يوم، فالكتل الاقتصادية

الإقليمية سوف تزداد على ما يبدو في المستقبل، وإن «أقلمة» الاقتصاد سوف

تنجح فقط عندما تمتد جذووها في حضارة واحدة، إن المجموعة الأوربية تكون

سعيدة وهي تعمل ضمن قاعدة ثقافية متجانسة من ناحية اللغة والدين النصراني

الغربي، وإن نجاح منطقة التجارة الحرة في أمريكا الشمالية سوف تعتمد على

التقارب بين الثقافة الأمريكية الكندية وبين الثقافة المكسيكية، أما اليابان فإنها تواجه

صعوبات في إيجاد كيان اقتصادي في شرق آسيا لأن اليابان تتكون من وحدة

حضارية فريدة.

٣- الصراعات العسكرية التي استمرت عدة قرون بين الحضارة الغربية

والحضارة الإسلامية سوف تستمر في المستقبل، وربما تكون أكثر قساوة وإن

العلاقات بين الحضارتين سوف تتعقد أكثر بسبب التركيبة السكانية. إن الازدياد

الهائل في نمو السكان في الدول العربية وخاصة في الشمال الأفريقي، أدى إلى

زيادة الهجرة إلى أوربا الغربية، مما أدى إلى زيادة العنف والعنصرية في إيطاليا

وفرنسا وألمانيا ضد المهاجرين العرب والأتراك، وتواجه حدود الإسلام الأخرى

حروباً طاحنة: ففي الجنوب هناك الحروب بين المسلمين والنصارى في جنوب

السودان والقرن الإفريقي ونيجيريا، وفي الشمال هناك الصراع بين المسلمين

والارثوذكس ويتمثل في الحرب بين الصرب والمسلمين، والعنف المتزايد بين

أرمينيا وأذربيجان، والحروب الأخرى التي تهدد مصالح روسيا في القوقاز وآسيا

الوسطى، وفي الشرق هناك النزاع بين باكستان والهند وبين المسلمين والبوذيين

في بورما، وبين المسلمين والكاثوليك في الفلبين، «إن الإسلام يملك حدوداً

دموية..» .

٤- سوف يحصل في المستقبل نوع من التضامن داخل الحضارات وذلك

حين تدخل بعض الجماعات أو الدول في حروب مع جماعات من حضارات مختلفة، مما يعني طلب الدعم من الأعضاء الآخرين في الحضارة، ولقد حل التشابه

الحضاري محل التوازن التقليدي والتحالف بين الأيديلوجيات السياسية كقاعدة

أساسية للتعاون والتحالف، ومن الأمثلة على ذلك: الحروب في البلقان، حيث

قدمت المجموعة الأوربية مساعدات عاجلة واعتراف بكرواتيا وسلوفينيا الكاثوليكية، كما أن روسيا تقوم بدعم الأرثوذكس الصرب، ويحاول المسلمون الحصول على

الدعم من الدول الإسلامية، ومن الأمثلة أيضاً ما يحدث من حروب كثيرة بين

المسلمين والنصارى في أماكن مختلفة من الاتحاد السوفيتي السابق، وبعض

الحروب بين النصارى الغربيين وبين النصارى الأرثوذكس في جمهوريات البلطيق، ... إلا أننا لا نجد أن هناك صراعات بين الروس والأوكرانيين لأنهم ينتمون إلى

حضارة واحدة.

٥- يعيش الغرب حالياً في القمة من ناحية القوة العسكرية والاقتصادية مقارنة

بالحضارات الأخرى، والغرب يسيطر على المؤسسات السياسية والأمنية الدولية،

ومع اليابان بالنسبة للمؤسسات الاقتصادية الدولية ولهذا فإن الكفاح من أجل

الحصول على مصادر القوة العسكرية والاقتصادية والمؤسساتية هو واحد من

مصادر الصراع بين الغرب وبقية الحضارات كما أن الاختلافات في الثقافة وفي

القيم الأساسية تكون المصدر الثاني للصراع، ولذلك فإن محاولة الغرب لاستخدام

قوته للعمل الدعائي للأفكار الغربية سوف تقابل برد فعل ضد (إمبريالية حقوق

الإنسان) ، وسيزيد هذا العمل من التثبت بالقيم المحلية، ويمكن ملاحظة ذلك في

الدعم الذي تتلقاه الحركات (الأصولية الدينية) من الأجيال الشابة في الثقافات غير

الغربية.

٦- سوف تظهر في المستقبل بعض الدول التي لديها مقدارٌ من التجانس

الثقافي، ولكنها منقسمة حول ما إذا كان مجتمعها ينتسب إلى هذه الحضارة أم تلك،

ويمكن تسمية هذه الدول بـ «الدول الممزقة» ، والتي يتمنى زعماؤها الانضمام

إلى الدول الغربية، ولكن التاريخ والثقافة والتراث في تلك الدول ليس غربياً،

وأوضح الأمثلة على ذلك تركيا التي حاول (أتاتورك) أن يجعلها دولة غربية علمانية

حديثة، وقد انضمت إلى دول حلف (الناتو) وتقدمت إلى عضوية المجموعة

الأوربية ولكن الشعوب الأوربية رفضت أن تقبلها دولة غربية، وبالتالي رُفض

انضمامها للمجموعة الأوربية.

٧- إن العقبات أمام الدول غير الغربية للالتحاق بالغرب تختلف بدرجة كبيرة؛ إذ أنها أقل بالنسبة لدول شرق أوربا وأمريكا اللاتينية، وهي عقبات كبيرة للدول

الأرثوذكسية في الاتحاد السوفيتي السابق، وهي عقبات أعظم أمام المجتمعات

الإسلامية، والكنفوشوسية، والهندية والبوذية، وتلك المجتمعات تحاول تطوير

قدراتها العسكرية والسياسية والاقتصادية بعيداً عن النموذج الغربي، ولكن عن

طريق التطوير الداخلي، والتعاون مع مجتمعات أخرى غير غربية، وإن أقرب

شكل لهذا التعاون هو الاتصال (الإسلامي/ الكنفوشيوسي) ، الذي بدأ يتشكل لتحدي

القوة والقيم والمصالح الغربية.

وبدون استثناء فإن الدول الغربية وروسيا تخفض الآن من قوتها العسكرية،

ولكن الصين وكوريا الشمالية والعديد من دول منطقة الشرق الأوسط قد زادت من

قدراتها العسكرية بدرجة كبيرة.

إن الصراع بين الغرب وتحالف (الإسلامية/الكنفوشوسية) سوف يركز بدرجة

كبيرة على الأسلحة النووية، والكيميائية، والبيلوجية والصواريخ ذات المدى

الطويل والأسلحة المتطورة الأخرى، وكذلك القدرات في مجال الاستخبارات

والوسائل الالكترونية الأخرى، وفي هذا الشكل الجديد من التنافس لسباق التسلح

نجد أن جهة واحدة تطور أسلحتها والأخرى تحاول الحد والتخفيض وليس إحراز

التوازن في إمكاناتها العسكرية.

ماذا يجب على الغرب أن يفعله؟

في نهاية هذه الدراسة التي أشرنا لأهم الطروحات التي تناولتها، ذكر الباحث

بعض السياسات التي ينبغي على الغرب أن يتبناها لمواجهة مستقبل (صراع

الحضارات) ، وقد قسّم هذه السياسات إلى مزايا قصيرة المدى وإلى كيفية التكيف

مع هذه المتغيرات على المدى الطويل، ومن المزايا التي يمكن للغرب استغلالها

على المدى القصير ما يلي:

١- على الغرب أن يسعى إلى تعاون أوثق واتحاد بين الدول داخل الحضارة

الغربية وخاصة بين دول أوربا ودول أمريكا الشمالية.

٢- ضرورة السعي لدمج شرق أوربا وأمريكا الجنوبية اللاتينية في المجتمع

الغربي، لأن هذه الدول تملك ثقافة قريبة من ثقافة الغرب.

٣- السعي للدعوة والحفاظ على علاقات تعاونية أوثق مع روسيا واليابان.

٤- منع تطور الصراعات المحلية داخل الحضارة الغربية إلى صراعات

كبيرة.

٥- الحد من توسع القوة العسكرية للدول الإسلامية والكنفوشوسية.

٦- التوسط في تخفيض القوة العسكرية الغربية والحفاظ على التفوق

العسكري في شرق وجنوب غرب آسيا.

٧- استغلال الاختلافات والصراعات بين الدول الإسلامية والكنفوشوسية.

٨- دعم الجماعات في الحضارات الأخرى التي تتعاطف مع القيم والمصالح

الغربية.

٩- تقوية المؤسسات الدولية التي تعكس وتمنح الشرعية للمصالح والقيم

الغربية للدعوة لمشاركة دول غير غربية في هذه المؤسسات.

أما على المدى الطويل فإن الدول التي تنتمي إلى حضارات غير غربية سوف

تستمر في المحاولة للحصول على الثروة والتقنية والمهارات والأجهزة والأسلحة

حتى تكون دولاً حديثة، وسوف تحاول أيضاً أن توفق بين التحديث والثقافات والقيم

المحلية، ولهذا فإن قوتها العسكرية والاقتصادية مقارنة بالغرب سوف تزداد،

ولذلك على الغرب أن يُكيّف هذه الحضارات التي سوف تصبح قوتها قريبة من قوة

الغرب، ولكن قيمها ومصالحها تختلف بدرجة كبيرة عن الغرب، وهذا يتطلب من

الغرب أن يحافظ على قوته العسكرية والاقتصادية الضرورية لحماية مصالحه،

ويتطلب أيضاً أن يطور الغرب فهمه العميق للافتراضات الدينية والفلسفية التي تقف

عليها تلك الحضارات وينبغي معرفة الطرق التي يرى بها الناس في تلك

الحضارات مصالحهم الذاتية.

عود على بدء:

يتضح من الأسطر السابقة أن الكاتب بدأ دراسته بتشخيص حالة العالم بعد

سقوط الشيوعية، وتقهقر الصراعات الأيديلوجية، لتبرز من جديد الفروق

الجوهرية بين بني البشر، وهي الفروق التي طمرتها حقبة الحربين العالميتين

والحرب الباردة، إنها الفروق الحضارية التي يشكلها الدين والغة والتاريخ والثقافة

والتراث، وقد كان هذا التشخيص لشكل العالم الجديد في ظل ظاهرة العودة إلى

الجذور متطابقاً إلى حد بعيد مع الأحداث التي تجري على الساحة منذ بداية

الثمانينات، وهي الفترة التي شهدت مرحلة الانهيار الكبير للشيوعية وحتى اليوم،

وبالنسبة لنا نحن المسلمين فإن هذا الوضوح والتمايز بين الحضارات سوف يساعد

ولا شك في تمييز المواقف وسقوط الأقنعة والشعارات التي كان يرددها كثير من

المستغربين من أبناء الأمة، فكثيراً ما كان يُرَدَدُ مصطلح «عالمية الحضارة»

و «الهموم الإنسانية المشتركة» ، وكثيراً ما طالب أصحاب الأدب والفكر بالانفتاح

على الحضارات، وعدم الانغلاق على الذات وبالبحث عن القواسم المشتركة بين

حضارة الإسلام وحضارة الغرب وغير ذلك من الطروحات وشعار «الحضارة

العالمية» هو كما ذكر (هنجتون) : مصطلح غربي بحت، يطرح عالمياً ليكون

ستاراً لنشر القيم والمبادئ الغربية على أنها مبادئ عالمية وليست خاصة بأمة معينة.

وعلى الرغم من أن كاتب هذه الدراسة قد أكد على كثيرٍ من الخصائص التي

تميز بين الحضارات، واستطاع أن يوضح العلاقات والقوانين التي يمكن أن تتحكم

في العلاقات الدولية في ظل صراع الحضارات، إلا أنه قد وجه دراسته في النهاية

نحو ما يمكن أن يسمى بالاتجاه السائد في الغرب للبحث عن خطر عسكري جديد

بدلاً عن الشيوعية «، ولهذا نجد أن الباحث قد ركز عند حديثه عن خطورة

الاتصال بين الحضارة الإسلامية والكنفوشوسية كحلف متوقع ضد الغرب ركز على

الجانب العسكري، بل وعلى جانب التسليح فقط من التعاون الحضاري، وقد أغفل

الجوانب الرئيسة التي تكون الحضارات وتدعم التعاون بينها، مثل الدين واللغة

والتاريخ المشترك، وكان الاستشهاد على وجود نوع من التحالف بين الإسلام وبين

الحضارة الكنفوشوسية بتصدير الأسلحة إلى دول مثل ليبيا وإيران والجزائر

والعراق وباكستان، متهافتا جداً حيث إن العديد من الدول العربية والإسلامية

الأخرى تعتمد على التسلح من دول الغرب، ولم يعتبر أحداً أن هذا التعاون هو

تحالف حضاري بين الإسلام والغرب، ويبدو أن المؤلف في هذا الجزء من الدراسة

قد قام بعملية قسرية لأفكاره لتتماشى مع الحملة الكبيرة على المستوى السياسي في

الغرب لتصوير الإسلام بالخطر البديل عن الشيوعية، وذلك لأن الجمهور الغربي،

كما يقول شومسكي:» لن يختار الدرب الذي يخدم مصالح الشركات الكبرى ولن

يزيد المغامرات الخارجية لإخضاع العالم الثالث للمطالب ذاتها إلا إذا سيق إلى ذلك

عن طريق الخوف.. «.

ويمكن الاستشهاد بتهافت فكرة خطر التعاون العسكري بين الصين وبعض

البلاد الإسلامية، على الغرب بما ذكره الكاتب من أن هناك جهة (الجهة الإسلامية/

الكنفوشوسية) تطور أسلحتها وقدراتها العسكرية، وجهة أخرى (الجهة الغربية)

تخفض وتحد من إمكاناتها العسكرية، ولا شك أن الفارق عظيم بين الجهتين في

الوقت الحاضر من ناحية التفوق العسكري والتقني، كما أن الرقابة على تصدير

الأسلحة النووية وغيرها والذي تقوم به الدول الغربية يمنع إحراز البلاد الإسلامية

ولو على جزء يسير مما عند صنيعة الغرب في المنطقة» إسرائيل «.

ولهذا فإن التوصيات التي ذكرها الكاتب في نهاية مقاله والموجهة إلى الغرب

للعمل بها كاستراتيجية على المدى القصير، وعلى المدى الطويل توضح بجلاء

تركيز الكاتب على الجانب العسكري، كمخرج وحيد لحماية مصالح الغرب ونشر

قيمه وثقافته، ويبدو أن هذا التركيز يأتي متوافقاً مع مصالح أصحاب رؤوس

الأموال في بلاد الغرب من الطبقة السياسية والصناعية التي يهمها استمرار

الاستثمار في التسلح والصناعات العسكرية وعدم إغلاق مصانع الأسلحة العملاقة

في الدول الغربية، وبتعبير شومسكي أيضاً:» كان الانفراج في توترات الحرب

الباردة، بالنسبة للصفوة الأمريكية، نعمة تشوبها نقمة، صحيح أن وهن الرادع

السوفيتي سهل للولايات المتحدة لجوءها إلى العنف والقسر في العالم الثالث، وأن

انهيار المنظومة السوفياتية عبّد الطريق أمام إدخال أوربا الشرقية والوسطى في

مناطق يراد لها أن «تكمل اقتصاديات الغرب الصناعية» ، ولكن ثمة مشاكل تنشأ

بشأن السيطرة في الداخل على جمهور يتزايد خطره باستمرار، وبشأن الحفاظ على

النفوذ في أوساط الحلفاء وهم الآن منافسون حقيقيون في حقل القوة الاقتصادية، كما

أنهم سباقون في عملية تكييف العالم الثالث الجديد لخدمة حاجاتهم.. ولهذا كان

الافتراض هو أن يكون الاستثمار في مسائل الحاجات الاجتماعية بديلاً ممكناً

لمنظومة «البنتاغون» ، وهذا الخيار وإن كان ممكن الحدوث فنياً وفق القياسات

المجردة للاقتصاديين، إلا أنه خيار يتعارض مع امتيازات المالكين والمديرين،

ولهذا فهو مرفوض كخيار سياسي.. «.

وكخاتمة لهذه القراءة ينبغي التأكيد على ما بدأنا به، وهو أن مفهوم الصراع

الحضاري ليس جديداً في الساحة الفكرية، وأن الصراع موجود فعلا ولكن التركيز

عليه في مثل هذه الدراسات يمنح كثيرين من الذين قد تأثروا بالطروحات التي

تنادي بالحضارة العالمية وبامتزاج الحضارات، الفرصة لإعادة النظر والتفكير في

مواقعهم الحالية، فإن الحالة في وقت الصراع الحضاري هي أن تقف هنا أو تقف

هناك وليس هناك موقف في الوسط ...