للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الباب المفتوح

[الإعداد النفسي]

عبد الخالق بن حمود القحطاني

جاء في كتاب (الحرب العالمية الثانية) لريمون كارتيه، وصفُ إنزال إحدى

فرق الجيش الأمريكي في جزيرة من جزر المحيط الهادئ، عندما كانت الحرب

الأمريكية اليابانية في بداياتها، أي إبّان عام ١٩٤٣م.

يقول كارتيه: (كان على مشاة الفرقة (٤٣) الأمريكية أن يشقوا طريقهم

وسط أوحال كثيفة، وعبر خليط متشابك من الأشجار والنبات، وما تقدموا مسافة

١٠٠م في النهار الأول، وقد كساهم الوحل والعرق، حتى استحوذ عليهم سيلٌ مؤذٍ

ضار، فعجَّت الأدغال بكائنات عجيبة غريبة، وأصوات مبهمة غامضة، وحوَّمت

في الهواء أنسجة حية، ومزقت الطنين المتصاعد من مليارات الحشرات صرخات

منكرة ساخرة، وأخذت فقاقيع ضخمة من الغاز تتفجر على سطح المستنقعات

فتحدث دوياً خافتاً أصم، وملأ الوميض الفوسفوري، الناتج عن انحلال النبات،

تألقت الآجام تألقاً غريباً بعيداً عن عالم الحس والواقع، فاستبد الخوف بالجنود،

وخُيل إليهم أنهم يسمعون اليابانيين يطوفون حولهم ويحدقون بهم، فراح الكثيرون

يتراشقون بالقنابل اليدوية، أو يتبادلون الطعن بالمدى، مما اضطر الفوج الأول أن

يُجلي نحو «غواد الكانال» [١] (٣٣٦) ضحية من ضحايا الانهيار العصبي!

وهكذا كان اللقاء الأول بالمحيط الهادئ الجنوبي محنة تحطم الأعصاب بالنسبة

لفتيان أمريكيين ترعرعوا في جو مشبع بأسباب الرخاء والدعة) [٢] .

إن هذه اللقطة التي يسردها الكاتب الفرنسي ليست في الواقع سوى صورة

واحدة من مئات الآلاف من الصور التي تتشكل أثناء الحروب، ولربما كانت هذه

الصورة من «ألطفها» مقارنة بالصور الأخرى الأشد قسوة بكثير.

ولكن لندع حديث الحرب جانباً، ولنُعِد قراءة عبارة الكاتب الأخيرة التي تشير

بوضوح إلى سبب الانهيار الذي أصاب الجنود. إنه يشير صراحة إلى جو الترف؛

ذلك الجو الموبوء الذي متى انغمس فيه الإنسان، ضعفت نفسه، وهزلت روحه،

وعندها يفقد المرء اتزانه عند الأزمات.

واليوم لا تزال فئام من المسلمين في مجتمعاتنا وأعني مجتمعات البلاد التي لا

تعاني حروباً أو مجاعات مزمنة تعيش نسبياً في جو من الرخاء والدعة.

إلاّ أنه من الملاحظ أنّك إذا أردت أن تطرح موضوع سنن الله عز وجل في

الابتلاء وتقليب أحوال الناس بين الرخاء والشدة، والأمن والخوف، للنقاش مع

بعض أفراد هذه المجتمعات فإن أذهانهم تنصرف فوراً إلى غير مجتمعاتهم التي

يعيشون فيها، وكأن تلك المجتمعات لديها حصانة تمنعها من سنن الله عز وجل.

ولعلك تسمع من يردّد «الله لا يغيّر علينا!» يقولها وهو ينفض يده ورأسه

كفعل من يريد طرد فكرة غير محبّبة.

إنّه حقاً لمن الخطورة بمكان أن نكون غير مستعدين حتى لمجرد التفكير بما

يمكن أن يحصل إذا حقت فينا تلك السنن الربانية، خصوصاً إذا توافرت أسباب

وقوعها.

فيصير الواحد لا يفكر إلا بيومه، ثم لا يهمُّه ما قد يحصل في الغد، ليس

اتكالاً على الله وتسليماً لقضائه، وإنما بسبب الانغماس في الدنيا، والغفلة عن

الطاعة.

إن كوننا مسلمين وحسب، مع كون إسلامنا منقوصاً وكثير من أعمالنا بعيدة

عنه لا يعطي بحال ضماناً لنا بأننا لن نؤاخذ بما نفعل، أو أن الله عز وجل

سيعاملنا معاملة خاصة؛ لأننا نردد كلمة التوحيد صباح مساء مع أننا قد نأتي بما

يخدشها.

والله عز وجل قد بين ووضح بأن سننه لا تحابي أحداً، وليس هناك أحد من

خلقه فوق المساءلة.

قال عز وجل: [لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ]

(النساء: ١٢٣) .

وقد ردّ الله على اليهود عندما زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه بقوله: [فَلِمَ

يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم] (المائدة: ١٨) .

ولقد تخلّف النصر عن الصحابة الكرام - رضي الله عنهم - يوم أحد، وهم

خير الخلق بعد الأنبياء، وفيهم سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك

بمعصية بعضهم، فتعلّم الصحابة الدرس وفهموه جيداً؛ إنه درس «احفظ الله

يحفظك» ، [وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ]

(الشورى: ٣٠) ؛ فليس بين الله وبين أحد من خلقه نسب، وإنما هي الطاعة

والتقوى.

ولقد روى ابن كثير في كتابه «البداية والنهاية» الكثير الكثير عن أحوال

دولة الخلافة الإسلامية بعد عهد الدولة الأموية والعباسية عندما رقَّ أمر الدين جداً

في قلوب الناس فدهمهم التتار، ومن بَعْدِهم الصليبيون في عقر دارهم، وأزهقوا

مئات الآلاف من الأنفس المسلمة من الرجال والنساء والأطفال في مذابح رهيبة،

وخربوا بلادهم ونهبوها في الوقت الذي كان فيه أصحاب الترف المسلمون مشغولين

في قصورهم بالجواري والفتيان، وفي غفلة عظيمة مستحكمة [٣] .

وفي العصر الحديث شواهد كثيرة أيضاً لمن كان يعتبر؛ فكم من أناس كانوا

يتفرجون على غيرهم فأصبحوا مُتَفَرَّجاً عليهم!

إن ولوج الإنسان وخروجه يومياً في هدوء وأمان، وممارسته حياته بشكل

اعتيادي، وركوب المراكب الفارهة، وسكنى البيوت المجهزة بمختلف أسباب

الراحة، ذلك كله لا يعني أن «شيئاً ما» لن يحدث؛ فالله عز وجل يقول:

[أَفَأَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَن يَأْتِيَهُم

بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ] (الأعراف: ٩٧-٩٩) .

ومن ثم فإن المؤمن لا يأمن مكر الله أبداً ونقمته إن هو خالف أمره، ولذلك

فهو باستمرار خائف من ربه، ذاكر له سريع الأوبة إليه. وقد جاء في وصف أهل

الجنة: [قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ] (الطور: ٢٦) .

وهذا الإشفاق هو ما يجعل المؤمن في حال اتصال دائم بربه؛ لأنه يعلم جيداً

أنه لا مفر من الله إلا إليه، وأن الأمان الذي يصبو إليه كل أحد ليس إلا في كنف

المليك المقتدر سبحانه.

وإذا المَعيّةُ لاحظتك عيونها ... نَمْ، فالمخاوف كَلُّهنّ أَمانُ

ولذا فإننا نجد المؤمن عند الأزمات ثابت الجنان، وعند الصدمات راسخاً

رسوخ الجبال؛ لأنه يأوي إلى ركن شديد. بينما تجد غير المؤمن أو ضعيف

الإيمان يفقد اتزانه ويطيش عقله عند أقرب امتحان، كما جاء في الصورة التي

افتتحنا بها.

ولا يتبادر إلى ذهن أحد أننا نريد من الناس أن يعيشوا في خوف وقلق وترقب

لكل شيء، لا؛ وإنما الذي نريده ونحتاجه هو نوع خاص من الخوف خوفٌ إيجابي

يدفع المؤمن إلى العمل دفعاً حثيثاً حتى يصل إلى مراد الله منه، وهو خوف يجعل

المؤمن لا يهاب شيئاً إلا ربه؛ لأنه يؤمن بأنه أقوى من كل شيء، القوة التي تغدو

معها قوى الأرض كلها هزيلة خاوية لا تضر ولا تنفع.

إن الإجراء الأول الذي يجب اتخاذه على طريق الإعداد الذي أمرنا به في

[وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم] (الأنفال: ٦٠) ، لمقارعة خصوم الدين ومواجهة

الأزمات، هو «الإعداد النفسي» . وذلك عن طريق تفقُّد مواضع الخلل في النفس،

ومن ثمَّ تشخيصها ومعالجتها بالوسائل الشرعية التي تزيد التقوى في القلوب.

إن علينا ألا نستسلم للأوهام؛ فنحن إذ لم نكن اليوم مستعدين للأيام القادمة

سياسياً ولا عسكرياً ولا اقتصادياً، فلا أقلّ من أن نستعد نفسياً. وخير لنا أن نكون

مستعدين نفسياً على الأقل، من أن تدهمنا الخطوب، وتبهتنا الأحداث، وعندها قد

يكون من المتأخر جداً استدراك ما فات إلا بتكاليف باهظة.

نسأل الله عز وجل أن يلهمنا رشدنا، ويقينا شر أنفسنا ويكفينا أعداءنا.


(١) اسم لإحدى الجزر في المحيط الهادئ.
(٢) الحرب العالمية الثانية، ريمون كارتيه، المجلد الثاني، ص ٨٠ - ٨١.
(٣) من أفضل من ناقش هذه الحقبة من التاريخ في نظري، الأستاذ محمد العبدة في كتابه: (أيعيد التاريخ نفسه؟) من إصدارات المنتدى الإسلامي، فليُراجع.