[معايير العقلاء]
النفع والضرر
أ. د. جعفر شيخ إدريس
أذكِر القارئ الفاضل بأننا نتحدث في هذه السلسلة عن المعايير التي يقرُّ بها ويزن بها الأمور عقلاء الناس، أو كل إنسان في الحال التي يكون فيها عاقلاً. وهي معايير فطر الله الناس عليها؛ فهم عالمون بها قبل ورود الشرع، والشرع يأتي مقراً بها ومؤكداً لها ومستعملاً لها في دعوته الناس إلى الحق، وفي الحِجَاج معهم. واستعمال هذه المعايير في مجادلة الناس مهم؛ لأن الناس وإن كانوا يعترفون بها، بل ويلتزمون بها في كثير من شؤون حياتهم، إلا أنهم كثيراً ما يتناقضون فيأبون الالتزام بلوازمها لأسباب غير عقلانية.
معيار النفع والضرر هو أحد هذه المعايير، وهو معيار يقر به الناس ويستعملونه في حياتهم اليومية: في الأمور المادية، والمسائل الفكرية. فالناس يختارون من الأشياء والأفعال والتصرفات ما يرون فيه نفعاً لهم، ويفضلون ما كان أكثر نفعاً على ما كان أقل منفعة، ويجتنبون ما يضرهم، ويرتكبون أخف الضررين حين لا تكون لهم خِيَرة. يستعملون معيار النفع والضرر هذا في ما يختارون من مطاعم ومشارب وملابس ومراكب وأدوية وآلات وغيرها. إن من أكبر الأدلة على التزام الناس بهذا المعيار أنك لا تجد أحداً يدعو إلى فكرة أو إلى آلة فيقول للناس إنها ضارة بهم، أو أنه لا نفع فيها لهم.
لكن كون الشيء نافعاً أو ضاراً أمر يحتاج إلى علم. ولذلك فإن الإنسان مع التزامه بمعيار النفع والضرر قد يخطئ فيختار بسبب جهله ما هو ضار أو أكثر ضرراً، ويترك ما هو نافع أو أكثر نفعاً. وكثيراً ما يفعل هذا بسبب الدعاية التي يدعوه بها الكذابون والغشاشون من التجار والمشعوذين والسياسيين.
يأتي الدين الحق ليقر هذا المعيار الذي فطر الله الناس عليه، وليستعمله في دعوتهم إلى قبول الحق الذي يهديهم إليه. فإذا كانت دعامة الدين الأولى هي الإيمان بالله، فإنه يذكِّرهم بأن الله ـ تعالى ـ هو الذي خلقهم وهو الذي يرزقهم، وهو الذي خلق لهم من الأشياء ما فيه منفعة لهم كالحديد والفلك والأنعام، وهو الذي يميتهم ويحييهم، وهو المتصف بصفات الكمال من علمٍ بكل شيء، ومقدرة على كل شيء ورحمة وسعت كل شيء. ولذلك كان من الخير لهم أن يعبدوه فيخضعوا له ويطيعوا أمره فيما أمرهم:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: ٢١ - ٢٢] .
{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ * خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * خَلَقَ الإنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل: ١ - ٥] .
ولذلك كان من عدم العقل أن تعبدوا ما لا يملك لكم نفعاً ولا ضراً، ولا يصرف عنكم سوءاً، ولا يمنع عنكم شراً:
{قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلايَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: ٦٦ - ٦٧] .
والإنسان العاقل يُؤْثِرُ النفع الآجل الأكثر على النفع الحاضر الأقل. هكذا يفعل الإنسان حين يدخر، وهكذا يفعل التاجر حين يكف عن البيع العاجل إذا توقع ربحاً آجلاً أكثر. والقرآن الكريم يستعمل هذه الحجة في مثل قوله ـ تعالى ـ:
{كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة: ٢٠ - ٢٥] .
وإذا كان الله ـ تعالى ـ هو القادر على ان يعطيكم ما تعلمون أن فيه منفعة لكم، وهو القادر على أن يقيكم مما تعلمون أن فيه ضرراً بكم؛ فإنه هو أيضاً الذي يدلكم على ما لا تعلمون من أنواع المنافع والمضار.
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: ٢١٦] .
وإذا كان في بعض الأشياء نفع وضرر فإنه أعلم منكم بمقدار نفعها وضررها، وأعدل منكم في الحكم لها أو عليها:
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: ٢١٩] .
\ الجمال:
وهل الجمال معيار؟ أجل! والله إنه لمعيار من أهم المعايير المتفق عليها بين العقلاء. كيف أقول هذا والناس دائماً يرددون القول بأن الجمال من الأمور التي تختلف فيها الأذواق؟ أقول: لكنهم لا يختلفون في تفضيل ما يرونه جميلاً على ما يرونه قبيحاً، ولا يختلفون في جمال كثير من الأشياء وقبح أضدادها. والجمال المتفق عليه بينهم بشمل جمال المناظر، وجمال الأصوات، وجمال الأقوال، وجمال الروائح.
هل رأيت من بشر يبتهجون لمنظر أكوام الزبالة ويكتئبون حين يشاهدون باقات الزهور؟ وهل رأيت من بشر يَطرَبون لنهيق الحمير ويشمئزون حين يسمعون تغريد البلابل والطيور؟ وهل رأيت من بشر يصغون لثرثرة الجهلاء ويصدون عن شعر الشعراء ونثر الأدباء؟ وهل رأيت من بشر يستمتعون بالروائح المنبعثة من مداخن المصانع ويتأذون من عبير العطور؟
بين الناس إذن اتفاق على ما هو جميل وما هو قبيح وإن اختلفوا في بعض التفاصيل. وفي القرآن الكريم ما يدلك على هذا الاتفاق. ألم يقل الله عن بقرة بني إسرائيل إنها تسر الناظرين، فعمم الناظرين ولم يخصهم بناظري بني إسرائيل. وألم يقل ـ سبحانه ـ في معرض المن على عباده بما خلق لهم من بعض الحيوانات:
{وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل: ٥ - ٨] .
فجمع ـ سبحانه ـ في هذه الآيات بين نعمة المنفعة من دفء وأكل وحمل وركوب وبين نعمة الجمال ونعمة الزينة.
وقال ـ تعالى ـ عن الحدائق:
{أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل: ٦٠] .
ففي هذه الآية الكريم ذكر نعمة البهجة فقط، ولم يذكر نعمة المنفعة.
فالجمال كما تدلك هذه الآيات ليس قاصراً على جمال المناظر.. فكما توصف النساء بالجمال فكذلك توصف به مكارم الأخلاق. {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: ١٨] ، {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً} ، [الأحزاب: ٢٨] " {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر: ٨٥] . وكما يوصفن بالحسن؛ فبه أيضاً توصف الأعمال. فالأعمال منها ما هو حسنات يحبها الله، ومنها ما هو سيئات لا يحبها. وكل ما يحدث للناس من أنواع النعم فهو حسنات، وكل ما يصيبهم من أنواع النقم فهو سيئات.
وأعظم الحسن وأجله وأعلاه هو حسن الأسماء والصفات الإلهية.
{وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: ١٨٠] .
ومن أوصافه الحسنى هذه كونه جميلاً ومحباً للجمال.
(*) رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة.