للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قضايا ثقافية

[مقاربة الحقيقة]

د. عبد الكريم بكار

ركز الله جل وعلا في فطرة الإنسان حب التساؤل والتطلع إلى معرفة

المجهول. وتاريخ الإنسانية حافل بالجهود التي يحاول الناس من خلالها الخروج

من العماء و (اللاتكوّن) . والإنسان إذ يحاول التعرف على الوسط الذي يعيش فيه

يسعى إلى فهم ذاته وتيسير حركته واستثمار طاقاته، وهو في سبيل ذلك مطالب

بأن يعرف الكثير الكثير من الحقائق، وذلك لا يتم إلا بامتلاك المنهج والأدوات

الملائمة. إن مما هو مألوف أن نجد بعض الحقائق يبدي طواعية من غير حدود،

حتى إذا حاولت القبض عليه واستيعابه تأبّى على التشكل على نحو ما نجده في

المادة الهلامية. وهذا ما يخدع كثيراً من الناس؛ حيث يكون قبضهم إذا يظنون أنهم

قبضوا على ما يشبه السراب.

ولعلِّي أسلط الضوء على هذه المسألة المهمة من خلال النقاط الآتية:

١ - إدراك الإنسان للمحسوسات والمجسَّمات أسهل بكثير من إدراكه

للمعنويات والعقليات؛ فنحن نكاد لا نبذل جهداً يذكر في التعرف على لون ثوب أو

مساحة غرفة أو وزن هاتف، أما إذا تحدثنا عن شجاعة شخص أو أثر الرخاء في

حياة شعب، أو أثر اليتم في حياة طفل ومستقبله، فإننا سنختلف اختلافاً بيناً في

ذلك؛ حيث يكون التعامل مع عناصر غير ملموسة، وبعضها غامض جداً يصعب

الحدس به.

دعونا نقول: إن (الحقيقة) ليست ذات جوهر واحد، أو ذات طبقة واحدة،

وإنما هي ذات طبقات عدة، بعضها فوق بعض، وكلما صرنا للبحث في طبقة

أعمق احتجنا في إدراكها والتعامل معها إلى أسلوب جديد أو وسيلة جديدة، ووجدنا

أنفسنا على أرض هشة؛ حيث يشتد النقص في وسائل المعرفة، كما يزداد الاعتماد

على عناصر ذات طابع يكاد يكون شخصياً.

حين نرى (قلماً) فإننا نعرف سماته الظاهرة لأول وهلة؛ فإذا أردنا أن

نعرف (ثمنه) وجدنا أنفسنا بحاجة إلى درجة من الخبرة التجارية وأسعار الأقلام

في السوق؛ فإذا تجاوزنا ذلك إلى معرفة المواد التي صُنع منها القلم ومقدار كل منها

والتقنية المستخدمة فيها وجدنا أنفسنا أمام معضلة كبرى، ووجدنا أن الاقتراب من

ذلك يتطلب وجود مختبرات متطورة وتجارب كثيرة وخبرات متخصصة وراقية؛

ومع كل ذلك ففي الغالب تكون النتائج متواضعة، وإلا لأمكن اقتباس أسرار التقنية

المتقدمة بسهولة. ونحن في كل هذا نتعامل مع شيء محسوس، لكننا تجاوزنا ما

يوقفنا عليه النظر العابر إلى طبقات أعمق من الحقيقة.

٢ - في المسائل الصغيرة والمحدودة نستخدم الحواس والأخبار المتواترة

والمستفيضة، ونصل إلى أحكام قطعية أو شبه قطعية، وذلك كحكمنا بأن زيداً من

الناس موجود معنا في هذه الحجرة، وكإيماننا بوجود بلد اسمه (الصين) وشخص

مضى اسمه: حاتم الطائي أو الذهبي. ونحن لا نستخدم في إدراك هذا النوع من

الحقائق والمعارف مقدمات أو عناصر ذهنية؛ ومن هنا حصلنا على معرفة يقينية

أو شبه يقينية.

أما إذا أردنا الاقتراب من قضية أو حقيقة ذات بنية مركبة فإن الأمر سيكون

مختلفاً جداً. وتكون البنية مركبة إذا ساهم في تشكلها عدد من الروافد المتباينة

أوالمتقاربة؛ وذلك كما إذا أردنا الوقوف على ما جرى في معركة من المعارك،

والآثار الرمزية والاجتماعية والاقتصادية التي نتجت عنها. في مثل هذه الحالة

يكون من غير الممكن فهم هذه الحقيقة أو الحقائق المركبة على نحو مباشر؛ ولا بد

من استخدام وسيط معرفي، يسميه بعض الباحثين اليوم بـ (الإشكالية) . هذه

الإشكالية مكونة من عدد من العناصر، أهمها معتقداتنا، بالإضافة إلى الخلفية

الثقافية العامة أو ما كان يسمى بـ (الأهلية) ثم المعلومات المتوفرة حول القضية

موضع البحث. فالطبيب الذي لا يؤمن بوجود (الجن) أو الذي لا يرى (الإصابة

بالعين) سوف يُبعد كل ما يتعلق بهذين الأمرين عند التشخيص والعلاج لكل

المرضى الذين يراجعونه، والذي خبرته في الاقتصاد معدومة يمكن أن يصدِّق من

يقول له: إن ثروته يمكن أن تتضاعف كل سنة مائة مرة إذا هو دفع ماله إليه.

والذي لا يعرف الاحتياطات التي تقوم بها الدول النووية نحو السلاح النووي فإنه

يمكن إذا رأى قنبلة في صحراء أن يصدِّق من يقنعه بأنها قنبلة نووية، وهكذا.

الإنسان وهو يستخدم هذا الوسيط المعرفي في استيعاب الواقع الموضوعي لا ينتهي

في أكثر الأحيان إلا إلى نتائج ظنية؛ وذلك لأن صلابة الرأي نابعة من صلابة

المقدمات التي ولَّدته. وعند النظر في خلفياتنا الثقافية ومعلوماتنا حول القضايا التي

نحاول فهمها نجد أنها كثيراً ما تكون قاصرة وقابلة للجدل والنقد؛ وهذا ما يجعل

تعاملنا مع القضايا المركبة والمعقدة منطوياً على نوع من (الاجتهاد) الذي يحتمل

الخطأ والصواب.

٣ - كثيراً ما نشكو من نقص المعلومات التي تساعدنا على فهم بعض الأمور،

وكثيراً ما نجد أنفسنا بلا حول ولا طول تجاه الوقوف على بعض الدوافع لبعض

التصرفات، أو تجاه تقدير الآثار المترتبة عليه، أو تكوين صورة جيدة عن واقعة

تاريخية معينة، وفي هذه الحالة نلجأ إلى (التفلسف) ، وليس من المبالغة القول:

إنه ما يمر على الواحد منا يوم دون أن يستخدم في كلامه وتأملاته نوعاً من التفلسف

من أجل التغلب على ما نواجهه من نقص في عتادنا المعرفي.

نحن نستخدم (التعليل) في كثير من الأحيان من أجل جعل تصرفاتنا وأقوالنا

تبدو منطقية ومنسجمة، ونستخدم (القياس) لسد الفراغات التي تركها الاستقراء

الناقص، أو حيث يكون الاستقراء التام مستحيلاً، ونستخدم (التقنين) من أجل

تسهيل التعامل مع الأفكار والأشياء والمواد. والسنن الواردة في القرآن الكريم

والسنن النبوية تهدف إلى مساعدتنا على أخذ العبر والوصول إلى مستخلصات

مركزة حول الماضي والمستقبل. حين نمارس (التحليل) فإننا نرمي إلى تفكيك

المعطيات المعقدة بغية النفاذ إلى جوهرها، وإتاحة الفرصة لأدمغتنا كي تتعامل معها

بكفاءة. وحين نتوقع حدوث بعض الأمور، ونهجس بالمستقبل فإننا نقوم بعملية

استكشاف للعلاقات بين الأسباب والمسببات، ونفعل ذلك بغية إيجاد نوع من

الاستمرارية الشعورية والظرفية، وتوفير منطقة عيش آمنة وملائمة لحركتنا.

إن كل هذه الممارسات الذهنية والمعرفية ما هي سوى طرق لترويض

الحقائق، ومناهزة استيعابها. وهي لا تعدو أن تكون ضروباً من (المقاربة) لما

نبتغيه. وهي جميعاً تعمل خارج منطقة اليقين والصواب القطعي. وفي هذه

العمليات التي أشرنا إليها يقع الكثير من المجازفة والتعسف والتجاوز. وتقدُّم الوعي

الإسلامي ولا سيما على الصعيد الشعبي ضعيف جداً في هذا الحقل؛ بل إن كثيراً من

الصفوة من ذوي الثقافة العليا يسلكون مسلك العامة في بعض الأحيان حيال التعامل

مع معطيات التفلسف والنظر العقلي. مع أن من الواضح أن (الفلسفة) لا تمنحنا

الدقة، ولا تساعدنا على التحديد، وإنما تزيد في درجة شفافيتنا، وتساعدنا

على رسم الاتجاهات والتعامل مع المسائل الكلية.

٤ - في البنية العميقة للمعرفة الإسلامية مرونة فكرية كبيرة، نحن اليوم في

أَمسّ الحاجة إلى التشبع بها وتمثلِها في عمليات الاستنباط والاختلاف والتقويم

المختلفة. ومن الملاحظ أن الفكر الحداثي الغربي يقوم اليوم على ركائز غاية في

التطرف؛ فهو شديد التأرجح بين الشك المطلق واليقين المطلق؛ بين العقلانية

المطلقة وبين جحود أي ثابت من الثوابت، وقد تأثر بهذا كثير من الرؤى

الحضارية المعاصرة في بلاد المسلمين.

أما الرؤية الإسلامية في هذا المجال، فإنها تقوم على (الوسطية) المبصرة؛

فهناك اليقين، والظن القوي والظن الضعيف، والشك القوي والشك الضعيف.

والاقتراب من الحقيقة متفاوت، كما أن التورط في الخطأ متنوع، وحين وضع

الأصوليون قواعد تفسير النصوص لاحظوا هذا المعنى بدقة متناهية؛ ولذا ذهبوا

إلى أن النص قد يكون ظني الدلالة، فيقبل آنذاك التأويل والفهم المتعدد.

ولاحظوا على سبيل المثال أن الأمر قد لا يفيد الوجوب، بل قد ينصرف عند

وجود قرينة إلى الإرشاد أو الندب أو الإباحة، كما أن النهي قد يفيد مجرد الكراهة،

وليس الحرمة. العلاقة بين المقدمات والنتائج والأسباب والمسببات في كثير من

الآداب الغربية تميل اليوم إلى (التصلب) حيث يحاول كثيرون هناك إضفاء معنى

التلازم والاطراد على الارتباط القائم بين حدث وآخر.

وقد بات كثيرون لدينا يستخدمون عبارات الجزم والتأكيد فيما تأبى طبيعته

ذلك. وقد كان من أدب علماء المسلمين أن يقولوا عقب بسط آرائهم واستنتاجاتهم:

«والله أعلم» ليشعروا القارئ باحتمالية ما ذهبوا إليه وعدم استحواذه على اليقين.

وكان من لطيف ما قرروه قولهم: «مذهبنا صواب يحتمل الخطأ، ومذهب غيرنا

خطأ يحتمل الصواب» ولو أنهم قالوا: «مذهبنا صواب يحتمل الخطأ، ومذهب

غيرنا صواب يحتمل الخطأ» لما أبعدوا النجعة؛ حيث يرى بعض الأصوليين أن

كل مجتهد مصيب. ومن أدب المسلم وصفاء اعتقاده أن يقول إذا تحدث عن شيء

مستقبلي: «إن شاء الله» و «بإذن الله» ليذكّر السامعين أن الأمر كله لله،

وليشعرهم بوجود علاقة لينة بين ما نراه أسباباً، وما نراه مسببات. إن كل ما

نصل إليه من مقولات وطروحات يظل أغلبياً يحتمل الكثير من الشذوذ، كما يحتمل

الوهم والغلط؛ وما ذلك إلا لأن إمكانات التجريب في عالم الفكر والشأن الإنساني

عامة محدودة ومعقدة؛ مما يجعل كل براهيننا على ما نقوله ذات وزن نسبي

ومدلولات ترجيحية، ليس أكثر. وإن من أهم سمات الرجل العقلاني أنه لا

يستمسك بآراء وأفكار ليس لديه ما يكفي من البراهين عليها.