للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الباب المفتوح

[صورتان]

عبد الخالق القحطاني

في زمن الغربة تمر على الإنسان لحظات يود فيها أنه لم يكن شيئاً مذكوراً،

أو أنه مات قبل أن تمر عليه تلك اللحظات فكان نسياً منسياً.

والإنسان الذي يملك شيئاً من قلب - ولا أقول يملك قلباً - لَيذوب كمداً

وحسرة عندما تمر عليه مناظر البؤساء في هذا العالم الظالم. هذا إذا كان إنساناً؛

فكيف بالمسلم صاحب الرسالة والهمِّ لهذا الدين؟ !

صورة وقع عليها بصري عندما كنت أتصفح عدداً ماضياً من أعداد مجلة

التايم الأمريكية. التقطت تلك الصورة لطفلة في الشهر الثامن من عمرها، ترقد في

وسط أحد الأحراش في غابة من غابات أوروبا الخضراء، كانت الطفلة ترتدي

معطفاً بنفسجي اللون، ويستطيع الناظر أن يرى بوضوح قلادة مميزة تتدلى من

رقبة الطفلة، أو بالأصح: تتدلى من بقايا رقبة الطفلة! عيناها مغمضتان بإطباق

تام. كانت أشبه بالدمية منها بطفلة، وكأنما جمعت براءة الأطفال كلها لتكون ذلك

الوجه الجميل. لقد احْتُزَّتْ تلك الرقبة النحيلة الهزيلة بيد سفاك محترف.. وحول

جسد الطفلة ترى أجساداً مبعثرة هنا وهناك، وهي ليست إلا أجساد عائلة الطفلة!

لقد كانت العائلة المسلمة تحاول الفرار من جحيم كوسوفا نحو الحدود إلى

مأمن، ولكن بضعة كلاب صربية تنبهت للعائلة واستطاعت اللحاق بها، وبكل

همجية.. أراح كل وغد منهم ذبيحته! وكذا كان مع تلك الطفلة.

عجبت لتلك الصورة.. تُرى ماذا كان شعور تلك الطفلة عندما مرر المجرم

سكينه على رقبتها؟ ! هل كانت تتألم؟ ! ربما لم تتألم؛ لأن الجرح الذي أصابها

وذويها من خذلان مسلمي العالم لهم كان كافياً لأن يفقدها وأهلها كل حس بالألم

والوجع.

وها هنا صورة أخرى لطفل فلسطيني اسمه محمد نشرتها دورية واشنطن

ريبورت.. ومحمد عمره سنتان.. كان محمد يرتدي سروالاً أصفر عليه رقعة

بارزة - دلالة على النعمة! قدماه مغبرتان حافيتان قد غاصتا في أكوام من الحجارة

والأخشاب المحطمة، وقد بدت وراءه كذلك أرتال أخرى من الحجارة والأخشاب قد

ارتفعت برؤوسها المدببة فوق قامتها التي لا تجاوز الذراعين. كان محمد جامعاً

يديه إلى بعضهما ويبكي بحرقة.. حُرقة الطفل الذي كان نائماً مع أمه وأبيه وإخوته

وإذا به يستيقظ على أصوات أناس معهم بنادق يطرقون عليهم الباب بشدة.. ينفتح

الباب.. تبدأ أمه بالصراخ والعويل بجانبه، ويرتفع صوت أبيه هناك محاولاً

التفاهم مع الجنود ولكنهم يدفعون الجميع ويقذفونهم إلى خارج المنزل.. تحين من

الصغير التفاتة إلى منزل عائلته.. ويستطيع أن يرى جرَّافة كبيرة تتقدم بسرعة

نحو جدار منزلهم. ما هذا؟ ! ! سوف تصطدم بالجدار! ! إنها تصطدم به فعلاً..

ثم تعود إلى الوراء وتصطدم به أخرى وثانية وثالثة ورابعة، ومحمد لا يفهم ما

الذي يجري! ! غير أنه لا يزال يُميز صوت بكاء أمه وإخوته وسط هدير محرك

الجرافة.. وفجأة، لا يرى محمد بيتهم، كل الذي تستطيع عيناه أن تراه.. حطام

المنزل المتراكم. الآن فهمت! ! يقولها الصغير في نفسه، لقد نسي لعبته داخل

المنزل، وهكذا فقد ذهبت اللعبة! وانطلق الصبي في بكاء مرير، هو يبكي لعبته

المحطمة، وعائلته التي تبكي منزلهم المدمر.. إن عقل الصغير لم يكن يعي أنهم قد

تحولوا إلى مشردين بلا مأوى، وبذلك انضموا إلى قافلة المنسيين.

عذراً يا قمر كوسوفا الحزين! كم تُذبَحُ كل ليلة ونحن عنك مشغولون!

بـ.... وعذراً يا محمد! فأنت كذلك يجب أن تفهم على الأقل لمرة واحدة أن

أشغالنا هامة ولا تقبل التأجيل. إننا مشغولون بتقليب صفحات «الإنترنت» ،

و «القنوات اللبنانية» ، والبطولات (....) ! !

فاللهم اربط على قلوب إخواننا، وارزقهم نصراً مؤزراً من عندك، ولا

تؤاخذهم بما يفعل كثير منا، والله المستعان.