خواطر في الدعوة
ولكن أصحابه لم يقوموا به!
محمد العبدة
يروى عن الإمام الشافعي أنه قال في (الليث بن سعد) : (هو أفقه من مالك
ولكن أصحابه لم يقوموا به) ومقصود الشافعي - رحمه الله - أن أصحاب مالك نشطوا في نشر فقهه وعلمه، وسُمع به في الآفاق، ولم ينشط تلامذة الإمام الليث بن سعد لمثل ذلك. ونحن إذا استبعدنا عامل الحسد والمنافسة من معاصري هذا الإمام فقد يكون السبب في ذلك هو غفلتهم عن تقدير مكانة شيخهم أو إهمالاً وضعفاً منهم في نشر آرائه العلمية، وقد يكون للحسد دور أحياناً في إهمال الرجال وعدم الاستفادة منهم، ولكن يبقى مرض الإهمال والغفلة من الأمراض المستحكمة خاصة إذا غلف بغلاف من سوء الفهم للنصوص التي وردت بذم المداحين، ولا يذكرون النصوص الأخرى التي تشعر المسلمين وتنبههم إلى أهمية بعض الصحابة ومكانتهم العلمية أو القيادية حتى لا يقع الإهمال عن حسن نية.
إن الإعلاء من شأن أهل الحق عدا عن أن فيه إزراء وغضاً من مكانة أهل
الباطل، حتى لا يرفع لهم ذكر ولا يقتدى بهم، فهو كذلك مما يشجع الناس على
الالتفاف والاستفادة من الدعاة والعلماء الذين ينتصبون أمثلة للمنهج السوي، كما
كانوا يقولون. (إذا رأيت أحداً يكره مالك بن أنس فاعلم أنه مبتدع) .. والجيل
الذي لا يستفيد من الذين سبقوه ويبني علىما بنوا، ولا يقدر العلماء والنابهين،
سيكون مآل أمره إلى الفشل لأنه سيعود في كل مرة إلى نقطة الصفر، ويعود إلى
الأخطاء ذاتها، وتتكرر تجارب الفشل والنجاح، وقد تبتلى الأمة أحياناً بأمثال
الحجاج بن يوسف الذي آذى الصحابي الجليل أنس بن مالك فكتب إليه الخليفة عبد
الملك موبخاً: (والله لو أن اليهود والنصارى رأت رجلاً يخدم عزير بن عزرا،
وعيسى بن مريم لعظمته وشرفته وكرامته، بل لو رأوا من خدم حمار العزير أو
خدم حواري المسيح لعظموه وأكرموه) .
وعندما أنكر الشيخ أبو محمد العز بن عبد السلام على ملك دمشق ما عزم
عليه من الصلح مع الصليبيين، أخذ وسجن، ثم حمله الملك معه عندما ذهب
لتوقيع هذا الصلح، ووضعه في خيمة انفرادية، وكأنه أراد أن يدلل على (حسن
النوايا) فقال للمفاوضين: هذا الشيخ أنكر علي الصلح معكم فكان جوابهم: لو عندنا
مثل هذا الشيخ لغسلنا قدميه وشربنا غسالتهما.
ونحن لا نطلب الغلو في الرجال كما يفعل النصارى، فهذا من أبعد الأشياء
عن الإسلام، ولكن لا يجوز لنا أن نغمطهم حقهم، أو أن نطمس ذكرهم بكل ما
أوتينا من الوسائل وعن غفلة وحسن نية أحياناً.
ونحن نرى بأعيننا مصداق ما قاله عبد الملك بن مروان وما يفعله الأوربيون
الآن بعظمائهم أو بكل من أسهم في نهضتهم، ولا ينسون أحداً منهم، ولو كان عمله
قليلاً، وهذا يذكرني بإهمال المجلات والصحف عندنا لذكر كبار علمائنا، فعندما
توفي الشيخ محمد الأمين الشنقيطي لم تذكره إلا صحيفة واحدة، وفي زاوية صغيرة
من صفحاتها، وهؤلاء العلماء والدعاة لا يضيرهم عند الله أن يذكرهم الناس أو لا
يذكرونهم، ولكن أليس من حقهم علينا أن نستفيد منهم، وإذا لم نفعل هذا وبخسنا
الناس أشياءهم، أليس في ذلك ظلم لنا ولهم؟ ! ..