للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وعي جديد بالشأن التربوي]

د. عبد الكريم بكار

نلاحظ اليوم على نحو لافت ولادة وعي جديد بالشأن التربوي، والنظر إلى الجهود التربوية على أنها أشبه بالمحاولة الأساسية، والأخيرة لإنقاذ الأمة مما هي فيه، ولا يستطيع المرء إلا أن يبدي سروره حيال هذا التوجه، ولا شك في أن هذا الإدراك لأهمية التربية نابع أساساً من تحسن الوعي العام لدى الناس، وله في بعض الأحيان دوافع فرعية ذات معنى.

وعلى سبيل المثال؛ فإن الحديث عن أهمية التربية، وعن الاهتمام بتنمية الشخصية وإصلاح الشأن الخاص ـ كثيراً ما يكون صدى للإحساس بخيبة الأمل من الدعوة إلى الإصلاح العام، والتنظير للمسائل الكبرى؛ حيث مضى على بدايات النهضة الجديدة ما يزيد على قرن ونصف، ولا نشعر أننا حققنا إلا جزءاً يسيراً مما كنا نطمح إليه، مما ألقى في روع الناس أن يكفوا عن الإيغال في الحديث في أمور لا يملكون أدوات التأثير في إنضاجها وتوجيهها، وهذا الشعور ليس خاطئاً إذا لم يجعل اهتمامنا بالقضايا العامة يتلاشى، مما يولّد المواقف السلبية من كل ما هو مشترك.

أحياناً يشكل الاهتمام بالصغار نوعاً من الهروب؛ حيث اليأس من تحسين أوضاع الكبار. ونجد في بعض الأحيان من يصرّح بهذا. هناك ـ كما ترى ـ نشاط ثقافي ملحوظ يتمحور حول أدب الطفل وثقافته واهتماماته، وصار بعض معارض الكتب يركّز على عرض المنتجات التعليمية المخصَّصة للأطفال، باعتبار أن ناشري الكتاب قد يئسوا من فتح شهية الكبار على القراءة. وهذا شيء يؤسفني أن أقول: إنه حق وواقع.

في دول كثيرة تجد المكتبات العامة خاوية على عروشها إلا من خمسة أو ستة من الفتية الذين تجمعوا حول جريدة يومية، يطالعون فيها أخبار الرياضة والرياضيين، ولو ملكوا ثمن الجريدة، ما دخلوا إلى المكتبة.

هذا يعني أن مستقبل القراءة لدى الصغار قد لا يكون أفضل مما هو موجود اليوم لدى الكبار.

يبدو أن أحوال الروح كثيراً ما تكون تابعة لأحوال البدن، وأن المرء حين يتقدم في السن لا يستطيع أن يحمي نفسه من كلال الروح، وتضاؤل الطموحات. إن تراجع القدرات يعني دائماً تراجعاً في الوظائف. والشعور بانكماش ما يمكن أن يقدمه الإنسان يدفع بالمرء دفعاً إلى الشعور بقلة الأهمية، وتطفله على الحياة. المشكلة ليست في أي شيء طبعي في هذا الشأن أو ذاك، وإنما المشكل في الأوهام التي ننسجها حول ذواتنا وأوضاعنا الخاصة. لا شك أن الإنسان حين يتجاوز الستين يبدأ على نحو غير شعوري بتقليل الاحتكاك بالواقع من أجل حماية ذاته من تفاعلات مزعجة، ومرهقة للجملة العصبية، وهذا يجعل فهم المتقدمين في السن للأحداث الجارية يبدي نحواً من العجز عن المواكبة، وهذا يُوجِد لدينا نوعاً من الصراع بين الأجيال؛ وكيف لا يكون ذلك والشباب يتحدثون عن الحاضر والمستقبل على حين يتحدث المسنُّون عن الماضي بأفراحه وأتراحه، ويفقد المسن فيما يفقد المرونة الذهنية؛ حيث القولبة العقلية المكتملة والبرمجة الثقافية التامة، وهذا يشكل مصدراً آخر للخلاف مع الشباب.

ليس من حق الشيوخ في مجتمعاتنا أن يتوقعوا اهتماماً خاصاً بهم؛ فالأنظار متجهة إلى الشباب العاطلين عن العمل، والذين في إمكانهم أن يقدموا للحياة والأحياء شيئاً جديداً؛ ولهذا فإن على كبار السنّ أن يتعلموا كيف يساعدون أنفسهم، ولعلِّي أبدي هنا الملاحظات الآتية:

١ - يمكن القول إن لكل مرحلة من العمر مُتَعَها وعطاءاتها ومشكلاتها، وقد بعث رجل في الثمانين إلى رجل في الستين رسالة، قال فيها: «قد وجدت أن أجمل مرحلة في العمر هي ما بين الستين والثمانين، وإن لديك الآن من الحكمة والخبرة ما تستطيع من خلاله نفع نفسك وغيرك» . إن إدارة الإدراك على نحو جيد سوف تساعد الإنسان على اكتشاف نقاط القوة، ومكامن السعادة في كل فترة من فترات العمر.

٢ - من المهم للمرء قبل فوات الأوان أن يتعلم مهنة احتياطية، أو يكتسب مهارة خاصة في مجال من المجالات، يشعر أنه من خلالها يشغل نفسه حين يترك عمله الأساسي، كما يستطيع أن يحافظ من خلالها على لياقته النفسية والبدنية، كما يشعر بسببها بأن رسالته في الحياة ما زالت مستمرة.

٣ - إن كبار السن يملكون الرؤية، ومن واجبهم أن ينقلوا تلك الرؤية إلى الأجيال الأصغر سناً، وقد كان علي ـ رضي الله عنه ـ يقول: «رأي الشيخ ولا رؤية الصبي» . إن من غير المفيد في كثير من الأحيان أن يطلب الشباب من الشيوخ تحليل الواقع الذي يعيشون فيه، أو إضاءة بعض نقاطه المظلمة؛ وذلك بسبب اختلاف الأدوات الفكرية بين هؤلاء وأولئك، لكنَّ هناك شيئاً مهماً للغاية يمكن للشيوخ أن يقدموه للشباب، وهو إخبارهم عن الطرق المسدودة، وحقول الممارسة الشائكة، والوسائل البالية ... إن ما يملكه الشباب من حماسة واندفاع كثيراً ما يدفعهم إلى توقع الحصول على مكاسب، وانتصارات ليس هناك أي إمكانية لتحقيقها، مما يجعلهم يركبون المركب الخشن، أو يضيعون الممكن في طلب المستحيل. إن مهمة الخبرة أن توفر الجهد والمال والوقت، وهي موجودة عند كبار السن، لا تسأل الشيخ عما يجب أن تفعله، ولكن سله عما لا ينبغي أن تفعله!

ما دام كل واحد منا يرجو أن يبلِّغه الله مرحلة الشيخوخة في