المسلمون والعالم
[الهروب إلى الأمام في اتفاق ماشاكوس]
أمير سعيد
[email protected]
مثلما لا يخالجني شك في أنك الآن تطلع على أوراقي هذه، أتيقن تماماً أن
ثمة مؤامرة صهيوصليبية وراء ما يجري ترتيبه اليوم في السودان؛ إذ ليس من
المقبول عقلاً اعتبار الضربات المتناغمة التي تسددها الصهيونية والصليبية للأمة
الإسلامية عموماً؛ والعربية خصوصاً خبط عشواء.
فمحال أن يكون قصف أفغانستان وتفكيكها، وإقامة الأمريكان فسطاطهم جوار
بحر قزوين «المكتنز» نفطاً، والسعي وراء الاستيلاء على العراق نفطاً وحكومة
وشعباً، والحديث عن تقسيم دولته إلى ثلاث دول: شيعية (جنوبية) وسنية
(وسطية) وكردية (شمالية) ، أو توحيدها تحت إمرة «الشريف» الحسن بن
طلال وعائلته عريقة التوجه الغربي، والعمل الدؤوب الهادف للسيطرة على النفط
الخليجي، ربما عبر تقسيم دوله، ومحاصرة «الوهابية» في الخليج، والترويج
لدولة شيعية في شرقه، وتأليب المارونيين على المسلمين في لبنان، وسلخ أجهزة
الأمن الفلسطينية (وسلطتها) من وطنييهما.
محال أن لا يكون اتفاق ماشاكوس، ومن بعده احتلال مدينة توريت الجنوبية
الاستراتيجية، وضغط الولايات المتحدة على السودان «رهابياً» متسقاً مع كل
المؤامرات السابقة؛ وحلقة من سلسلة نيرها الذي يحكم معصم الأمة الإسلامية.
فالاتفاق ينص صراحة كما ورد في وثيقته على ما يلي:
** المبادئ المنصوص عليها في اتفاقية السلام:
- تكوين آلية المراقبة والتقييم يكون على أساس التمثيل المتساوي بين حكومة
السودان والحركة الشعبية - الجيش الشعبي لتحرير السودان، إضافة إلى ممثلين
للجهات التالية لا يزيد عددهم عن ممثلَين اثنين للجهة الواحدة.
- أعضاء اللجنة الفرعية حول السودان لدول إيغاد، وهي (جيبوتي، إريتريا،
إثيوبيا، كينيا، وأوغندا) أعضاء الدول المراقبة وهي (إيطاليا، والنرويج،
والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة الأمريكية) أية دول أخرى أو هيئات إقليمية
أو دولية يتفق عليها الطرفان.
- يعمل الطرفان مع هذه الآلية خلال الفترة الانتقالية بغرض تطوير وتحسين
المؤسسات والترتيبات المكونة بموجب الاتفاقية وجعل وحدة السودان خياراً جذاباً
لأهل جنوب السودان.
- في نهاية العام السادس للفترة الانتقالية يجري استفتاء تحت المراقبة الدولية
تتعاون في إجرائه حكومة السودان والحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير
السودان من أجل تدعيم وحدة السودان بالتصويت لتبني نظام الحكم الذي أقيم
بموجب اتفاقية السلام، أو التصويت لصالح الانفصال.
- يمتنع الطرفان عن إلغاء هذه الاتفاقية أو خرقها من طرف واحد.
- النص المتفق حوله فيما يتعلق بدين الدولة: اعترافاً بأن السودان بلد متعدد
الثقافات والأعراق والإثنيات والأديان واللغات، وتأكيداً لعدم استخدام الدين كعامل
للفرقة، يتفق الطرفان على ما يلي:
١ - الأديان والأعراف والمعتقدات مصدر للقوة الروحية والإلهام للشعب
السوداني.
٢ - تضمن حرية المعتقد والعبادة والضمير لأتباع كل الأديان والمعتقدات
والأعراف، ولا يجوز التمييز ضد أي شخص على هذه الأسس.
٣ - تولي جميع المناصب، بما فيها رئاسة الدولة والخدمة العامة والتمتع
بجميع الحقوق والواجبات، يتم على أساس المواطنة وليس على أساس الدين أو
المعتقدات أو الأعراف.
٤ - يمكن أن تجري وتنظم كل الأمور الشخصية والعائلية، ومن ضمنها
الزواج والطلاق والإرث والتنصيب والولاء، وفق القوانين الشخصية (بما فيها
الشريعة أو القوانين الدينية الأخرى أو العادات أو الأعراف) الخاصة بأولئك الذين
يهمهم الأمر.
٥ - يتفق الطرفان على احترام الحقوق التالية:
- حرية العبادة والتجمع من أجل أداء الممارسات الدينية أو الممارسات
الخاصة بالمعتقدات الأخرى، وتأسيس وحماية الأماكن التي تقوم لأداء هذه الشعائر.
- تأليف وإصدار وتوزيع المطبوعات الخاصة بهذه القضايا.
- تدريس الديانات والمعتقدات في الأماكن المناسبة لأداء هذه الأهداف.
- التمتع بالعطلات والاحتفال بالمناسبات وفق المبادئ والتعاليم التي ينص
عليها الدين الذي يدين به الفرد المعين.
- إقامة الصلات والاتصال بالأفراد والمجموعات فيما يتعلق بالشؤون الدينية
المعتقدية، على المستويين القومي والعالمي.
٦- المبادئ الواردة في المواد (١) إلى (٥) تضمن في الدستور.
** الحكومة الوطنية:
١ - يتفق على تكوين حكومة وطنية لتمارس الوظائف، وتجيز القوانين التي
تتطلب طبيعتها أن تجاز وتمارس من قبل سلطة عليا ذات سيادة وعلى المستوى
القومي. وستأخذ الحكومة الوطنية في الاعتبار، في كل القوانين التي تجيزها،
الطبيعة التعددية للشعب السوداني دينياً وثقافياً.
٢ - التشريعات التي تسنّ على المستوى الوطني والتي تطبق على الولايات
خارج جنوب السودان، يكون مصدرها التشريعي الشريعة وإجماع الشعب.
٣ - التشريعات التي تسنّ على المستوى الوطني والتي تطبق على الولايات
الجنوبية و / أو الإقليم الجنوبي يكون مصدرها التشريعي الإجماع الشعبي وقيم
وعادات الشعب السوداني، ومن ضمنها تقاليده ومعتقداته الدينية، مع اعتبار
التعددية السودانية.
في حالة ما إذا كانت التشريعات الوطنية المعمول بها الآن أو المطبقة وكان
مصدرها دينياً أو القوانين العرفية، وكانت أغلبية سكان الولاية أو الإقليم لا
يمارسون شعائر هذا الدين أو القوانين العرفية:
- أما طرح تشريعات تسمح بـ أو تؤسس مؤسسات أو ممارسات في الإقليم
متماشية مع دينهم أو أعرافهم.. أو يتم عرض القانون على مجلس الولايات لإقراره
بأغلبية الثلثين، أو تقديم تشريعات وطنية تطرح مثل هذه المؤسسات البديلة
الضرورية كما هو مناسب.
** نص اتفاقية حول حق تقرير المصير لأهل جنوب السودان:
- لأهل جنوب السودان الحق في تقرير المصير بين أشياء أخرى، عبر
استفتاء لتقرير أوضاعهم في المستقبل.
- سيتم تأسيس مجلس مستقل وهيئة تقييم خلال الفترة الانتقالية لمراقبة
تطبيق اتفاقية السلام خلال الفترة المؤقتة، وستجري الهيئة تقييماً في منتصف المدة
لترتيبات الوحدة التي تم التوصل إليها طبقاً لاتفاقية السلام.
- تشكل هيئة التقييم من ممثلين متساوين من حكومة السودان والحركة
الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان، ومما لا يزيد عن ممثلين اثنين من الدول
والمنظمات الآتية: الدول الأعضاء في اللجنة الفرعية حول السودان التابعة لإيغاد:
(جيبوتي وإريتريا وإثيوبيا وكينيا وأوغندا) . دول مراقبة: (إيطاليا والنرويج
والمملكة المتحدة والولايات المتحدة) وأي دول أخرى أو هيئات دولية إقليمية يتم
الاتفاق عليها من قِبَل الأطراف.
- ستعمل الأطراف مع الهيئة خلال الفترة المؤقتة بهدف تحسين المؤسسات
والترتيبات المؤسسة طبقاً للاتفاقية، وجعل وحدة السودان جذابة لأهل جنوب
السودان.
- في نهاية الفترة المؤقتة التي تستغرق ٦ سنوات سيجري استفتاء تحت
رقابة دولية، تنظمه حكومة السودان والحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير
السودان لأهل جنوب السودان لتأكيد وحدة السودان بالتصويت على تبني نظام حكم
مؤسس طبقاً لاتفاقية السلام.. أو التصويت على الانفصال.
- تمتنع الأطراف عن أي شكل من أشكال التعديل والإلغاء من طرف واحد
لاتفاقية السلام. والاتفاق على هذا النحو لا يبدو خادماً لمصالح المسلمين في
السودان، كما لا يبدو في الوقت نفسه شراً محضاً كونه يتيح المجال لنوع من النمو
الاقتصادي للسودان.
وبرغم أن هذا الاتفاق لم يكن مفاجأة للكثيرين من متابعي الشأن السوداني؛ إلا
أنه مثل صدمة للمهتمين بالسياسة السودانية بمن فيهم رؤساء الأحزاب السودانية
والحركات المسلحة وغير المسلحة في شمال السودان وجنوبه الذين تباينت آراؤهم
فيما يتعلق بالاتفاق.
** موقف القوى السودانية من الاتفاق:
أولاً: موقف الحكومة:
رغم أن ممثلي الحكومة قد وقَّعوا على بروتوكول الاتفاق؛ فإن بعضاً من
أقطابها بدوا كما لو أنهم تجرعوا السم بإقراره؛ ويتحينون الفرصة للالتفاف عليه،
بمن فيهم الرئيس السوداني عمر البشير نفسه الذي ما أن سقطت مدينة توريت
الاستراتيجية في أيدي المتمردين بعد أقل من شهرين من توقيع الاتفاقية حتى قال
من فوره: إنها «إرادة من الله لأن تظل جذوة الجهاد مشتعلة حتى ترتفع الراية» ،
مضيفاً: «سنعلنها حرباً، وإنَّا منتصرون فيها بإذن الله، وسنقاتل حتى تعود
توريت وكبويتا» . ثم وقف البشير يلوح بعصاه في جنازة أحد الضباط الذين قُتلوا
في توريت ويقول: «المتمرد جارانج ومن خلفه لم يعرفونا حق المعرفة، فليسألوا
عنا.. كل سياسات الضغط والاحتواء ضدنا فشلت» . وهو المنطق ذاته الذي
تحدث به وزير خارجيته حين قال في مصر: «إن الرئيس حسني مبارك على
حق فيما قاله من أن انفصال الجنوب سيؤدي إلى فوضى في أفريقيا» .!!
ونستشف من موقف حكومة الإنقاذ أنها وقعت تحت ضغط شديد من الولايات
المتحدة الأمريكية، ومن أوضاع البلاد الداخلية السيئة التي تستدعي تحركاً
استثمارياً عملاقاً يفيد من اكتشاف مخزون هائل من النفط لديه، يستدعي بدوره
ضرورة توافر استقرار أمني وسياسي في شرق وجنوب البلاد، وكذلك وقعت تحت
ضغط سياسي داخلي متمثل في كثرة الانشقاقات وتغيير الولاءات التي تعترض
طريق شعبيتها، ولا سيما أن فترة حكم الإنقاذ قد شهدت العديد من الانشقاقات
لمعظم القوى السياسية، منها من انضم للحكومة كجناح من حزب الترابي
«المؤتمر الشعبي» ، وجناح من حزب الصادق المهدي «حزب الأمة» بزعامة
مبارك فاضل المهدي، وجناح من جماعة أنصار السنة المحمدية، وجناح من
جماعة الإخوان المسلمين، فضلاً عن المنشقين عن التحاف الجنوبي كـ (لام أكول
ورياك مشار) . ومنها من لم ينضم للحكومة في صفوف المتمردين الجنوبيين أنفسهم
(كجيش جبال النوبة الذي تقول بعض التقديرات إنه يبلغ نحو ١٢ ألف مقاتل) .
ولأن الاتفاق قد بدا كما لو كان إذعاناً من جانب نظام البشير لضغوط أمريكية،
فقد حاولت الحكومة أن تبين الصورة كما لو كانت صفقة تمت بين طرفين يتمتعان
بحرية كاملة، وجاء على لسان الدكتور غازي صلاح الدين (مستشار الرئيس
السوداني لشؤون السلام) ورئيس الوفد الحكومي لمفاوضات (الإيغاد) : «حدث
تنازلان أساسيان؛ يعني بملخص العبارة: تنازلت الحركة في قضية الدين والدولة،
وتنازلت الحكومة في قضية تقرير المصير، لا لبس في ذلك، وأي كلام سوى هذا
هو مغالط» .
وقد حاول الرجل التقليل من أثر الضغوط الأمريكية على صياغة القرار
السوداني فقال: «نحن مبدئيون جداً في هذه المسألة، التصوير الإعلامي المغرض
هو الذي صور كأنما السودان باع كل قضاياه وباع أصدقاءه، هذا ليس صحيحاً،
والسودان ما يزال حتى هذه اللحظة في قائمة الإرهاب الأميركية، وما يزال حتى
هذه اللحظة في قائمة العقوبات الاقتصادية الأميركية، يعني ليس بيننا موالاة وليس
بيننا مودة، ولكننا نتعامل بصورة موضوعية ومنطقية» .
ثانياً: موقف الجيش الشعبي الحركة الشعبية لتحرير السودان:
يعتبر الاتفاق بالنسبة لمعظم المتمردين مغنماً، لكنها ليست كذلك بالنسبة
لقطاع الانفصاليين، وغلاة المتمردين ممن يرغبون في أن يحدث الانفصال فوراً،
وممن ينزعجون من تحكيم الشمال للشريعة الإسلامية السمحاء.
ثالثاًَ: مواقف الأحزاب الشمالية الرئيسة:
١ - حزب المؤتمر الشعبي (بزعامة الترابي) : أبدى الحزب تحفظه على
كثير من بنود اتفاق ماشاكوس.
وقال محمد الحسن الأمين مسؤول الدائرة السياسية بالحزب: إن هناك
«غموضا في نصوص الاتفاق وثمة نقاطاً لم يكشف عنها» . مضيفاً أنه «يعتبر
أن الخرطوم قدمت» تنازلات «بشأن الحكم بالشريعة الإسلامية في السودان» .
٢ - حزب الأمة (بزعامة المهدي) : يقول الصادق المهدي: جاء هذا
الاتفاق الذي في رأينا طابق في جزئياته الكثيرة رؤانا، وما كنا نسميه أسس الحل
السياسي الشامل، ونعتقد أن هذا الاتفاق لمصلحة الوطن، فالاتفاق هو لمصلحة
الوطن، ويوافق رؤانا، (لذا فقد) أيدناه باندفاع شديد وشكلنا قيادة للرأي العام
السوداني في هذا الصدد.
٣ - الحزب الاتحادي (بزعامة الميرغني) : أبدى فقط انزعاجه لكونه لم
يدع للمباحثات من بدايته، واستغرب البت في مثل هذه القضية دونما الرجوع إليه.
** مواقف الدول ذات الصلة من الاتفاق:
١ - الولايات المتحدة الأمريكية:
رحبت الولايات المتحدة بشدة بهذا الاتفاق التي هي في الحقيقة راعيته الخفية،
والجميع يدرك أن هناك أطرافاً أجنبية ساهمت من قبل في تأجيج الصراع وتقوية
التمرد لمصالح دول غربية أهمها الولايات المتحدة، وكانت الولايات المتحدة تدعم
في الخفاء الجيش الجنوبي في زمن كلينتون تحت إطار معاقبة الدول العاقة والداعمة
للإرهاب، وقد كانت بعض الصحف الغربية تصف مثل هذه الحرب بأن الشمال
المسلم يريد إجبار الجنوب على الدخول في الإسلام..!
والآن تسعي الولايات المتحدة إلى قطف ثمار جهودها الدؤوبة لإنهاك قوى
الجيش الوطني السوداني وإنهاك اقتصاد دولته في هذه الحرب الطويلة، من أجل
الوصول لحالة استسلام جزئي لمطالب الغرب المحرك الرئيس لجون جارانج
ومرتزقته.
٢ - مصر:
أخفقت في أن تحل القضية لأكثر من ١٣ عاماً تركتها الولايات المتحدة لحدٍّ مّا
تدير الوساطة، وظل دورها ينحسر من السيطرة الكاملة على السودان تحت حكم
الملك فاروق «ملك مصر والسودان» إلى الإخفاق الذريع في تأمين أمنها
«القومي» الجنوبي.
ولم تستفد من علاقاتها المتميزة مع كافة أطراف الصراع، فلم تُرَ مكترثة بما
يدبر لها من الجنوب، وقدمت مبادرات غير واقعية غلبت عليها الحيطة من نفوذ
الإسلاميين في الشمال السوداني أكثر من الخشية على تأمين منابع النيل؛ فلم
تحصد إلا هشيماً.
٣ - ليبيا:
نفضت يديها عن قضية الوساطة بعد إخفاق المبادرة المصرية الليبية، وعلق
القذافي على ذلك بالقول: «لن نكون سودانيين أكثر من السودانيين أنفسهم» .
والقذافي الذي يحتفظ بعلاقة جيدة مع المتمرد جارانج، والذي سبق أن نعته
بأنه «المناضل الحقيقي الوحيد في السودان» !! بدا عديم التأثير على «مناضله
الثوري» هذا!
٤ - الدول الأخرى المجاورة للسودان:
أيدت هذه المبادرة بلا تحفظ لرغبتها العارمة في تقسيم السودان، وخلق
منطقة عازلة بين أرباب «الحكم الإسلامي» وحدودهم.
** المبادرة المصرية الليبية:
محقت المبادرة المصرية الليبية كما هو معلوم؛ لأنها أولاً لم تكن واقعية، فلا
هي أرضت المتمردين بتأكيدها على حق تقرير المصير للجنوب (وهو ما لم تخل
منه أي مبادرة أو اتفاق باستثناء ماشاكوس الذي تجاوز تقرير المصير إلى النص
صراحة على إمكانية الانفصال) ، ولا هي أرضت عصبة البشير بإجازة تحكيم
الشمال السوداني للشريعة الإسلامية، بل حاولت القفز على المشكلة الجنوبية بإقرار
الديمقراطية الغربية عبر التعددية الحزبية، وإقامة دولة «مدنية» واحدة تحكم
الشمال والجنوب.
ومما يزيد الطين بلة أن كلتا الدولتين ليستا مؤهلتين للحديث عن التعددية
الحزبية؛ فالراعية الأولى للمبادرة لا تؤمن بالتعددية عندها إلا كنوع من «الديكور»
الذي يتجمل به الحزب الواحد. أما الثانية فتعتمد طريقة «شورية» ممعنة في
الغوغائية. ولأنها ثانياً (المبادرة) تأخرت كثيراً عن موعدها، فجاءت؛ وقد ألقت
الولايات المتحدة بثقلها في السودان بعد أن فطنت إلى أهميته بعد اكتشاف كميات
كبيرة من النفط فيه، فبعُد أن تترك الميدان لغيرها ليصول فيه ويجول.
** نتائج الاتفاق:
أفضى الاتفاق إلى نتائج لا يصب معظمها في خانة المصلحة السودانية العليا
كبلد مسلم عربي، أهمها:
١ - إقرار انفصال الجنوب عبر استفتاء يجري بعد (٦) سنوات، ولأول
مرة يتم النص صراحة على قبول انفصال الجنوب من دون الحديث عن خيانة
الموقعين عليه من الطرف الشمالي الذي هو في هذه الحالة «الحكومة السودانية
الإسلامية» ذاتها؛ ومن ثم تمهيد السبيل بشكل غير مسبوق أمام انشطار السودان.
٢ - تشجيع المتمردين على كسب أرضية جديدة للتفاوض يمكنهم البناء عليها،
وإتاحة الآمال لهم لحكم «سودان علماني جديد» ، وهو ما حملهم على السعي
وراء تملك أوراق تفاوضية جديدة، فاحتلوا مدينة توريت الجنوبية الاستراتيجية،
وطالب زعيمهم جارانج بثلاث سنوات أولى في الفترة الانتقالية يكون فيها رئيساً
للسودان كله!!
٣ - إضعاف شعبية فريق البشير من الإسلاميين باعتباره أطاح بكل ما كان
يبنيه من «سودان إسلامي موحد» يرفع راية «الجهاد والاستشهاد» ويسل سيفه
في وجه كل متمرد «صليبي خائن» ، وتشويه صورة الإسلاميين الذين يضع أحد
قادتهم (البشير) يده في يد المتمرد جارانج، فيما يقبع بأمر رئاسي «البروفيسور
الإسلامي» د. حسن الترابي خلف القضبان، وبأن فريقاً منهم قد أذعن لضغوط
الأمريكان «الصليبيين» فيما يخص انفصال الجنوب، بعدما أذعن لمطالبهم في
مسألة «الإرهاب» .
٤ - تكريس انقسام الإسلاميين، فلا نجافي الحقيقة إن قلنا إن اتفاق ماشاكوس
سيباعد (إذا ما نفذ) بين الفصائل الإسلامية والمنشقين عنها، فعلى سبيل المثال
ينتظر أن يتجذر الانشقاق بين جناحي جماعة الإخوان المسلمين المؤيد، والمعارض
للحكومة السودانية، ونفس الشيء يقال عن جناحي أنصار السنة المحمدية، وفي
ظل استمرار حبس الترابي (الذي يفرضه الإذعان لمطالب الولايات المتحدة في
مسألتي المفاوضات و «الإرهاب» ) فلن يتوقع التئاماً سريعاً لحزب المؤتمر
الشعبي (الترابي) والحزب الحاكم (البشير) .
٥ - استنهاض همم جميع الأحزاب لسلوك المسلك العسكري الناجع، وقد
سجل في الآونة الأخيرة ارتفاع كبير في معدلات شراء الأسلحة واقتنائها.
٦ - إفساح المجال لبروز الدور الأمريكي؛ فمع استقرار السودان (أو ربما
دولتي السودان) تجد الولايات المتحدة أرضاً معبدة لها للسعي وراء السيطرة على
النفط السوداني (النفط السوداني: إنتاج متنام ومستقبل واعد، ٢٥٠ ألف برميل
يومياً هذا العام؛ ٥٠٠ ألف برميل العام القادم، ٤ ملايين برميل يومياً خلال بضعة
سنوات قادمة، بإذن الله) ، وللاستثمار في الجنوب الذي أوحت دوائر اقتصادية
أمريكية لعدد من البنوك الكبرى بدراسة جدوى الاستثمار التجاري في جنوبه في
حال أصبح علمانياً محضاً، أو في حال انفصاله تماماً، وكذلك ستجد الولايات
المتحدة ومن ورائها الكيان الصهيوني مجالاً رحيباً لتطويق دولة العرب الكبرى
مصر، وذلك بإحكام السيطرة على منابع النيل، ومن ثم التحكم في كل قطرة ماء
تصل لمصر.
ولن تشبع الولايات المتحدة من تكرار طلباتها من الحكم السوداني ما دامت
تجد منه استجابة في ماشاكوس، وما دام الأمر كذلك فستستمر الولايات المتحدة
تضغط باتجاه تقزيم الإسلاميين، ولا شك أن استمرار حبس «السجين السياسي»
الدكتور الترابي هو موضع ترحيب من جانب الولايات المتحدة الأمريكية التي سبق
أن قلبت لمصر ظهر المجن قبل نحو شهرين لدى حكم قضائها على «السجين
السياسي» د. سعد الدين إبراهيم في شمال الوادي.
٧ - تقليص الدور المصري وإنهاء الوصاية المصرية على السودان ربما
للأبد من أبرز نتائج هذا الاتفاق (حال تنفيذه) ؛ فقيام دولتين سودانيتين من شأنه
أن يعقد الأمور أكثر وأكثر فيما يخص قضية تقاسم مياه النيل، وستجد مصر نفسها
مضطرة لخوض مفاوضات شاقة للحصول على حصة كانت تحصل على أكبر منها
آنفاً بسهولة في ظل سودان موحد تحكمه حكومة عربية إسلامية كانت أو حتى
علمانية.
كما أن قيام دولتين سيجعل حكومة الشمال أكثر «إسلامية» ومحضناً
لإسلاميين قد يكونون مناوئين للنظام المصري، وحتى بافتراض قيام دولة شمالية
ديمقراطية تعددية؛ فلن يكون ذلك ساراً للنظام المصري الذي قد يخشى من تطلع
الأحزاب المصرية لممارسة اللعبة السياسية وفق النموذج السوداني.
٨ - دغدغت المفاوضات في ماشاكوس طموحات الوثنيين والنصارى
المتمردين، فقدموا اقتراحاتهم بجعل الخرطوم «عاصمة خالية من الشريعة
الإسلامية» !! نظراً لإقامة نحو ٣ ملايين جنوبي في أحيائها.
٩ - دفع جارانج مستفيدا من ماشاكوس الأحزاب المعارضة نحو الهرولة
خلفه بعد إصراره على التفاوض في كينيا منفرداً وهي في أضعف حالاتها.
** ومع ذلك ...
ومع ذلك، ورغم كل التداعيات المصاحبة لماشاكوس، يبقى ظننا بحكومة
البشير أنها لن تستسلم بسهولة لمخططات الولايات المتحدة، ليس إفراطاً منا في
التفاؤل وحسن الظن بحكومة الإنقاذ، وإنما ارتكاناً إلى تجارب سابقة للإنقاذ أجادت
فيها الالتفاف والدوران حول فخاخ كثيرة أعدت لها.
ونذكر أن حكومة البشير كثيراً ما بدت موافقة على طلبات قدمت لها بشأن
الشريعة أو التعددية الحزبية من جانب الولايات المتحدة أو المعارضة الجنوبية
والشمالية، إلا أنها في الأخير لم تذعن لها.
وهي الآن استغلت حماقة جارانج باحتلاله لمدينة توريت لقلب طاولة
المفاوضات في وجهه، وتعليق مباحثات مدينة ماشاكوس الكينية، وإعلان الجهاد
مجدداً لاستعادة المدن السليبة.
وحكومة البشير تدرك حقيقة ماهية الضغوط الواقعة عليها من قِبَل الولايات
المتحدة المتغولة، وهي لا تريد أن تقف أمام القطار الأمريكي في الوقت نفسه الذي
لا تريد أن تفرط فيه بمكتسبات ثورتها التي بدأت إسلامية، وبين هذا وذاك تمارس
حكومة الإنقاذ لعبتها المفضلة بالهروب إلى الأمام لعل عامل الوقت يكون في
صالحها ...
وفي غياب الدكتور حسن الترابي الذي يجيد السير فوق كل الأوتار يبقى
التساؤل: هل ستنجح حكومة البشير في تجاوز عقبة ماشاكوس؟
كل الأمل في ذلك، وفي تغليب حكومة الإنقاذ لمصلحة المسلمين العليا في
السودان على مصلحة بقائها في السلطة.