للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مقال

مدلولات الأمن الإسلامي

نوع آخر من القرآن الكريم

بقلم: د. محمد البرزنجي

لا شك أن القرآن هو منهج رباني أنزله الله سبحانه وتعالى ليحكم الحياة

البشرية بجميع مرافقها. ولا نستطيع أن ندعي أن في القرآن تعريفاً لمصطلح الأمن

الإسلامي؛ ولكنا نجد إشارات في ثنايا الآيات القرآنية تشير إلى أمور تدخل في

تكوين هذا المصطلح.

والمتدبر لآيات القرآن الكريم يرى أن الآيات القرآنية تتحدث عن مستويين

من الأمن أو نوعين منه:

الأول: الأمن على مستوى الفرد (عامل الأمن النفسي) .

الثاني: الأمن على المستوى الجماعي (الأمة) .

أولاً: الأمن الفردى أو (عامل الأمن النفسي) :

يذكر الله سبحانه وتعالى عن إبراهيم عليه السلام وهو يحاور قومه المشركين: [فَأَيُّ الفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم

بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ] [الأنعام: ٨١-٨٢] .

من المعروف أن عقيدة التوحيد تأخذ مساحة واسعة من الآيات القرآنية؛ وفي

هذه الآية رَبْطٌ واضح وعلامة قوية بين رسوخ عقيدة التوحيد في النفس البشرية

وبين الأمن والاطمئنان؛ أما الذين لم تخالط عقيدة التوحيد قلوبهم، ولم تملأ نفوسهم

فلن يشعروا أبداً بذلك الاطمئنان والأمن النفسي؛ فهُمْ في الدنيا وَجِلُونَ من سخط الله، وفي الآخرة ينتظرهم عذاب من الله أليم، ويظلون طول حياتهم يخافون من

المستقبل المجهول، ولا يعرفون معنى لوجودهم في هذا الكون الرحيب. والملايين

الضالة في العالم المادي فقدت الأمن والاطمئنان عندما مسخت فطرتها؛ ومهما

لهثت وراء ذلك فلن تحصل عليه؛ فذلك الأمن منحة ربانية للذين آمنوا ولم يخلطوا

إيمانهم بشرك؛ هكذا ترشدنا الآية القرآنية؛ وذلك نوع من التحدي والإعجاز

القرآني للبشر على مدى العصور؛ فلو راجعنا نشرات منظمة الصحة العالمية

وسجلات المصحات النفسية والعيادات النفسية في دول الغرب لوجدنا أمراً مذهلاً؛

فجميع وسائل الترفيه والترف المادي لم تمنح الإنسان الغربي ذلك الأمن والاطمئنان

النفسي الذي رُزِقه المسلم حتى ولو كان وراء القضبان، ولو راجعنا حياة الصحابة

والتابعين وأعلام هذا الدين حتى يومنا هذا لبدا لنا ذلك واضحاً.

نرجع مرة أخرى إلى الآيات القرآنية لنرى مثالاً عظيماً تتجلى فيه مسألة

الأمن النفسي؛ ففي غزوة أحد بعد أن أصيب المسلمون بجراحات كثيرة من بينها

استشهاد سبعين صحابياً منهم حمزة عم النبي؛ وعقب هذه الإصابات المؤلمة وفي

تلك اللحظة الحرجة جداً كان الذين في قلوبهم مرض يتوجسون شراً، ويرتعدون

خوفاً من كَرّة قريش مرة أخرى ولكن الذين اطمأنت قلوبهم بالإيمان، ونعمت

نفوسهم بالتوحيد رُزِقوا أمناً عجيباً؛ وكما قالت العرب قديماً: (الإناء ينضح بما

فيه) فالأمن الذي ملأ قلوبهم انعكس على جوارحهم؛ فغطوا في نوم هادئ مريح.

قال الحق سبحانه: [ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنْ بَعْدِ الغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِّنكُمْ

وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ] [آل عمران: ١٥٤] . ...

قال الطبري في تفسير هذه الآية: ثم أنزل الله أيها المؤمنون من بعد الغم

الذي أتاكم ربكم بعد غم تقدمه قبله (أمنة) وهي الأمان على أهل الإخلاص واليقين

دون أهل النفاق والشك. ثم أخرج الطبري الرواية (٨٠٧٢) عن ابن عباس رضي

الله عنهما أنه قال: أمّنهم يومئذٍ بنعاس تغشّاهم وإنما ينعس من يأمن ... وأخرج

رواية أخرى (٨٠٨٦) عن قتادة أنه قال في تفسير هذه الآية: الطائفة الأخرى:

المنافقون ليس لهم همّ إلا أنفسهم أجبن قوم وأرهبه وأخذله للحق يظنون بالله غير

الحق ... إنما هم أهل شك وريبة في أمر الله.. وأخيراً فقد أخرج الطبري

الروايتين: (٨٠٨٩، ٨٠٩٠) عن ابن زيد وقتادة في قوله تعالى: [ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ] ظن أهل الشرك. اهـ

قلت: وهنا تلتقي الآية مع آية سورة الأنعام السابقة في ربط الأمن

والاطمئنان النفسي بالتوحيد وفقدان ذلك الأمن بالشرك نسأل الله الأمن والأمان وهذا

هو أحد صحابة رسول -صلى الله عليه وسلم- حين يجتمع عليه مشركو قريش

ليقتلوه يصلي ركعتين خفيفتين ولا يطيل فيهما القراءة حتى لا يتصور الأعداء أنه

وَجِلٌ من الموت في سبيل الله، ويطلب شفرة يتنظف بها من الشعر الزائد؛ وينسى

القوم أنهم تركوا عنده طفلاً، فيهرعون إليه خشية أن يذبحه فيرون الطفل في

أحضانه هادئاً؛ والصحابي مطمئن النفس هادئ الجوارح والجوانح غير مضطرب. وسنعود مرة أخرى للحديث عن عامل الأمن النفسي في نهاية حديثنا هذا.

ثانياً: الأمن الجماعي (أمن الأمة الإسلامية) :

قال الحق سبحانه: [وَعَدَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ

فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَذِي ارْتَضَى لَهُمْ

وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ

هُمُ الفَاسِقُونَ] [النور: ٥٥] .

قال الشوكاني في تفسير هذه الآية: والمعنى أنه سبحانه يجعل لهم مكان ما

كانوا فيه من الخوف من الأعداء أمناً، ويُذهب عنهم أسباب الخوف الذي كانوا فيه

بحيث لا يخافون إلا الله ولا يرجون غيره [١] .

ولنا وقفة طويلة عند هذه الآية: أما أسباب الخوف كما قال الشوكاني فسنرجع

إليه بعد برهة، ونبدأ بالعبارة القرآنية: [يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً] فمعظم

المفسرين كالقرطبي والشوكاني وغيرهما يرجحون كون هذه الجملة في محل نصب

على الحال، ويجوز كون الجملة استئنافية، ولقد التقيت يوماً في بعض أسفاري

بفضيلة الدكتور ياسين الجاسم رئيس قسم اللغة العربية بإحدى الجامعات الإسلامية

فسألته عن إعراب هذه الجملة: [يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً] فقال: هذه

الجملة في محل نصب حال أو أنها استئنافية، ولكن المعنى يرجح كونها في محل

نصب حال. والله تعالى أعلم.

والذي يهمنا هنا هو ترجيح المفسرين وعلماء اللغة كونها في محل نصب حال، أي أن المعنى يصير: وعد الله المؤمنين بالأمن والتمكين في حال عبادتهم

وإخلاصهم. قال القرطبي: (١٢/٣٠٠) [يَعْبُدُونَنِي] : هو في موضع الحال،

أي في حال عبادتهم بالإخلاص. ونقل القرطبي عن ابن العربي قوله: هذا وعد

عام في النبوة والخلافة وإقامة الدعوة وعموم الشريعة، فنفذ الوعد في كل أحد بقدره

على حاله؛ وحقيقة الحال أنهم (أي المسلمين) كانوا مقهورين فصاروا قاهرين،

وكانوا مطلوبين فأضحوا طالبين؛ فهذا نهاية الأمن والعز.

وقال النحاس كما نقل عنه القرطبي (١٢/٢٩٧) : فكان في هذه الآية دلالة

على نبوة رسول الله؛ لأن الله عز وجل أنجز ذلك الوعد.

أما تفسير قوله تعالى: [وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ] فقد أخرج الطبري (شيخ

المفسرين بالأثر) بسنده المتصل إلى أبي العالية أنه قال: أي من كفر بهذه النعمة [

فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ] وليس يعني الكفر بالله.

ثم ذكر الطبري عبارة جديرة بالتأمل؛ إذ قال: فأظهره الله على جزيرة

العرب، فآمنوا، ثم تجبروا؛ فغير الله ما بهم؛ لأنهم كفروا بهذه النعمة، فأدخل

الله عليهم الخوف الذي كان أنعمه عليهم، قال القاسم (شيخ الطبري) : قال أبو علي: بقتلهم عثمان بن عفان رضي الله عنه. اهـ

وهذا يعني اتفاق الطبري وابن العربي والقرطبي حول المعنى نفسه.

والمتتبع لحال المسلمين يستنتج ما يلي: كلما كانت الأمة المسلمة مطيعة لله ورسوله

يحكم التوحيد حياتها كاملة كان الأمن على قدر ذلك. والله تعالى أعلم.

ونأتي أخيراً إلى تفسير عوامل الأمن التي تقابل عوامل الخوف التي أشار

إليها الشوكاني بقوله: (ويذهب عنهم أسباب الخوف الذي كانوا فيه) . فنقول وبالله

التوفيق: المتدبر لآيات القرآن الكريم يرى أن الآيات القرآنية تشير أحياناً إلى

عاملين رئيسين: العامل الاقتصادي، والعامل المادي العسكري [الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن

جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ] [قريش: ٤] وهنالك آية أخرى تبدو الإشارة فيها إلى

هذين العاملين الرئيسين من عوامل الأمن الجماعي واضحة؛ إذ يقول الحق سبحانه: [وَقَالُوا إن نَّتَّبِعِ الهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَ لَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى

إلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ] [القصص: ٥٧] .

قال القرطبي في تفسير هذه الآية: [وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ] أي لا يعقلون: أي هم غافلون عن الاستدلال بأن من رزقهم وأمنهم فيما مضى حال كفرهم

يرزقهم لو أسلموا، ويمنع الكفار عنهم في حال إسلامهم.

وقال صاحب الظلال رحمه الله تعالى: وهم ينسون الله، ينسون أنه وحده

الحافظ وأنه وحده الحامي، وأن قوى الأرض كلها لا تملك أن تتخطفهم وهم في

حمى الله، وأن قوى الأرض كلها لا تملك أن تنصرهم إذا خذلهم الله؛ ذلك أن

الإيمان لم يخالط قلوبهم ولو خالطها لتبدلت نظرتهم للقوى، ولاختلف تفسيرهم

للأمور، ولعلموا أن الأمن لا يكون إلا في جوار الله، وأن الخوف لا يكون إلا في

البعد عن هداه. اهـ

قلت: ومن إعجاز القرآن الكريم أننا نرى اليوم اليهود يملكون أقوى الأسلحة

المادية، ومعظمهم مجندون ومدربون على القتل والفتك والنهب، ويملكون أموالاً

طائلة ومع ذلك فهاجسهم الوحيد ظل لحد الآن: الأمن؛ لأنهم بعيدون عن هدى الله

عز وجل وبدا ذلك واضحاً في الزيارة الأخيرة لأولبرايت لإسرائيل؛ إذ أكدت

وكالات الأنباء أن أمن إسرائيل كان محور المباحثات هناك؛ ولكن هيهات أن

يناموا ملء جفونهم مصداقاً لقوله تعالى: [ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إلاَّ

بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ] [آل عمران: ١١٢] .

ولا بأس إذا فصلنا شيئاً قليلاً في عامل الأمن العسكري ما دام الحديث في

اليهود؛ فالآية القرآنية في سورة الإسراء تتحدث عن أمرين هامين (يعتبرهما

خبراء الحرب عاملين هامين في الأمن العسكري ... أولاهما: الأعداد الغفيرة من

الجنود المدرّبة، والثاني: هو المال الوفير وهو جزء من عامل الأمن الاقتصادي)

يقول الحق سبحانه متحدثاً عن بني إسرائيل: [وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ

أَكْثَرَ نَفِيراً] [الإسراء: ٦] ، ومع الأسف فإن اليهود يأخذون بعوامل الأمن المادية

المتاحة لديهم؛ فهم يجمعون يهود الحبشة ويهود روسيا وغيرهما، ثم يدربونهم على

أحدث الأسلحة ويحاولون في الوقت نفسه إدخال الأخطبوط المالي اليهودي إلى كافة

الأسواق؛ فهل فكرت الأمة الإسلامية الممزقة في عشر معشار ما يفكر به اليهود؟

نعود كرة أخرى إلى مدلولات الأمن الإسلامي في القرآن الكريم وهذه المرة

نستعين ببعض الأحاديث النبوية الشريفة؛ فالسنة مبينة لآيات القرآن الكريم؛ وهنا

لا أريد أن أطيل أكثر مما سبق، وإنما أقول: مصطلح الأمن الإسلامي يختلف عن

مصطلحات الأمن القومية وغير ذلك؛ فالعوامل الداخلة في تعريف هذا المصطلح

ليست عوامل مادية فقط وإنما العامل الأول هو الالتزام بعقيدة التوحيد على مستوى

الفرد والجماعة سواءً بسواء ثم اتخاذ السياسات الاقتصادية وخطط التنمية والدفاع

وما إلى ذلك، أضف إلى كل هذا عاملاً رئيساً آخر لا يوجد إلا في الأمن الإسلامي

ألا وهو الدعاء. نعم الدعاء! فلا تستغرب أخي القارئ! ولكن: رويدك حتى نفهم

سوية دور الدعاء في الأمن؛ فعلى أن الإسلام حرّض المسلمين على الاهتمام

بالاكتفاء الذاتي ومن ذلك الاكتفاء الاقتصادي، ومنه الاكتفاء الزراعي؛ إذ إن

الإسلام يحضّ على الزرع حتى في آخر الزمان وقبيل قيام الساعة بلحظات.

ولكن في الوقت نفسه يطلب الإسلام من المسلمين أفراداً وجماعات أن يكونوا

مربوطي القلب بتوفيق الله، راجين منه سبحانه أن يبارك في زرعهم وجهودهم

فتكون مباركة كثيرة كبيرة عميمة النفع؛ كما جاء في صحيح مسلم (٩/٤١٢٥) كان

الناس إذا رأوا الثمر جاؤوا به إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيقول: (اللهم

بارك لنا في ثمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في

مُدِّنا) .

هنالك إشارة أوضح من مسألة الأمن الاقتصادي والاكتفاء الذاتي في مجال

الزراعة؛ فقد أخرج الترمذي في سننه (٣٤٥١) وحسنه والدارمي (٢/٤) أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان إذا رأى الهلال قال: (اللهم أهلّه علينا بالأمن والإيمان

والسلامة والإسلام، ربي وربك الله) .

ويتبين لنا من الشروح السابقة أن تعريفَ الدكتور صباح وإن كان مشكوراً

لجهوده في إيجاد تعريف للأمن الإسلامي غيرُ متكامل؛ فالأمن الإسلامي: منحة

ربانية يهبها الحق سبحانه للجماعة (الأمة المسلمة) إذا حققت الإيمان وانصبغت

حياتها بصبغة إسلامية [صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أََحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ]

[البقرة: ١٣٨] ومحت آثار الشرك من الحياة العامة والخاصة، ثم أخذت بالأسباب

المادية من تنمية اقتصادية وإعداد عدة [وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ]

[الأنفال: ٦٠] وما إلى ذلك من السياسات الداخلية والخارجية التي تنظمها السياسة الشرعية المعروفة القواعد والأسس عند فقهاء هذه الأمة، ومع كل تلك الإجراءات المادية والمعنوية تظل نفوس الأمة مشدودة إلى توفيق ربها، راجية أن يهبها الأمن والأمان والسلامة والإسلام.

وبعد هذه الشروح السابقة نقول: إن مصطلحات الأمن الاقتصادي والأمن

السياسي والأمن القومي وما إلى ذلك لم تتوضح إلا في القرن الأخير وذلك بعد مئات

الدراسات والأبحاث واستقراء الأحداث الكونية، وما إلى ذلك. ومعلوم أن محمداً -

صلى الله عليه وسلم- ذلك الرجل الأمي الذي عاش قبل أربعة عشر قرناً لم يتخرج

من أكاديميات عسكرية متطورة، ولم يكن خبيراً اقتصادياً؛ فهو الذي كان يقول:

(أنتم أعلم بأمور دنياكم) [٢] ولم يكن مشرفاً على مراكز الدراسات السياسية

والاستراتيجية؛ فمن أين جاء بهذه الإشارات العلمية إن لم يكن وحياً منزلاً وكما قال

سبحانه: [قُلْ أَنزَلَهُ الَذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] [الفرقان: ٦] ، وقال

سبحانه: [وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلا الإيمَانُ

وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشاءُ] [الشورى: ٥٢] ونحن نقول: إن القرآن

الكريم ليس كتاب طب أو فيزياء أو علم اجتماع أو اقتصاد، ولكنه منهج رباني

أنزله الله ليحكم حياة الناس، وقد وردت فيه إشارات إلى نواميس عظيمة في هذا

الكون؛ ومجرد هذه الإشارات يكفي حافزاً للإنسان لكي ينظر ويتدبر ويتأمل،

وكلما اكتشف الإنسان سراً من أسرار الحياة والكون، وكلما تجلت له حقيقة كونية

تتعلق بحياة البشر أو غير ذلك ازداد إيماناً ويقيناً؛ والحق سبحانه يقول: [سَنُرِيهِمْ

آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ

شَيْءٍ شَهِيدٌ] [فصلت: ٥٣] .

ولقد حاولت في مقالتي هذه أن أستند إلى شروح المفسرين الأعلام كالطبري

والقرطبي والشوكاني وغيرهم، وحاولت جهد المستطاع أن لا أُحَمِّلَ النصوص فوق

ما تحتمل؛ فإن كنت وقعت في ذلك فأرجو أن ينبهني القراء لذلك.

أقول قولي هذا؛ فإن كان صواباً فمن الله التوفيق، وإن كان خطأ فمني؛

وأستغفر الله.


(١) فتح القدير، ٤/٧٠.
(٢) مسلم: كتاب الفضائل، رقم (٢٣٦٣) .