قضايا دعوية
كلمات قليلة حول المنزلة العلمية
للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله تعالى
فضيلة الشيخ الدكتور:
عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين [*]
لقد تعرفت على الشيخ محمد رحمه الله في عام ١٣٨٠هـ وهو إذ ذاك في
أول سن الكهولة؛ وذلك بعد وفاة شيخه عبد الرحمن بن سعدي بنحو سنتين،
ولمست منه في ذلك العام الأهلية العلمية، والتأثر بشيخه عبد الرحمن، وكثرة ما
يذكره ويشير إلى اختياراته وإفادته مادحاً له ولمسلكه وطريقته، ثم اشتهر بعد ذلك
ذكر الشيخ محمد، وانتشرت مؤلفاته ومحاضراته وكثرة معلوماته، وتوافد طلبة
العلم للاستفادة من علومه والتزود من فوائده عللاً بعد نهل.
وقد اشتهرت كتبه وتعددت طبعاتها في حياته؛ حيث ألَّف قديماً في مواضيع
متعددة، فكتب في المناهج الدراسية ما اعتمده طلاب المراحل في المعاهد العلمية
والجامعات في العقيدة والفرائض والمصطلح وغيرها مما سهل الطريق للمعلمين؛
بحيث يقتصرون على تلك الرسائل التي لخص فيها الموضوع وجمع أطرافه
بأسلوب واضح وعبارة كافية لفهم الطلاب وكذا لغيرهم ممن يقصد الاستفادة؛
فتراهم بعد إنهاء المراحل يحتفظون بتلك الرسائل للشيخ، ويرجعون إليها،
ويتناقلون العبارات منها للاحتجاح والاستدلال الذي يقنع به طالب الحق.
وهكذا كتب رسائل في مسائل خاصة تحتاج إلى بيان وإيضاح لما يقع فيها من
الاشتباه والاختلاف كسجود السهو وزكاة الحلي والدماء الطبيعية في الحيض
والنفاس ونحوها كثير، يبيّن فيها ما ترجح عنده، ويقرن اختياره بالدليل والتعليل.
ولقد صارت رسائله واختياراته مرجعاً لكثير من الناس من علماء ومبتدئين؛
بحيث يحتجون بها عند الجواب، ويقنعون بها من يطلب الصواب، وفيها الدليل
على عمق معرفته، وغوره في دقائق العلوم، واستنباطه للفوائد والتعليلات والحكم
والمصالح التي تترتب على الأحكام.
وهكذا له مؤلفات في المواعظ والنصائح، كوظائف الأيام وتسمى: (مجالس
شهر رمضان) ، وكالخطب التي ألقاها في مسجده وطبعت قديماً، وقد ظهرت النية
الصالحة منه في تلك الخطب ونحوها من عشرات السنين؛ بحيث يستفيد منها
الخطباء والمرشدون والواعظون والطلاب والعلماء، وبحيث يتناقلها العامة
والخاصة في المجالس والمساجد والسفر والإقامة؛ مما يدل على تقديرهم للشيخ
واعترافهم بفضله واقتناعهم بقوله وعدم الاعتراض على اختياراته إلا من أقل القليل،
وهكذا مسلكه في التدريس والإلقاء؛ فقد وقف نفسه وأمضى جل وقته في المجالس
العلمية وإلقاء الدروس على طلاب العلم من مختلف البلاد؛ بحيث توافدوا إليه من
داخل المملكة وخارجها بعد أن اشتهر بالبذل والعطاء السخي مما أعطاه الله من
المعرفة والإفادة وحسن التلقي والسرور بالمستفيدين، والفرح بحَمَلَة العلم وطالبيه
مما يشجع على الإقبال منقطع النظير والإصغاء إلى كلام الشيخ والإنصات
والاستماع له؛ حيث صارت بلدته مرتعاً خصباً لمرتادي العلوم الشرعية، وأصبح
مسجده جامعة إسلامية؛ فهو يؤم المصلين فيه الصلوات الخمس، ثم يجلس غالباً
بعد كل وقت، وتكتظ مجالسه بالطلاب والمستمعين من كبير وصغير، وتعظم تلك
الحلقات والمجالس التي يقيمها في ذلك المسجد، وكلهم مصيخ إلى ما يتلفظ به مع
تلقي أكثرهم للكلمات حفظاً وكتابة وتسجيلاً وتعليقاً.
ولما رأى ما حوله من الإقبال والتقبل وتوافد الغرباء من الداخل والخارج
حرص على ترغيبهم وتلبية طلباتهم وتمكينهم من التلقي، فسعى في قرارهم
واستمرارهم، وشفع لهم عند ذوي الجِدَة ومحبة الخير في إعداد سكن لهم مريح،
ولقد تجاوب معه الكثير من المواطنين الأثرياء وغيرهم، وتبرعوا بعمارات ودور
ومساكن تناسب أولئك الطلاب الراغبين، ووجد من يتكفل بالنفقة والكسوة
والحاجيات والكماليات مما كان له أثر فعال في الإقبال على الاستفادة والتلقي للعلوم
الشرعية التي ألهمه الله تعالى أصولها وفروعها، وفتح عليه ما يتمكن به من
إيضاح المعاني وإقناع السائل مما يكون به محل ثقة وتقبل وقناعة بما يقول؛ حيث
أصبحت علومه وفتاواه مرجعاً للقريب والبعيد يتناقلها الخاص والعام، ويرجعون
إلى علومه واختياراته لما جعل الله له في القلوب من المودة والمحبة، ولما اشتهر
به من سعة في المعلومات وقدرة على حل المشاكل والإجابة على ما يعرض عليه
من معضلات المسائل.
وهكذا كان منزله عامراً بالراغبين والمستفيدين؛ فقد جعل وقتاً يومياً
وأسبوعياً يجلس فيه للطلاب الراغبين فيتوافدون إليه زرافات ووحداناً، ويتحلَّقون
أمامه يتلقون منه النصائح والإرشادات والإجابة عن الاستفسارات والأنس بمشاهدة
ذلك الشخص المحبوب؛ فالكل يأنسون بلقائه ويتلذذون بالإصغاء إلى كلماته النيرة؛
فهو يظهر لهم الفرح والسرور ويتلقاهم بصدر رحب، ووجه منبسط؛ فلا يظهر
منه ملل ولا سآمة، ولا يتبرم من إلحاح أو تكرار أو زيادة استفهام؛ فهذه الأخلاق
مما صار بها محبوباً موقراً يعترف بعلمه القريب والبعيد والعالم والعامي والذكر
والأنثى.
ومما يقوم به من التعليم الإجابة عن الأسئلة الهاتفية التي تتواصل طوال
الزمان ليلاً ونهاراً من داخل المملكة وخارجها، فلو فتح الهاتف كل وقت لاستمرت
المكالمات دون انقطاع، ولقد شاهدته في منزله يتولى الإجابة بإيضاح وبيان،
ويتحمل ما يصدر من أولئك السائلين من التكرار والاستفهام، فلا يظهر منه ملل
ولا ضجر، ولا شدة في الرد، ولا قطع للكلام، وقد حدد للمكالمات أزمنة
مخصصة زيادة على استغلال أوقات الفراغ، حتى ولو كان مع أهله وبين أولاده؛
فإنه يستغل ذلك ويفتح باب المكالمات إلى أن يبدو له ما يشغله من الواجبات
الأخرى.
وقد جعل الله في قلوب الأمة الإسلامية له مودة ومحبة واحتراماً وتوقيراً؛
فلذلك كانوا يحرصون على سؤاله ويتحاكمون إلى قوله، ويقنعون بجوابه ولو خالف
ما يعرفونه وما ألفوا عليه آباءهم وأسلافهم، وترى كل من شك في أمر أو جهل
حكماً يحرص على سؤال الشيخ ابن عثيمين ويتقبل فتواه، وتسمع كثيراً في
المجالس المعتادة ذكر أقواله على الألسن، فيتناقل العامة والخاصة فتاواه واختياراته
معترفين له بالفضل معجبين بقوله مع اعتقاد أنه على الصواب.
ثم إن الشيخ رحمه الله يقع له اختيارات وترجيحات مخالفة للمشهور من
مذهب أحمد ولما يقرره المشايخ المشهورون في هذه البلاد الذين يقتصرون على
المنصوص في كتب فقهاء الحنابلة، وحيث إنه تتلمذ في أول تعلمه على الشيخ عبد
الرحمن السعدي رحمه الله فقد تأثر باختيارات شيخه وطريقته، فاشتغل بكتب شيخ
الإسلام ابن تيمية وابن القيم وانتفع بما استفاده من تلك العلوم التي تحويها تلك
المؤلفات، ووقع له اختيارات وافق فيها شيخ الإسلام وغيره، وفيها شيء من
التساهل والتوسع الذي يخالف ما يفتي به كبار مشايخنا الذين يسلكون باب الاحتياط
والخروج من الخلاف، ولكنه رحمه الله يدعم أقواله بالأدلة الصحيحة والتعليلات
القوية بما يحصل به القناعة والتقبل لمن قصده الصواب، ومع ذلك فإن مشايخه لا
يعنفونه ولا يعيبون أقواله المخالفة لهم لعلمهم أنه قد سبقه إلى ذلك جهابذة أجلاء لا
يلحقهم طعن ولا عيب، ولأنه مجتهد ولكل مجتهد نصيب؛ فمما تساهل فيه مسائل
تتعلق بالمسح على الحوائل والجوارب، ورخص السفر، والإذن في بعض ما عده
الفقهاء من المفطرات، ونحو ذلك.
ومما احتاط فيه القول بوجوب زكاة الحلي، وطواف الوداع للعمرة، وغير
ذلك مما يعتمد فيه النصوص ويعمل فيها بما ظهر له مما هو مدوَّن في كتبه ومؤيد
بالأدلة التي ظهر له صحتها ووضوح دلالتها.
وقد اشتهر بكثرة المؤلفات رغم كثرة ما يقوم به من الدروس الرسمية
والحلقات العلمية، وقد طبعت كتبه قديماً وحديثاً وتداولها طلاب العلم، واستفاد منها
الكثير ونفع الله بها من أراد به خيراً، وهكذا سعى كثير من طلابه في تفريغ
الأشرطة التي سجلت فيها دروسه ومحاضراته العلمية، وحرصوا على نشرها رغم
كثرتها؛ حيث قد شرح زاد المستقنع كاملاً، وطبع أكثر شرحه، وشرح كتاب
التوحيد، والعقيدة الواسطية، ولمعة الاعتقاد، وبلوغ المرام، ورياض الصالحين،
والمنظومة الرحبية، وغير ذلك من المتون والشروح، وفي شرحه من الإيضاح
والبيان العجب العجاب، ومن ذكر ما يمكن افتراضه من المسائل والوقائع ولو
كانت نادرة الوقوع، وكذا أحكام ما تجدد ووجد مما لم ينص عليه العلماء السابقون
أو بينوه باختصار وبدون تعليل.
وقد تتلمذ عليه الكثير من طلبة العلم الذين برزوا في الفهم والقوة، وانتفعوا
بما تلقوه عن شيخهم وبما فتح الله عليهم من الفهم والإدراك للمعاني؛ فكانوا محل
ثقة شيخهم بحيث وكَّل إلى الكثير منهم جمع علومه وترتيبها وتنسيقها وتصحيحها
ونشرها ليستفيد منها القريب والبعيد، وأنجز منها في حياته كمية كبيرة اطلع عليها
وأقرها جملة وتفصيلاً، وقد وثق بأولئك الذين اشتغلوا بتصحيح كتبه وطبعها، مع
أنه لا يتسع وقته لسماع جميعها؛ ولذلك قد يقع فيها شيء من الأخطاء التي يحمل
عليها فهم الخطأ، وتغتفر في جانب ما معها من الفوائد الجمَّة.
وبكل حال فقد أورث رحمه الله علماً نافعاً يستمر له أجره، ويصل إليه ثواب
علمه بفضل الله تعالى، وينتفع به من بعده، ويدعو له كل من استفاد من علمه؛
فرحمه الله تعالى وأكرم مثواه، وجعل جنة الفردوس مأواه، والله أعلم، وصلى الله
على محمد وآله وصحبه وسلم.
(*) أحد العلماء الأجلاء، والفقهاء النبلاء، عضو الافتاء في السعودية سابقًا.