[حماس.. مصير القضية لا مصير الحكومة]
ياسر الزعاترة
عندما تمَّ التوافق بين الأُطر القيادية في حركة حماس على دخول الانتخابات كان ثمّة إجماع على أن المشاركة في الحكومة ليست واردة، وأن المطلوب هو مشاركة برلمانية تمنح الحماية لبرنامج المقاومة من جهة، وتحول دون تكرار تجربة النصف الثاني من التسعينيات من القرن الماضي، حين سارت قاطرة (أوسلو) واستهدفت الحركة ومؤسساتها وقادتها بمختلف أشكال الاستهداف.
كان التقدير الذي استند إليه القرار، يتمثل في أن مرحلة مفاوضات جديدة هي في طور الانطلاق بسبب تغير المعطيات العربية والدولية، وهي مرحلة تشبه إلى حدٍّ كبير مرحلة (أوسلو) مع فارق أن القيادة الفلسطينية الجديدة لا تؤمن بالمقاومة المسلَّحة بأيِّ حال، وترى استمرار التفاوض، ولو إلى يوم الدين.
في المقابل كان البرنامج الإسرائيلي الذي تبنَّاه شارون هو تأبيد النزاع، عبر مشروع الحلّ الانتقالي بعيد المدى، أو مشروع الدولة المؤقتة على قطاع غزة وأقل من نصف الضفة الغربية، وهي دولة سيكون لها نزاعها الحدودي مع جارتها اليهودية، نزاع ليس مكانه ساحات الحروب ولا البنادق والرصاص، بل الجهود الدبلوماسية في الأروقة الدولية.
حدث ذلك بسبب تطورات دولية وإقليمية وعربية بالغة الأهمية، فهناك ـ ابتداءً ـ إدارة أمريكية لم يعرف لها مثيل في مستوى الانحياز للهواجس الصهيونية، وهي ذاتها التي منح رئيسها في نيسان ٢٠٠٤م وعداً لشارون بشأن مفاوضات الوضع النهائي شبّهه المراقبون بوعد بلفور، وهناك أيضاً وضع دولي متراجع أمام الولايات المتحدة بعد الاجتياح السهل للعراق، فضلاً عن تأثير اليهود في القرار الأوروبي، بخاصة في فرنسا، فيما لا تميل روسيا والصين إلى أيِّ شكل من أشكال الصّدام مع الإدارة الأمريكية من أجل ملفات شرق أوسطية ما دام بالإمكان المساومة عليها مقابل مكاسب أخرى تهمُّ البلدين في قضايا أكثر أهمية بالنسبة إليهما.
هناك ما هو أسوأ ممثلاً في تراجع الوضع العربي أمام الولايات المتحدة، أكان بسبب ضغوط ملف الإصلاح الذي استخدم مرحلياً في سياق الابتزاز، أم بسبب الخوف من الضغوط الأمريكية بعد احتلال العراق، أم بسبب الفزاعة الإيرانية التي استخدمت لاحقاً، وفي بعض الحالات العربية هناك ملفات داخلية خاصة، مثل: ملف التوريث في مصر.
في مثل هذه الأجواء دخلت حماس الانتخابات من أجل حماية نفسها وبرنامجها، لكن النتيجة كانت مفاجأة؛ ليس فيما يتعلق بحجم حضور حماس، بل في نزاهة الانتخابات، والأهم خلافاتها الواسعة التي أفضت إلى النتيجة المذكورة، لاسيما في الدوائر الانتخابية التي تنافس فيها أكثر من مرشح بعضهم من ذوي السمعة السيئة، مع العلم أن الفارق بين الحركتين في نتيجة نظام القائمة لم يكن كبيراً، ولو كانت الانتخابات كلها وفق ذات النظام كما في الدولة العبرية لكان بوسع فتح أن تشكل الحكومة مع الآخرين، في حين ستكون حماس في المعارضة بنسبة (٤٥%) .
هنا لم تجد حماس بدّاً من تجاهل قرارها بعدم المشاركة في الحكومة، إذ لا يمكن أن تدير ظهرها لمن انتخبوها ومنحوها الثقة، وهكذا مالت إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية، الأمر الذي وُوجه بفيتو واضح من طرف فتح، ولم يتوقف الأمر عند ذلك بل تمَّ التوافق في أروقة الحركة على جملة من السياسات، أهمها: حرمان الحكومة الحماسية من معظم الصلاحيات؛ الأمنية، السياسة الخارجية، الإعلامية، وحتى الإشراف على المعابر، وصولاً إلى تأشيرات الحج والعمرة! ومن ثم العمل الحثيث على استدراجها نحو خطاب سياسي جديد يشوّهها تمهيداً لإقصائها، إما بترتيب يجري التوافق عليه لاحقاً، أو حتى بانتظار نهاية المدة البرلمانية إذا لزم الأمر، حيث يمكن حينها ترتيب الانتخابات بطريقة مختلفة.
من هنا بدأ التآمر على الحكومة بمشاركة الأطراف العربية الخائفة من المدِّ الإسلامي، والأمريكية والدولية والإسرائيلية، وكل ذلك بالتنسيق مع حركة فتح التي تركز هدفها في التشويه قبل الإقصاء، الأمر الذي بدا أقل أهمية بالنسبة للآخرين، لاسيما الأطراف العربية المعنية بالتخلّص من الحكومة بأيّ وسيلة.
هكذا فرض الحصار المحكم على الحكومة، وحتى الأموال التي جمعتها لم تتمكن من إدخالها إلى الأراضي المحتلة بسبب تهديد البنوك من قِبَل الولايات المتحدة، في حين جرى دعم الرئيس الفلسطيني وتضخيم حرسه الرئاسي وتزويده بالأموال والأسلحة.
لكن ذلك لم يخف بحال أزمة الأطراف المختلفة في مواجهة الحكومة التي منحت مهلة ثلاثة شهور للسقوط فلم تسقط، ولولا ملف الرواتب لكانت الحكومة في وضع معقول، وهو ملف عجز ـ رغم أهميته ـ عن دفع الناس إلى العصيان المدني، والسبب هو أن عودة الوضع القديم تمثل كابوساً بالنسبة للكثيرين، وما يفعله مسلّحو فتح بالناس في الضفة الغربية لا بد أن يدفعهم نحو مزيد من التمسك بالوضع الجديد، وفي العموم فإن الأمل بحلِّ معضلة الرواتب يظل قائماً ويمكن للناس أن يتدبّروا الأمر انتظاراً لذلك الحل، لاسيما أن مساعدات كثيرة لا زالت تتدفق على الناس المحتاجين بما يحقق الحدّ الأدنى، فيما يؤمل أن يتمرد الأوروبيون على التوجه الأمريكي ويتوقفون تبعاً لذلك عن سياسة حجب المساعدات بعد أن منحوا واشنطن ما يكفي من الوقت لحلِّ المعضلة دون جدوى.
لا يتوقف الأمر عند هذا الحدّ، ذلك أن خيارات الانقلاب العسكري من خلال دعم الحرس الرئاسي وسواه من الأساليب المباشرة، قد تفضي إلى اقتتال داخلي، كما قد تفضي ـ وهو الأهم بالنسبة للإسرائيليين ـ إلى انهيار السلطة، وصولاً إلى تصعيد شامل يخشاه الأمريكان تبعاً لغرقهم في المستنقع العراقي والأفغاني، إلى جانب أزمة كوريا الشمالية التي أثّرت سلباًَ على مطاردة إيران.
لكن التصعيد الإسرائيلي الأخير والتلويح بعملية عسكرية واسعة ضد القطاع قد تشير إلى جراحة من نوع آخر تنطوي على محاولة لاستعادة الهيبة بعد هزيمة لبنان من جهة، كما تسعى من جهة أخرى إلى ضرب حكومة حماس عبر شلِّ قدرات الحركة العسكرية من أجل تسهيل الانقلاب عليها داخلياً تحت ذريعة وصول الوضع الفلسطيني إلى طريق مسدود، لكن أمراً كهذا لا يعني حلاً للمعضلة بالضرورة، كما أن نتائجه ليس مضمونة.
عربياً يبدو موقف الأطراف التي تناهض حكومة حماس في غاية الحرج أمام الشارع بعد ظهورها في الصف الأمريكي الإسرائيلي، فيما الفلسطينيون يناشدون العرب والمسلمين فكَّ الحصار من حولهم.
أما خيار الانتخابات الجديدة التي يلوح بها البعض فلا يبدو مقنعاً، ليس فقط لأنه انقلاب مفضوح وغير مبرّر على عملية ديمقراطية نزيهة يستبطن مناشدة للناس إعادة النظر في اختيارهم فقط من أجل الرواتب! بل لأن نتائجها غير مضمونة أيضاً.
من المؤكد أن أزمة الأطراف المشار إليها وبخاصة فتح قد نتجت بشكل أساسي عن العجز عن استدراج حماس إلى خطاب التراجع، وفي حين نجح قادة السلطة في الحصول على موافقة الحركة على ما عرف بوثيقة الأسرى، إلا أن الإضافات التي وضعت في مقدمة الوثيقة حالت دون القول: إن حماس قد اعترفت بالاحتلال، الأمر الذي دفع إلى تكتيك آخر يسمى محددات البرنامج السياسي لحكومة الوحدة الوطنية، وهي محددات تتضمن الاعتراف بالمبادرة العربية وما وقّعته منظمة التحرير من اتفاقات، فضلاً عن تغييب مصطلح المقاومة. ولما رفضت الحركة ذلك تعثّر مشروع حكومة الوحدة الوطنية بدعوى أن الوضع الدولي لا يقبل حكومة لا تعترف بالدولة العبرية.
الآن يمكن القول: إنه ليس أمام حماس غير مواصلة الإصرار على حكومة الوحدة؛ لأن خيارات الانقلاب العسكري عليها ليست سهلة، ربما بسبب قوتها العسكرية في قطاع غزة، وإن تكن ضعيفة في الضفة، والأهم بسبب الخوف من تداعيات أمر كهذا على السلطة برمّتها، كما أشير من قبل.
أيّاً يكن الأمر؛ فقد تأكد الآن أن الأزمة ليست أزمة حماس وإنما أزمة الآخرين الذين حوّلوا القضية الفلسطينية إلى قضية رواتب، وهم أنفسهم الذين رهنوا حياة شعبهم بإرادة محتلّيه، وهي معادلة يمكن كسرها لو وافقوا على حكومة الوحدة ووضعوا العالم العربي أمام مسؤولياته، ما يعني أن المسؤولية تقع عليهم، لاسيما أن ما يبشرون به لا يعدو متاهة تسوية جديدة لن تأتي إلا بأسوأ بكثير من حصاد (أوسلو) .
يطرح البعض هنا حكومة كفاءات أو تكنوقراط، الأمر الذي بدا قابلاً للنقاش ـ بحسب البعض ـ لكنه خيار فاشل في أيِّ حال، ليس فقط بسبب استحالة تسيير الوضع في ظل سيطرة فتح ومليشياتها على السلطة، بل أيضاً بسبب مسار التفاوض التالي، وهو ما يدفع حماس إلى رفضها والإصرار على حكومة الوحدة، أقلّه إلى الآن.
من المؤكد أن حكومة حماس تعيش أزمة، لكن أزمة الآخرين ليست أقل شأناً، بمن فيهم الإسرائيليون الذين خرجوا مهزومين من لبنان، والأهمّ الأمريكيون الذين يتخبطون في أفغانستان والعراق ومع كوريا الشمالية وإيران وأمريكا اللاتينية، بل مع روسيا والصين أيضاً.
حماس في ضوء ذلك ليست قلقة، وخيارها هو الصمود وكسر الحصار بكل السُّبل المكنة، مع التمسك الواضح بالثوابت، أما الحكومة ومصيرها فمشهد عابر في مسلسل صراع تاريخي كبير، ويبقى الأمل في تجاوز فتح لثأرها والموافقة على تشكيل حكومة الوحدة على قاعدة المقاومة وليس الاستسلام لبرنامج العدو، أما إذا أصرت على استمرار التآمر، فإن نجاحها في إقصاء الحكومة يبدو وارداً، لكن ذلك لن يكون مهماً إلى حد كبير ما دامت الجماهير تعرف الحقيقة، وما دام المتآمرون قد فشلوا في ضرب ثوابت الحركة التي انتخبت على أساسها، لاسيما أن مصير رحلتهم التفاوضية الجديدة لن يكون أفضل من رحلتهم السابقة، ما يعني العودة من جديد إلى برنامج المقاومة الوحيد القادر على تحقيق الإنجازات للفلسطينيين.