دراسات تربوية
[تعبير الأحلام والاستسلام لخدرها]
سامي بن عبد العزيز الماجد [*]
فيما تعاني الأمة أنواعاً من المآسي والنكبات تتنوع الطرائق في مواجهة هذه
المحن ولكل وجهة هو موليها. والذي يعنينا في هذه الكليمة فريقٌ وجد ملاذه في
تتبع الرؤى والأحلام وتعبيرها بطريقة حالمة أيضاً ثم الاستسلام لِخَدَر هذه الأحلام
وترقُّب تعبيرها.
إنّ شدة المعاناة والضعف، وثقل الهزيمة، وخور العزائم، وغلبة اليأس آلام
محرقة تبعث النفوس التي تعانيها على التعلل بالأماني الكواذب والهروب من الواقع
المأزوم إلى أطياف الأحلام؛ لتجد فيها سلوى عن آلامها وهزائمها وما هي إلا
أوهام لا تغني من الواقع شيئاً. فما أضغاث الأحلام إلا سراب من الأوهام يحسبه
الظمآن ماءً، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً.
وهذا الهروب الموهوم من الواقع المأزوم إلى أطياف الأحلام هو صورة
أخرى من صور الهزيمة النفسية، وشاهد آخر من شواهد غيبة الوعي وسذاجة
التفكير التي إن غطت على العقول، فلا يؤمَن عليها حينئذ التياثها بدجل الشعوذة،
وأساطير الخرافات، ونبوءات أهل الكتاب الكاذبة، ولا تقوم إلا فيمن هان عليه أن
يعيش بغير عقل وازع يزعه عن شطط الضلال والظنون الذي كان يرجع إليه في
أكرم مقاصده وأعزها عليه، ومن هان عليه أن يعيش بغير هذا العقل الوازع
الحصيف لم يكن ليعز عليه أن يكون محلاً لخديعة الأحلام والمنامات، وأكاذيب
النبوءات.
إن الذي يعيش عالم الأحلام الموهوم، فيؤثره على واقع الحياة المشهود لجدير
أن يقول ما لا يفعل، وأن يفعل ما لا يقتضيه عقل صريح، ولا يقضي به شرع
صحيح؛ لأنه يريد أن يحقق بها أحلامه، ويرضي بها وساوس منامه، وإنْ أسْخطَ
بها الرحمن وأجلب على نفسه وعلى غيره المفاسد والفتن؛ فمنهجه وسلوكه يصبح
نهباً لعواطفه وأحلامه، توجهه إلى العمل بمقتضاها، أو تؤثر في منهجه وعمله
إيحاءاتها ودلالتها، فتزج به إلى مخالفة المنهج السوي والهدي المحمود، وتعرضه
لفتن ومحن لم تكن أصلاً في طريقه لولا اغتراره بتلك المنامات والنبوءات.
وما أكثر هؤلاء في أمتنا اليوم الذين غرتهم الأحلام، فاستجرَّتهم إلى مزالق
مهلكة، واجتالتهم عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم، كأنما يريدون أن يعيدوا
تجارب السابقين، وأن يعيشوا حاضراً غير موصول بأي سبب إلى الماضي، فتعيد
المأساة نفسها، وتصبح تجارب الآخرين صدى لتجارب الأولين، وبالمزالق
نفسها ... وهكذا يذهب الاتعاظ والاعتبار مع غياب الوعي وتعطيل
العقول.
وما أشقى الأمة التي لا تحنكها التجارب ولا تزعها الحوادث.
وما زلنا نذكر سلفاً ومثلاً قريباً لهؤلاء اتخذوا الأحلام هادياً ومبشراً ونذيراً،
فأعملوها في منهجهم وسيرتهم؛ فهم يسيرون في ظلها ويتفقدون إيحاءاتها ودلالاتها،
قد اطمأنوا بها، واستناموا إليها لا يبغون عنها مَصْرفاً، فأعقبهم ذلك أن فُتنوا بها
وفتنوا، ورأوا أنهم قد ضلوا يوم جعلوا تلك المنامات هادياً لهم يزاحمون به هدي
الرسول صلى الله عليه وسلم.
وما أُتي هؤلاء يوم استهوتهم الأحلام فأردتهم في المهالك إلا من قلة الفقه في
سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وغلبة العاطفة على العقل.
وهذان شاهدان من سيرته صلى الله عليه وسلم تمنعان الرؤى مهما بلغ صدقها
ومهما حوت من المبشرات، أن يكون لها سبيلٌ إلى توجيه العمل وتصريفه، أو
سلطان على المنهج تحيله عن جادته، أو تشترع له جديداً، أو تصرف رجاله عن
السعي في تحقيق ما تقتضيه مقاصد الشرع وتبليغ رسالاته.
إن نبينا صلى الله عليه وسلم كان قبل النبوة لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق
الصبح، وأما بعد النبوة فرؤياه صلى الله عليه وسلم وحي يوحى، وهو المعصوم
صلى الله عليه وسلم من تلاعب الشيطان، وهو الذي تنام عيناه ولا ينام قلبه، ومع
هذا كله فهذه شواهد من تعامله مع الرؤيا:
أما الشاهد الأول: فإنه لما حشدت قريش رجالها، وخرجت في غزوة أحد
لتثأر لقتلاها ببدر: استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه: أيخرج إليهم،
أم يمكث في المدينة؟ وأخبرهم أنه قد رأى رؤيا، وما رؤياه إلا من الوحي،
فقال: «رأيت بقراً تُنحَر، ورأيت في ذُباب سيفي ثَلْماً، ورأيت أني قد أدخلت
يدي في درع حصينة» .
فتأول البقر بنفر من أصحابه يقتلون، وتأول الثلمة في سيفه برجل يصاب
من أهل بيته، وتأول الدرع بالمدينة.
فكان رأيه ألا يخرجوا من المدينة وأن يتحصنوا بها؛ فإن دخلها المشركون
قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة، والنساء من فوق البيوت.
فبادر جماعة من فضلاء الصحابة ممن فاته الخروج يوم بدر، وأشاروا عليه
بالخروج، وألحوا عليه في ذلك، وقال بعض الأنصار: «والله ما دخلت علينا في
الجاهلية؛ أفتدخل علينا في الإسلام؟ !» .
وأبى أكثرهم إلا الخروج، فقال صلى الله عليه وسلم: «فشأنكم إذن!» .
ثم نهض، ودخل بيته، ولبس لأمته، وخرج عليهم، فقالوا: «أكرَهْنا رسول َالله
على الخروج. فقالوا: يا رسول الله! إن أحببت أن تمكث بالمدينة فافعل. فقال:
ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه» .
فنجد ها هنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اعتمد المشورة ثباتاً منه
على المنهج الذي ارتضاه له ربه، وترك العمل بإيحاءات رؤياه تلك ودلالاتها فلم
تثنه عن الخروج للقتال، ولم تُغرِهِ به.
وإنما دفعه للخروج مشورة أصحابه لما استشارهم، ومشايعة منه لرغبتهم في
الخروج، وترك صلى الله عليه وسلم الرؤيا تدور مدار الإنذار والتبشير.
إنه الثبات الذي لم تصرفه الرؤى عن التزام المنهج الصحيح والانقياد له.
وأين عن هذا الثبات أولئك الذين جعلوا الأحلام والرؤى هادياً لهم لا يريمونه
وإن هداهم إلى ما لا تقتضيه مقاصد الشرع، أو إلى ما يخالف هدي الرسول
صلى الله عليه وسلم.
وأما الشاهد الآخر: فإنه عليه الصلاة والسلام أُري في المنام وهو بالمدينة أنه
دخل هو وأصحابه المسجد الحرام، وأخذ مفتاح الكعبة، وطافوا واعتمروا وحلق
بعضهم وقصّر بعضهم، فأخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، ففرحوا بها
فرحاً عظيماً؛ فهي تلك الرؤيا التي عناها الله بقوله: [لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ
الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ
لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً] (الفتح: ٢٧) .
ثم إنه عليه الصلاة والسلام خرج بأصحابه عام الحديبية إلى مكة يريد العمرة
وما كانوا يشكُّون أنهم سيعتمرون عامهم ذلك تصديقاً لرؤيا رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فلما وقع من أمر الصلح مع المشركين بالحديبية ما وقع، وما اقتضاه
ذلك الصلح من أن يرجع المسلمون عامهم ذلك من غير عمرة على أن يعودوا من
قابل ثقل ذلك على المسلمين كثيراً، وعزَّ عليهم أن يرجعوا إلى المدينة من غير أن
يطوفوا بالبيت الحرام؛ حتى ذهب عمر يراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم في
ذلك حتى قال له: «أوَلستَ تحُدِّثنا أنَّا سنأتي البيت ونطوف به؟ فقال: بلى!
أفأخبرتك أن تأتيه العام هذا؟ فقال: لا. فقال: فإنك آتيه ومطوِّف به» .
ونجد في هذا الشاهد كذلك أن رؤياه تلك لم تكن لتصرفه عن منهجه الذي
ارتضاه لنفسه، وأراد أن يربي عليه أصحابه وأمته، ومن ذلك حسن النظر في
العواقب، وتقدير المصالح، واهتبالها إذا سنحت، فلما رأى النبي صلى الله عليه
وسلم المصلحة في الصلح رضي به وانقاد له غير آبه بشيء، ولم تكن الرؤيا هي
همه، ولا غاية يسعى لتحقيقها، بل ولم تكن أفعاله خاضعة لدلالتها ومقتضاها،
وإنما ترك تأويل رؤياه يأتي تباعاً في الطريق الذي نهجه والتزم سلوكه.
وهكذا أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم الرؤيا في حدودها ومكانها اللائق بها
فهي عنده مُبشرة لا موجهة.
هذا، ورؤياه عليه الصلاة والسلام جزء من الوحي؛ فكيف برؤيا غيره التي
ربما اختلطت بأضغاث الأحلام وتحديث الشيطان! ! !
وإذا كان من الخطأ في المنهج اتخاذ الرؤى هادياً ودليلاً يترسَّم به المرءُ
الطريق، ويتبصر به الحق، فإن من الخطأ كذلك أن يسارع المرء إلى التصديق
بكل ما يحكى من الرؤى، أو يغترَّ بتأويلها؛ لا سيما في هذا الزمان الذي رق فيه
الإيمان، وكثر فيه الكذابون المتفيهقون، وأصبح اشتغال الناس بالرؤى وتأويلها
أكثر من اشتغالهم بالعمل الذي يواجهون به حقائق الواقع الأليم.
إننا لمن الموقنين بقوله صلى الله عليه وسلم: «الرؤيا الصالحة جزء من
ستة وأربعين جزءاً من النبوة» متفق عليه.
وبقوله صلى الله عليه وسلم: «لم يبقَ بعدي من النبوة إلا المبشرات» ،
فقالوا: وما المبشرات؟ فقال: «الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو تُرى له» متفق
عليه.
ولكننا نرتاب كثيراً أن تكون كل المرويات من أحلام الناس اليوم هي من
جملة تلك الرؤى الصالحة المبشرة.
فثمة أمور تدفعنا للتريث كثيراً، وتبطئنا عن المسارعة إلى تصديق كل ما
يروى من الأحلام وبما يحكى من تأويلها.
الأمر الأول أن يكون المرء الذي نسبت إليه تلك الرؤيا كاذباً، قد تحلَّم بحلم
لم يره. وهذا احتمال وارد، والوعيد في ذلك شديد. يقول صلى الله عليه وسلم:
«من تحلَّم بحلم لم يره كُلِّفَ أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل» رواه البخاري.
ثم إذا فرضنا صحة الرؤيا وصدق صاحبها؛ فثمة أمر آخر يرد عليها، وهو
كون ذلك الحلم من قبيل حديث النفس؛ فإن بعض المنامات تتأثر بالهموم الشخصية
والحالة النفسية؛ وقد أثبت الرسول صلى الله عليه وسلم هذا في قوله: «الرؤيا
ثلاث: فالرؤيا الصالحة بشرى من الله، والرؤيا من تحزين الشيطان، والرؤيا مما
يحدِّث به الرجل نفسه» أخرجه الترمذي بسند صحيح.
ثم إن سلمنا أن الرؤيا ليست من حديث النفس، فثمة وارد يمنع أن تستخفَّنا
تأويلات تلك الأحلام فنسارع إلى تصديقها واستظهار الغيب بها.
وهذا الوارد هو احتمال خطأ المُعبِّر؛ فليس لزاماً أن يوافق تأويله عين
الحقيقة؛ لأن تأويله اجتهاد يحتمل الخطأ والوهم، كما يحتمله كل اجتهاد.
وقد أخطأ في تأويل بعض الرؤى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فأوْلى أن يخطئ غيرهم ويهم.
ومن ذلك أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: إني رأيت
رؤيا. ثم قصّها عليه في حديث طويل، فقال أبو بكر: يا رسول الله! بأبي أنت،
لتدعني فأعبرها. فأذن له، فعبرها، ثم قال: فأخبرني يا رسول الله! أصبتُ أم
أخطأت؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «أصبتَ بعضاً، وأخطأت بعضاً» .
وقد وجدنا شيئاً من تأويل المعبِّرين اليوم تخالف سنناً ربانية لم تخرمها قرون
متطاولة، أفيخرمها حلم حالم؟
وقد تسامع الناس في هذه الأيام برؤى عُبرت بنصر من الله وفتح قريب يقع
في فلسطين محدد باليوم والشهر في مدة قريبة جداً! !
وإننا لنوقن أن ذلك ليس على الله بعزيز، فما كان ليعجزه من شيء في
السماوات ولا في الأرض. ولكن أين نحن من سنن الله التي ذكّرنا بها، وأمرنا أن
نتدبرها؟ !
أين نحن من قوله تعالى: [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ]
(الرعد: ١١) ، وهذه سنة جارية في الخير والشر جميعاً. وأين نحن من قوله
عز وجل: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ]
(محمد: ٧) مع قوله [وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ]
(محمد: ٣٨) ؟ !
ولسنا في شك من أن الله سينصر دينه ويُعلي كلمته، ولكن هل نحن بواقعنا
اليوم أهل لاستحقاق هذا النصر والتمكين؟ وهل تحديد يوم النصر ذلك بيوم بعينه
هو مما تحتمله تلك الرؤى بصورها ومدلولاتها؟
ألا فلنربأ بأنفسنا وعقولنا عن هذا الإسفاف والاستخفاف، والقصدَ القصدَ في
الاشتغال بالرؤى والانسياق لتأويل المعبرين؛ فإنه ليس يجدينا الآن الفزع إلى
المنامات والأحلام، ومحاولة تنزيلها على الواقع.
إنما الذي يجدينا تلك الحلول الواقعية العملية التي تأخذ سنن الله الثابتة
وتستهدي بنورها، والتوجه إلى الإيجابيات من الأعمال التي تستفرغ التفكير
والجهد؛ وإن ذلك لجدير أن يطرد عنا هذا الوهم والانخداع.
(*) محاضر بكلية الشريعة الرياض.