[الأقصى وغزة..]
والانتفاضة الثالثة
د. عبد العزيز كامل
بدا متناقضاً ومربكاً، مشهد الاختلاف والتباعد بين موقف رمز الهمجية الدموية شارون، ومواقف أفراخه من المستوطنين المتدينين في الآونة الأخيرة؛ فبينما يصر شارون على المضي في مشروعه للانسحاب من غزة وتفكيك المستوطنات فيها، يواصل المستوطنون المتشددون معارضتهم لهذا الانسحاب وذلك التفكيك، مزايدين على زعيم الإجرام في إجرامه، إلى الحد الذي دفعهم إلى التهديد باقتحام المسجد الأقصى لمنع هذا الانسحاب، فما هي القصة؟ وما الذي تخفيه هذه المواقف المتعارضة؟ وإلى أي حدٍ يمكن أن تنتهي المنافسة بين الفريقين فيما يسمونه:
- شارون وما وراء الانسحاب:
من المعروف أن غزة مثلت كابوساً مؤرقاً للحكومات الإسرائيلية، منذ الاستيلاء عليها من الإدارة المصرية بعد حرب النكسة عام ١٩٦٧م، فقد ظلت عبئاً على المحتل الذي لم يتمكن لشدة كثافتها السكانية من تأمين وجود يهودي كبير فيها مقارنة بالضفة الغربية، مع اضطرار إدارة الاحتلال لتولي أعباء الخدمات السكانية والأمنية في البلدة، وقد زاد انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الأولى منها عام ١٩٨٧م اليهود غيظاً على غيظ، حتى إن الهالك إسحاق رابين، اشتهر عنه أنه قال: «أريد أن أستيقظ يوماً فأرى غزة وقد غرقت في البحر» ! وقد ترجم هذا الغيظ بالتعامل الفظ مع «أطفال الحجارة» الذين انطلقت بهم تلك الانتفاضة، فأمر باتباع سياسة «تكسير العظام» مع من يقبض عليه منهم، ولكن استعصاء غزة انتقل بعد رابين إلى النتن بنيامين الذي تلقى نصحاً مباشراً من أبرز زعماء اليهود في أمريكا (الذين تسموا فيما بعد بالمحافظين الجدد) بأن يطبق خطة (الانفصال التام) بين الأراضي (الإسرائيلية) والأراضي الفلسطينية، ولم يجد باراك بعد نتنياهو حلاً للمشكلة، حتى جاء شارون، فأعلن في المؤتمر الصهيوني في ١٨/١٢/٢٠٠٣م أن لديه خطة للانسحاب الأحادي من غزة، من دون تنسيق مع الفلسطينيين، على أن يكون هذا الانسحاب مع نهاية عام ٢٠٠٥م، بحيث تبدأ حكومته في تفكيك ٢١ مستعمرة في غزة على أربع مراحل، مع تعويض المغتصبين من المستوطنين بمبلغ ٣٠٠ ألف دولار لكل أسرة، في حالة تنازلها (طواعية) عن سكنها الممنوح لها في الأرض المغتصبة، أما إذا لم تتنازل (طواعية) فستكون التعويضات أقل!!
وقد جاء إعلان شارون عن خطته بعد أن أرغمت الانتفاضة الثانية أنفه، حتى أيس من إجبارها على التسليم بالهزيمة بالرغم من سياسات الإجرام والتنكيل المتعدد الوسائل ضد الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة، وهو ما عايشه العالم ورآه على الهواء مباشرة طوال الأعوام الثلاثة الماضية.
لكن شارون المتترس بالدبابات والطائرات والمصفحات، لم يوهن عزم الشرفاء العزل في الانتفاضة الثانية، حيث كبدوا الإسرائيليين من القتلى خسائر لم يكونوا يتوقعونها على المستوى البشري والاقتصادي والأمني، وقد كانت حيلة شارون لمواجهة ذلك أن اجتاح الضفة الغربية اجتياحاً شاملاً، إلا أنه لم يستطع أن يفعل ذلك مع غزة، وخاصة أن الحرب الأمريكية على العراق، تطلبت ضغطاً أمريكياً عليه بألاَّ يزيد من اشتعال المنطقة بحرب أخرى تربك الخطط الأمريكية. لم يعد أمام شارون إلا أن يلتف على الهزيمة ويحاول تحويلها إلى نصر، مثلما فعل أثناء حرب رمضان/أكتوبر ١٩٧٣ فيما عُرف بـ (ثغرة الدفرسوار) عندما التف بقواته حول الجيش المصري الذي دخل سيناء، فغيَّر مجرى الحرب وادعى الإسرائليون النصر.
أما (الثغرة) التي يريد الآن أن يُخرج بها صورته من إطار الهزيمة؛ فهي أن ينسحب من غزة تاركاً بذلك كتلة من المشكلات في وجه السلطة الفلسطينية والمقاومة الفلسطينية وبعض الأنظمة العربية، وبخاصة مصر والأردن ـ على ما سيأتي ـ إضافة إلى تحويل هذا الانسحاب إلى مفتاح لحل العديد من المشكلات التي تواجهها حكومته داخلياً وخارجياً، وقبل استعراض تفاصيل ذلك؛ من المهم أن نشير هنا إلى أن انسحاب شارون المزمع من غزة، لا يعني أنه ومن يمثله من اليهود قد تنازلوا عن (حق) دولة اليهود في تلك المنطقة من «أرض إسرائيل» المزعومة، لا ... ؛ فاليهود مجمعون على أن كل أرض فلسطين، بل كل ما حولها من النيل إلى الفرات، هو حق ديني وتاريخي لهم، يمكن أن ينزلوا فيه عند حد الانسحاب (التكتيكي) أو (المؤقت) ، دون أن يتنازلوا عن أحقية ملكتيها، ويستوي في هذا غزة، أو الضفة الغربية التي يسمونها (يهودا والسامرة) أو سيناء التي غادروها مغادرة العازم على الغدر بها والعودة إليها في ظل الإصرار على نزع السلاح منها وعزلها عن التطور والعمران.
- حصاد مر ... وحصار مراد:
يريد شارون بخطته الخبيثة أن يوجد حلاً لعدد من المشكلات التي تواجه حكومته، ليُحل في مقابل هذا الحل عدداً من العقد والمشكلات الأخرى للطرف العربي، ممثلاً في الشعب الفلسطيني وسلطته ومقاومته، ثم الأطراف العربية الأخرى التي لا تزال على علاقة بإطار الأزمة. ومن خلال مراقبة تطور الأحداث وطبيعة السفاح في التعامل معها، يمكن رصد المشكلات التي تدبر للطرف العربي والفلسطيني من خلال خطة الانسحاب فيما يلي:
- تقليص آمال الفلسطينيين في دولة، إلى المستوى الأدنى الذي يجعلها محصورة في غزة بدلاً من شمولها لجميع الأراضي التي احتلت عام ١٩٦٧م وفي مقدمتها القدس، وحرمان هذه الدولة ـ إن أقيمت ـ من معظم أراضي الضفة الغربية التي يسير شارون في مخطط آخر خاص بها، وهو ابتلاع المزيد منها بتوسيع المستوطنات. هذا مع العلم بأن اليهود يسيطرون على ٤٢% من أراضي غزة بموجب اتفاقية أوسلو وقد خصصوها للمستوطنات وللقواعد العسكرية والمناطق العازلة.
- إغراق هذه المدينة المأهولة بالمزيد من دوامات الأزمات السكانية المدنية، بعد تخلي السلطات الإسرائيلية عن إدارتها، لتترك قطاعات الكهرباء والماء والتموين لإدارة السلطة الفلسطينية التي تتحكم الحكومة الإسرائيلية في التحويلات والمعونات المالية المرصودة لها عربياً ودولياً، ولتكون هذه الأزمات والمشكلات بمثابة حصار جديد يشكل عوامل ضغط إضافية على سكان غزة الذين يزيد عددهم عن مليون نسمة على مساحة ٣٦٠ كم٢، بواقع ٥٦٧٥ شخصاً للكيلو المربع الواحد، بينما يعيش سبعة آلاف مستوطن في الـ ٤٠% الباقية المسلوبة من غزة، والغرض من هذا التضيق دفع سكانها للهجرة بحسب مخطط (الترانسفير) أو التهجير، خاصة بعد تشديد الحصار باستكمال الجدار العازل.
- استخدام الضغوط المعيشية على سكان غزة لإشغالهم عن المقاومة من جهة؛ وتحويل طاقاتهم إلى ساحة الصراع الداخلي مع السلطة نفسها من جهة أخرى بفعل تزايد الأعباء المعيشية التي أوصلت نسبة البطالة إلى ٧٠% وقد تزيد الضغوط الأمنية من هذه المعاناة، وبخاصة عندما تتسلم السلطة مهمة حماية (إسرائيل) من الأنشطة الجهادية الفدائية كشرط لبقائها وبقاء رموزها.
- إضاعة المزيد من الوقت في الترتيبات الأمنية وإجراءات الانفصال، لإشغال الفلسطينيين والعرب بالانهماك في تفاصيلها، ليتفرغ شارون وحكومتة لإيجاد المزيد من الحقائق الجديدة على الأرض كالاستمرار في استكمال الجدار، والمضي في عزل القدس الشرقية، وبذل المزيد من تهيئة الظروف للسيطرة على أرض المسجد الأقصى، وابتلاع مساحات أخرى من الأراضي الفلسطينية وإقطاعها لقطعان للمستوطنين.
- صرف الهمم عن التحدث في موضوع عودة اللاجئين من خلال حشر الوجود الفلسطيني في غزة، لتكون (دولة غزة) ـ في حال قيامها ـ أقرب إلى السجن منها إلى الحضن الذي يغري الملايين من اللاجئين بالعودة إليها من الأقطار المجاورة، فغزة باكتظاظها ومشكلاتها لا تحتمل أن يضاف إليها أربعة ملايين لاجئ من الخارج أو نصفهم أو ربعهم، حتى لو تفاهمت أي حكومة إسرائيلية مع السلطة الفلسطينية على ذلك.
- إيقاع الأطراف العربية «المعنية» بما تبقى من القضية الفلسطينية في شراك الخداع بالتسوية مرة أخرى ليقوموا بدورهم بخداع الشعوب، ريثما تتحول هذه التسوية إلى تصفية لا تبقي من القضية ما يمكن أن يجري التفاوض حوله (كما قال إسحاق شامير من قبل) ، وقد ظهرت أمارات ذلك في مسارعة الكثير من الأنظمة العربية إلى (إعادة الاعتبار) إلى شارون بالمصافحات والاتصالات وبدعوته إلى العديد من المؤتمرات والمنتديات، فيما يشبه الاحتفاء بإنهاء الانتفاضة على يديه.
- إفقاد مصر ما تبقى من رصيد قيادي لها في القضايا العربية، بعد تحويل دورها إلى مجرد منسق أمني مشارك في مقاومة المقاومة، لحماية (إسرائيل) ؛ حيث تتجه الأمور ـ برغبة من شارون ـ نحو إسناد دور بارز للإدارة المصرية في العمليات الأمنية في غزة، على الأقل عن طريق تدريب عناصر الشرطة الفلسطينية التي ستتولى مطاردة الإسلاميين هناك. وهنا تصبح مصر ـ كما قال أحد المعلقين الإسرائيليين في صحيفة (هآرتس) الإسرائيلية ـ: (الشريك الجديد الجاد لشارون) !
- إحداث فتنة بين مكونات الشعب الأردني، الذي يمثل الفلسطينيون نسبة عالية فيه؛ وذلك عندما توكل إلى الحكومة الأردنية مهمة الاشتراك في الحفاظ على الحالة الأمنية في الضفة الغربية لصالح إسرائيل، أسوة بما ستقوم به مصر في غزة، وهذا ما سوف يثير حفيظة الفلسطينيين في الأردن كلما ازداد الدور الأمني الأردني فعالية، وهو الأمر الذي قد يتطور إلى تحويل ما كان يسمى بالصراع العربي الإسرائيلي إلى صراع فلسطيني عربي يتصارع فيه الفلسطينيون مع الأردنيين والمصريين داخل فلسطين.
أما المشكلات التي يريد شارون أن يدفعها عن نفسه وعن حكومته، والمكاسب التي يريد جلبها للإسرائيليين من هذا الانسحاب فهي:
ـ التخلص من الكُلفة الباهظة للاستمرار في احتلال غزة؛ حيث إن تلك التكلفة في ظل الكثافة السكانية الفلسطينية هي أكبر بكثير من مكسب الإسرائيليين من بقاء بعض المستوطنات هناك، ولعل من أسباب إصرار شارون على أن يكون الانسحاب من طرف واحد هو أن يربك السلطة الفلسطينية بتكاليف الإدارة ومشاكلها جملة واحدة، دون أن يطالبه (شريك السلام) ببعض استحقاقات هذا السلام.
ـ توظيف شارون للانسحاب لإرضاء مؤىديه وإسكات معارضيه؛ حيث إن اليسار الإسرائيلي المعارض له يطالبه بالحد من الاستيطان، بينما يطالبه اليمين بالمزيد من المستوطنات فيما يسمونه (أرض إسرائيل) . ولإرضائهما معاً يتجه إلى تفكيك مستوطنات غزة بيد ليبني بدلاً منها مستوطنات في الضفة الغربية باليد الأخرى، وسيسعى بذلك لإغراق الضفة بالمستوطنات لتكريس استيلاء اليهود عليها كما فعلوا في القدس الشرقية.
ـ سيعطي إخلاء غزة من المستوطنين ـ بحسب خطة شارون ـ فرصة للإسرائيليين لكي يحكموا الحصار الأمني عليها، ويزيدوا من أعمال المراقبة والتضييق ضد أهلها دون خوف من الرد باستهداف المستوطنين؛ فالأخبار تتسرب عن خطط للمراقبة الأمنية الإلكترونية من خلال المناظير وطائرات التجسس والرادارات التي تتيح لدولة اليهود إمكان السيطرة الأمنية من الجو، لتترك للسلطات الأمنية الفلسطينية والمصرية والأردنية السيطرة على الأرض.
وللأسباب السابقة وغيرها مما يمكن أن تظهره الأحداث؛ فإن غالبية الشعب اليهودي تؤيد خطة الانسحاب من غزة، حيث أظهرت الاستطلاعات أن ما لا يقل عن ٦٠% من ذلك الشعب يريدون الانسحاب، وقد صادق الكنيست الإسرائيلي على خطة شارون بالانسحاب بعد تعثر طويل في ٢٦/١٠/٢٠٠٤.
ويبقى المهووسون المستوطنون وحدهم مصرِّين على مناهضة هذا الانسحاب، حيث لا يكتفون بمعارضتهم النظرية فقط، بل أعلنوا مراراً عزمهم على إحباطه عملياً، بإحداث أعمال استفزازية ضد الفلسطينيين، تجبرهم على ردود أفعال يضطر شارون معها إلى أن يلغي الانسحاب ويتفرغ للمواجهة. ومن هنا جاءت حكاية التهديد باقتحام المسجد الأقصى لإحباط خطة الانسحاب، حيث أحدث المستوطنون صخباً وجلبة إعلامية في العاشر من إبريل الماضي، وقاموا بمسيرة ضمت ما بين ٣٠ ألفاً إلى ٤٠ ألف مستوطن في ٢٨/٤/٢٠٠٥م، كان مقرراً أن يتوجه قسم منها إلى المسجد الأقصى، وأن ينضم إليها مئة ألف مستوطن؛ وقد جددوا التوعد بالاقتحام في التاسع من مايو ٢٠٠٥م، فهل هذا كله من أجل إلغاء الانسحاب من غزة، وهل هذا هو البُعد الوحيد لهذه العاصفة المتعمدة من التصعيد على ساحة الصراع الديني؟! بالطبع لا؛ فالأمر أبعد من ذلك وأخطر.
- استراتيجية خلط الأوراق:
إذا كانت لشارون خططه التكتيكية والاستراتيجية انطلاقاً من أهدافه السياسية والعسكرية؛ فإن للمستوطنين أيضاً خططهم التكتيكية والاستراتيجية خدمة لأهدافهم الدينية التي لم يعودوا يصبرون على التأخر في الوصول إليها كما يصبر السياسيون الرسميون.
وقد أصبح في حكم الحقيقة أن اليهود على اختلاف توجهاتهم، لا يختلفون حول ضرورة انتزاع أرض المسجد الأقصى والقيام بهدمه ليبنوا مكانه معبدهم المفقود منذ ألفي عام (الهيكل الثالث) ، ولكن الاختلاف بينهم فقط في التوقيت والكيفية والخطوات؛ فبينما يتأنى السياسيون، ويراوغ الدبلوماسيون، ويحتاط العسكريون والأمنيون، فإن المستوطنين والأصوليين المتطرفين في الأحزاب والجماعات الدينية اليهودية، لا يأبهون بشيء من ذلك، بل يريدون القفز فوق الظروف، بحرق ما تبقى من المراحل للوصول إلى استكمال المعالم الدينية لـ (دولة الهيكل الثالث) كما كان يسميها داود بن جوريون أول رئيس وزراء لدولة اليهود.
بين عجلة المتطرفين وطول نفس السياسيين والعسكريين، يزداد الخطر على مصير المسجد الأقصى، ويتضاعف هذا الخطر بتصاعد الصرعات النصرانية الإنجيلية في الغرب، وعلى الأخص في الولايات المتحدة الأمريكية ـ مطالبة بالفراغ من إنجاز هذا المشروع للتعجيل بعصر الخلاص والعودة الثانية للمسيح؛ فمع الأيام تتزايد أصوات المنادين بإعادة بناء الهيكل، ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس، ورفع سعار الصراع في الشرق الأوسط، تحت شعار الحرب على الإرهاب، وفي تلك الأجواء؛ انتهز المتطرفون اليهود فرصة إعلان شارون عن عزمه على الانسحاب من غزة، لكي يرفعوا سقف المطالب المركزية لديهم، وأهمها أمران:
أحدهما: الحفاظ على (أرض إسرائيل) والثاني: استعادة أرض (جبل الهيكل) ، حيث يرتبط الأمران معاً في أدبياتهم المستمدة من معتقداتهم التوراتية الحرفية المحرفة، وقد جاءتهم هذه الفرصة لخلط أوراق القضيتين ليخدم كل منهما الآخر؛ ففي (٢١/١٢/٢٠٠٤م) قامت التنظيمات والمجموعات المتعاونة لبناء الهيكل الثالث، بعقد اجتماع موسع للاحتجاج على خطة الانسحاب من غزة، تحدث فيه عدد من الحاخامات وزعماء الحركات الدينية، فتحدث الحاخام (يسرائيل أرئيل) فندد بخطة الانسحاب، وشبهها بالانسحاب من سيناء، واستغرب أن يوضع الانسحاب من الأراضي «اليهودية» مكان السعي لتحرير جبل الهيكل، وقال: «كيف يمكن أن يرتاح ضميرنا مع تقادم السنين ونحن لم نقدم شيئاً لبناء بيت الرب ... ؟ إن الرب يطلب منا أن نبدأ بالعمل، فلنبدأ بالعمل» . وفي المؤتمر تحدث أيضاً الحاخام (يسرائيل روزان) من حزب المفدال الديني، ورئيس معهد (تسومت) فعزا التوجه للانسحاب من غزة إلى ضعف إيمان الشعب الإسرائيلي، وربط هذا الضعف بتدني الهمة في العمل من أجل الهيكل. وقال: «إنه لكي يوقف مسعى شارون في الانسحاب من غزة، لا بد من تقوية الإيمان بخطوة من أجل الهيكل» . واقترح أن يبدأ ذلك بالتجمع داخل المسجد الأقصى في موعد محدد، واعتبر أن الهيكل بمثابة القلب، والشعب الإسرائىلي في أرضه بمثابة الجسد، فإذا اشتكى القلب اشتكى سائر الجسد. وتحدث حاخام ثالث، وهو (ديفيدو فيتش) وهو مرشد جماعة (شبيبة التل) فقال: «لا ينبغي أن نكتفي بالدعاء ونردد: متى يبنى الهيكل؟! بل تجب المبادرة إلى عمل شيء ما» . وقد أطلقت الجماعة التي يتزعمها هذا الحاخام وصف «سلاح يوم الدين» على الوسيلة التي سيجري بها التخلص من المسجد الأقصى، واعتبرت أن مهمتها هي العثور على هذا السلاح، باستعمال الاجتهاد البشري مع التدبير الإلهي، واعتبر (إيتمارين جير) من حركة (كاخ) المتطرفة، أن «سلاح يوم الدين» يمكن أن يكون رجلاً من أمثال (جولد شتاين) الذي اقتحم المسجد الإبراهيمي وقتل ٢٩ مصلياً داخله وهم سجود في صلاة الفجر في شهر رمضان عام ١٤١٤هـ.
ويبالغ المتدينون المتطرفون في الربط بين خَوَر عزيمة الحكومة الإسرائيلية ـ كما يرون ـ وبين التقاعس عن ملكية أرض الهيكل؛ فقد كتب الصحفي الإسرائيلي (نداف شرجي) مقالاً في صحيفة هآرتس الإسرائيلية في (٢١/١٢/٢٠٠٤م) نقل فيه عن الحاخام الأكبر في دولة اليهود (إلياهو مردخاي) قوله: «إن ملكية أرض وأحجار الهيكل تهب لأصحابها القوة والقدرة» وعزا قوة الفلسطينيين في الوقوف بوجه الإسرائليين إلى أنهم لا يزالون يسيطرون على هذه البقعة، وطالب بالانتقال إلى وضع عكسي. وشبهت جريدة (نكوداه) الناطقة باسم المستوطنين حيازة أرض إسرائيل من دون ملكية (جبل الهيكل) بأنها نوع من «الحب الأفلاطوني» !
أما جماعة (ريفافا) التي تولت النفخ في زوبعة (١٠/٤/٢٠٠٥) فاسمها يدل على شعار معناه (عشرة آلاف على جبل الهيكل) وهم يرون أن الوسيلة المثلى هي الاقتحام! وهناك مجموعة جديدة من المجموعات الساعية إلى هدم المسجد الأقصى تطلق على نفسها اسم (دردعيم) ، وهؤلاء يعتقدون أن التعجيل بخروج المسيح اليهودي مطلوب اليوم قبل الغد، عن طريق التعجيل ببناء الهيكل.
وجهود هذه الجماعات والتنظيمات الجديدة الساعية إلى بناء الهيكل، تضاف إلى جهود الجماعات التي سبقتها والتي بلغت نحو ٢٥ جماعة مختصة بموضوع الهدم، ونحو مئة مختصة بموضوع البناء ـ كما قال الشيخ رائد صلاح رئيس الحركة الإسلامية في أراضي ٤٨، والمسجون حالياً في سجون الاحتلال. وهذه الجماعات تلتقي جميعاًً عند ذلك الهدف الذي يعدون العام ٢٠٠٥م عاماً حاسماً في الوصول إليه. كما قال نائب رئيس الحركة الإسلامية كمال الخطيب في حوار مع موقع (إسلام أون لاين) .
- تظاهرة ١٠ إبريل ... فرار أم اختبار؟
كانت تلك التظاهرة (الفاشلة) في ١٠/٤/٢٠٠٥م بلا شك خطوة على طريق التصعيد في هذا الاتجاه، فهي وبرغم فشلها، لفتت الأنظار إلى عدد من الحقائق أبرزها:
١ ـ أن فرضية أن تكون التظاهرة لاقتحام المسجد الأقصى هي مجرد اختبار لمدى ردات فعل الفلسطينيين والعرب والمسلمين؛ هي فرضية صحيحة، خاصة مع ما صاحبها من تهويل أمني رسمي إسرائيلي، صوَّر الأمر على أنه خطر ماحق عاجل، يتوقف فقط على اختيار أحد سيناريوهات تفجير المسجد الأقصى: إما بصاروخ من الجو، أو بطائرة يقودها انتحاري، أو بطائرة بدون طيار، أو بتفجير المسجد على الأرض عن طريق زرع أحزمة ناسفة حول أعمدته، أو باقتحام الآلاف من المتشددين للمسجد وإشعال النيران فيه من الداخل.
٢ ـ أن ذلك الاختبار أسفر عن نتائج إيجابية جداً ومشرفة جداً على المستوى الفلسطيني، وعن نتائج سلبية جداً، بل مخزية جداً على المستوى العربي والإسلامي؛ حيث إن العواصم العربية والإسلامية ربما انشغلت بمراسم توديع بابا النصارى أو تأبين بعض الفنانين أكثر من انشغالها بالخطر الجاد الذي كان محدقاً بالمسجد الأقصى، إلا أن الهبة الجسورة المسؤولة للشعب الفلسطيني واستجابته لقياداته الإسلامية، عادلت هذه الصورة، وردت الأمل في الأرواح، حيث حشد الفلسطينيون من كل المناطق؛ وحتى من داخل مناطق الـ ٤٨ ـ أعداداً تفوق ما كان اليهود يهددون به ثلاث مرات، حيث رابط داخل المسجد وحوله ما لا يقل عن ثلاثين ألفاً لمواجهة ما هدد به اليهود من حشد عشرة آلاف مغتصب مستوطن، وقد كان مجرد تجمع الفلسطينيين على هذا النحو استجابة للتحدي؛ كافية لإلقاء الرعب في قلوب العشرة آلاف من جرذان الاستيطان الذين لم يجرؤ منهم على الخروج من الجحور إلا بضع عشرات فقط مذعورين مرعوبين.
٣ ـ بالرغم من الاعتقاد السائد بأن سبب انفضاض اليهود هذه المرة هو الرعب من تلك الانتفاضة الإيمانية التلقائية المحدودة، إلا أن ذلك لا ينفي اليقين بأن هؤلاء المعتدين المتربصين، سيترقبون فرصاً أخرى، بعد أن كشفت لهم تلك الحادثة نقاط القوة ونقاط الضعف على الجانب الآخر، الفلسطيني والعربي والإسلامي، وتبين أن مكمن المواجهة الحقيقية الآن ضدهم في الصراع على ساحة المسجد الأقصى، كاد أن ينحصر في الداخل الفلسطيني الذي وقف مستعيناً بالله وحده، فلا بد أن اليهود سيركزون مستقبلاً على شل فعالية الداخل، مطمئنين إلى خمود الخارج.
٤ ـ أظهر الحدث أن الجماعات المعنية بهدم الأقصى وبناء الهيكل في تزايد، وأن ما يسمى بـ (النواة الصلبة) لليمين الصهيوني المتطرف، والتي تضم ٥٠٠ من قيادات العناصر المتطرفة، أصبحوا يمثلون دماء جديدة في هذا التيار، تضاف إلى الجماعات والمنظمات الجديدة الأخرى التي طفت على السطح مثل جماعة (ريفافا) و (شبيبة التل) و (دردعيم) وغيرها، هذا بالإضافة إلى الشخصيات والتجمعات والمنظمات القديمة الداعمة لها من داخل (إسرائيل) وخارجها.
٥ ـ بما أن الانسحاب من غزة لم يتم بعد، فالخطر لا يزال ماثلاً، خاصة بعد أن أعلن المتطرفون أنهم سيعيدون الكرة مرة أخرى في التاسع من مايو ٢٠٠٥م ومع أن الارتياح قد ساد بعد إحباط تظاهرة ١١/٤/٢٠٠٥م، فإن تعدد سيناريوهات الاعتداء التي أعلن عنها جهاز الشاباك الإسرائيلي مؤخراً وتنوع أساليبها؛ يعطي انطباعاً بأن تنفيذ إحداها ممكن جداً، إذا أُمنت العواقب وعُرفت أبعاد ردود الأفعال.
٦ ـ كان إظهار الحكومة الإسرائيلية بمظهر الحريص على أمن المسجد الأقصى من خطر المتطرفين اليهود جزءاً من اللعبة؛ إذ إن تلك الحكومة الإجرامية وكل الحكومات المتعاقبة قبلها، هي التي تسلح المستوطنين، وهي التي تعرف أسماءهم وتحتفظ بملفات جماعاتهم، وتملك القدرة على اعتقالهم وحبسهم لو أرادت، ولكن يمنعها من ذلك فقط أنها شريكة لهم وهم شركاء لها في التآمر المزمن ضد المسجد الأقصى، فمنذ أن أُطلق على الكيان اليهودي (دولة الهيكل) ، ومنذ أن وضع هذا الهيكل رمزاً على العلم الإسرائيلي (نجمة داود) (١) ومنذ أن سمحت الحكومات المتعاقبة بنشاط هذه التنظيمات في الداخل وتنسيق جهودها مع الخارج، فقد ظهر أن تلك الحكومات تتخذ منها جميعاً أداة وقفازاً للتنفيذ، لتظهر به أمام العالم أنها لم تكن تملك حيلة أمام التطرف «والجنون» الذي خرج عن السيطرة.
٧ ـ تزامُن زيارة شارون لبوش في واشنطن مع موعد التظاهرة ومناسبة الاقتحام، هو توقيت مريب، وأقل ما فيه من أبعاد، أن شارون أراد أن يستدر عواطف التيار الإنجيلي الصهيوني النصراني في الولايات المتحدة تجاه خطط اليهود في الاستيلاء على أرض المسجد الأقصى باللين والشدة مرة واحدة أو على مراحل، وقد كان هذا أحد الأسباب التي من أجلها أطلق المستوطنون حملتهم بهدف معلن وهو: «إحياء قضية الهيكل الثالث ولفت الأنظار إليها على أوسع نطاق» وإذا علمنا أن ملكية أرض المسجد الأقصى كانت هي السبب في إخفاق مفاوضات كامب ديفيد عام ٢٠٠٠م، عندما أصر بيل كلينتون وإيهود باراك على أن يتنازل الفلسطينيون عنها مقابل توقيع اتفاق نهائي (١) ؛ إذا علمنا ذلك أيقنا أن قضية المسجد ليست هامشية على ساحة السياسة الرسمية الدولية الأمريكية والإسرائيلية.
٨ ـ هناك تحول خطير في مطالب قادة المتطرفين اليهود، قلَّ من انتبه إليه، وهو أنهم أضافوا مطلباً جديداً ربما يطغى على المطالبة بإلغاء الانسحاب من غزة في المرحلة القادمة وهو: أن توافق الحكومة الإسرائيلية على تخصيص جزء من ساحات المسجد الأقصى لبناء كنيس يهودي (مؤقت) ، وهو مطلب في غاية الخبث؛ إذ يتوقع أن يجعلوا من هذا الجزء ـ في حالة موافقة الحكومة عليه ـ منطلقاً للتوسع، كما هي عادة اليهود في التوسع والاستيطان السرطاني، لالتهام أرض المسجد قطعة قطعة (بهدوء) إذا أيسوا من الاستيلاء عليه جملة واحدة بطريقة صاخبة، وقد ظهرت مقدمات تواطؤ رسمي حكومي مع تلك المطالب، حين صرح (موشي كتساف) رئيس دولة الكيان الصهيوني، بأنه «لا مفر من إيجاد وضع يسمح لليهود بالصلاة في (جبل الهيكل) » ، وهي دعوة صريحة لتقسيم المسجد، قد تتحول إلى قضية (تقسيم) جديدة بعد قضية تقسيم فلسطين. والملاحظ أن الموقف الإسرائيلي الرسمي يمهد الأجواء لمثل هذا الإجراء؛ فقد أعلنت الحكومة الإسرائليية في ٧ يوليو ٢٠٠٤ عن السماح للإسرائيليين (قانوناً) بدخول المسجد والصلاة فيه بعد حظر استمر منذ الاحتلال.
- وأخيراً ... أظهرت الأحداث الأخيرة أن شريحة كبيرة من الأمة تعاني خللاً في التعامل مع قضايا المقدسات، حيث تبارى الكثيرون في تسويغات فلسفية لظاهرة السلبية في ذلك التعامل، حيث كثر الكلام عن منطق: (للبيت رب يحميه) .. وأطروحة: (لن يمسوه بسوء؛ لأنه لم يرد خبر بذلك) ...... ونظرية (الخطر مضخم والقضية وهمية) ...... وفرضية (إذا أراد الله له أن يهدم فسيهدم ولن نحول دون ذلك ... ) إلى آخر تلك الحجج الجوفاء التي لا يرضى قائلها أن يُصرف بمثلها عن حق من حقوقه الدنيوية التافهة. ويزيد من خطورة انتشار مثل تلك التسويغات التسويفية، استمرار وتكرار «الاختبارات» اليهودية لردات فعل المسلمين في العالم، حيث قد يكون ذلك عاملاً من عوامل التقصد إلى تبريد المشاعر، وتجفيف الأحاسيس، وتسكين العواطف تجاه هذا المسجد وقضيته الاعتقادية، حتى يسود شعور بالملل من الحديث عن (الخطر) الذي يواجهه، وهنا في الحقيقة مكمن الخطر، عندما لا نعود نشعر بالخطر.
- هل تقوم انتفاضة ثالثة؟
بإقرار ما يعرف بـ (التهدئة) بين فصائل المقاومة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية بوساطة من السلطة الفلسطينية والحكومة المصرية؛ تكون الانتفاضة الثانية قد أسدلت الستار على حقبة صاخبة أساسية من تاريخ الجهاد الفلسطيني، بعد أن أحرزت تلك الانتفاضة العديد من الانتصارات، كما انحسرت عن كثير من الخسائر. ولكن الانتفاضة على كل حال كان لا بد منها في تلك المرحلة من عمر القضية؛ لأن البديل كان هو التصفية الكاملة باسم التسوية الشاملة، ولست هنا بصدد حسابات الربح والخسارة في هذه المرحلة الجسورة من مراحل انطلاق الطائفة المنصورة في بيت المقدس وما حوله، ولكني بصدد الحديث عن مراحل أخرى قادمة، سواء استمرت التهدئة لفترة على ما هي عليه الآن، أو كان للانتفاضة الثانية بقية من استمرار، أو توقفت لتنطلق من جديد انتفاضة جديدة.
إن الحديث عن انتفاضة ثالثة ـ في كل الأحوال ـ ليس رجماً بالغيب أو حدساً بالظن، بل هي أمر لا فرار منه، لسبب بسيط هو: أن كل بواعث تجدد الصدام على أرض النبوات لا تزال قائمة، بل هي في تزايد ووضوح. صحيح أن جراحات الفلسطينيين غائرة، وخسائرهم مؤلمة، ومصابنا ومصابهم كبير في شبابهم ورجالهم ونسائهم وأطفالهم، إلا أن الذين اغتصبوا الأرض لا يزالون متشبثين بها ويتطلعون إلى الأكثر، والذين يهددون المقدسات ويفسدون فيها؛ لا يزالون يخططون للأخطر، وهو ما يجعل أوار نار الحرب مستمراً؛ وكأن الأرحام تدفع بأجيال تربيها سُنَّة التدافع لأخذ أماكنها في ساحات الصدام الكبير، الذي بدأ منذ سنين وسيمتد إلى اقتراب يوم الدين، عندما ينطق الشجر والحجر: (يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله) (١) .
الحديث إذن عن انتفاضة فلسطينية ثالثة وربما رابعة وخامسة وسادسة، ليس حديث خرافة تنفضُّ عنه المجالس وتنتهي عنده الأحلام، بل هو واقع متوقع، لا ينبغي التعامل معه على أنه احتمال أو خيال، حتى تفاجئنا الأحداث بما لم نكن نتوقع.
أقول هذا لأن الذين جعلهم الله في رباط إلى يوم الدين على أرض فلسطين، لا ينبغي أن يُتركوا وحدهم هذه المرة؛ فالمسؤولية عن استرجاع بين المقدس ليست مسؤوليتهم وحدهم، وحماية المقدسات المهددة ليست قاصرة على شعبهم، وخاصة أن الرباط الوثيق بين المدن المقدسة الثلاث: مكة، والمدينة، وبيت المقدس، وبين مساجدها الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى في قول الله ـ تعالى ـ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَا الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: ١] . هذا الرباط الذي أشار إليه بعض المفسرين (٢) يربط المسؤولية بعنق كل مسلم، يُشرع له أن يشد الرحال إليها جميعاً، في حال السلم للعبادة، وفي حال الحرب للجهاد وطلب الشهادة، إذا ما تهددها خطر أو اقترب منها عدو.
إن الذين سيفرِّطون اليوم في حماية الأقصى.. سيفرطون غداً في حماية مكة المكرمة والمدينة النبوية الشريفة، التي أدخل اليهود أطرافها ضمن خارطتهم المستقبلية قبل أن تقوم لليهود قائمة (٣) .
لقد أحدثت الانتفاضة الأولى تحولاً لصالح الإسلاميين على البُعد الفلسطيني الداخلي، وأوجدت الانتفاضة الثانية بعداً إقليمياً عربياً متعاطفاً وداعماً على الصعيد الشعبي، أما الانتفاضة الثالثة فالمنتظر أن تحيي البُعد الثالث المكمل للقضية في عالميتها وأهميتها، وهو البُعد الإسلامي العالمي؛ فليس من المعقول أن يتمكن اليهود من تحويل قضية ما يسمى بـ (جبل الهيكل) إلى قضية دولية سياسية وقانونية على مستوى اليهود والنصارى في العالم؛ ولا يستطيع المسلمون إلى الآن أن يعطوا المقدسات الإسلامية بُعدها الجدير بها إسلامياً ودولياً؛ بحيث تقف الأمة المليارية بحجمها وثقلها خلف حُماة المقدسات الذائدين عنها.
وإذا كانت الأحداث الأخيرة قد أثبتت أن أهل فلسطين هم خط الدفاع الأول على خط النار ضد أشد الناس عداوة للذين آمنوا، فإن الإنصاف يقتضي أن يُعترف لهم بذلك أولاً، وأن يُعانوا على ذلك ثانياً، وألا يُكتفى ـ ثالثاً ـ بتركهم لمكفوفي الأيادي أو مكبلي الإرادات، بدعوى أنهم على خط الدفاع الأول، كما أن منطق الإنصاف نفسه يجعلنا نتساءل: متى كانت الأمم المستهدفة تكتفي بخط دفاعها الأول دون أن يكون وراءه خط ثالث ورابع ... وعاشر؟!
إن الضرورة تفرض الآن، إطلاق جبهة شعبية عالمية لحماية الأقصى، تكون مهمتها:
ـ أن توازن في اتجاه مضاد، ما تقوم به مجموعة الجمعيات والتنظيمات والهيئات والشخصيات اليهودية والنصرانية الساعية لبناء الهيكل، مسنودة بالحكومات المتعاقبة في الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل.
ـ ويكون من مهامها أن تعوِّض الخلل المخجل، في طريقة تعاطي الحكومات الرسمية مع قضايا المقدسات الإسلامية، بحيث يكون للشعوب (صاحبة الكلمة الآن) كلمتها وحركتها في حمل الأمانة وردها إلى أهلها.
ـ ويكون من مهامها، أن تُعذر إلى الله ببذل المستطاع لردع المعتدي قبل اعتدائه، ورد عدوانه إذا اعتدى.
لن أخوض الآن في التفاصيل المتصورة لعمل تلك الجبهة المقترحة؛ فهي أكبر من أن يحددها شخص بمفرده أو مجموعة بعينها، بل أكتفي بما يفترض أن يكون حداً أدنى في وصفها وكيفية عملها، وهو أنها ينبغي أن تكون جامعة بين الأبعاد الثلاثة: الفلسطيني، والعربي، والإسلامي؛ ومبتعدة عن التقيد بالحزبيات والرسميات، إلا بما يعود عليها بالارتفاع والاندفاع نحو تحقيق الغرض منها.
وإذا كانت حفنة ممن كُتبت عليهم الذلة والمسكنة قادرة على التهديد كل يوم بإخراج بضعة آلاف متظاهر لاقتحام المسجد الأقصى، فإنه من العار ألا تستطيع أمة المليار إلى الآن إيجاد آلية لإخراج عشرات الآلاف بل الملايين لرد المعتدين في أعقابهم مظاهرة بمظاهرات، وتهديداً بتهديدات، ومخططاً بمخططات وترتيبات وتحركات، ليعرف اليهود ومن وراءهم أن الدم بالدم، والهدم بالهدم، وأن المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه، وأن الأمة التي لا تستطيع أن تؤم المسجد الأقصى اليوم، قادرة على أن تؤمنه وهي قريبة منه أو قصية عنه حتى يفصل الله بينها وبين عدوها بالحق وهو خير الفاصلين.