الافتتاحية
[قد خلت من قبلكم سنن]
رئيس التحرير
أحداث مهمة وخطيرة جرت وتجري على الساحة الإسلامية في السنوات
الأخيرة، أحداث استنفذت الطاقات وذهبت بالجهود سدى، استنزفت الدماء الطاهرة
وأدت إلى زج خيرة الشباب في السجون. هذه الأحداث وغيرها مثل الدخول في
معمعان السياسة من الأمور الكبار التي لا يجوز أن ينفرد بتقريرها أفراد أو تجمعات
صغيرة، لأن أمرها يهمُّ الأمة كلها ونفعها أو ضرها يعمُّ الجميع، وليست من
مجالات الاجتهادات الخاصة ببلد دون آخر.
هذه الأحداث المستمرة لا يجوز أن تبقى خارج دائرة النصح وإبداء آراء
السياسات الشرعية فيها، كما لا يجوز أن تبقى خارج دائرة التحليل والنقد ومعرفة
أسباب الخلل ومواطن الضعف، وهذا يقتضي أن نصارح بعضنا وننقد أنفسنا،
ولئن كان في السكوت مصلحة مقُدَّرة فيما مضى فإن الدعاة والعلماء والمفكرين
مدعوُّوْن اليوم لبيان الرأي الصريح، وقول كلمة الحق في هذه الأمور الكبيرة طلباً
للحق الذي يجب إحقاقه عاجلاً أو آجلاً.
لقد سنَّ الله تعالى النظر في سير الأولين والآخرين لمعرفة أسباب الظفر
والتمكين وأسباب الفشل والتراجع فهل كُتب على المسلمين عدم الاعتبار بحدث
ماضٍ، وعدم التفكير بما وقع لإخوان لهم في زمن قريب؟ هل درُست كل
الحركات التي قامت سابقاً ولاحقاً؟ تلك الحركات التي أكبر أسباب فشلها ناتج عن
العجلة وقلة الاستعداد المطلوب شرعاً وعقلاً، بل إن البعض الآن لا يتعجل قطف
الثمار لأنهم يعلمون - كما يصرحون - أن لا ثمار ولا نتيجة من وراء هذا العمل،
ولكنهم يعملون لمجرد أنه لا يوجد طريق آخر بنظرهم!
هل يجوز شرعاً.. القيام بإعمال لمجرد اجتهادات من هذا النوع؟ وهل -
يصح في العقول - أن يقوم أفراد بعمل يجرون فيه المسلمين إلى الصراع دون أخذ
الأهبة ودون (تخطيط مسبق) تحسب فيه كافة الاحتمالات؟
في مثل هذه الظروف الارتجالية يدخل في العمل من يظنُّ أن النصر قريب
طلباً لجني الثمار، وهو بذلك أقرب إلى المنافقين، ويدخل أشخاص انتهازيون
يريدون السيطرة على هذا العمل، وهذا أمر سهل، يكفيه أن يرفع شعار المرحلة،
بل يزاود على الذين رفعوه - بصدق - من قبَلُ ليتقدم الصفوف الأولى.
حينما تعمُّ الفوضى يعُتقل أكثر القادة وبكل سهولة، ففي أحداث بلد عربي
بلغت الخسائر في مدينة واحدة خلال أشهر أكثر من (٦٠٠) شهيد، وفي مدينة
أخرى يقود العمل متُصوفٌ يخطط لعملياته بناء على الأحلام التي يراها في
الليل [١] ، وذلك ما أدى إلى كشف وقتل معظم الذين كانوا معه واعتقُل آلاف الشباب بسبب اشتراك أناس لم يتربوا تربية إيمانية، بل اندفعوا عاطفياً وتعرفوا على كل شيء، وعندما اعتقلوا اعترفوا بكل شيء، وكانوا صيداً ثميناً للطغاة، فهل يُضحّى بشباب تربوا تربية طويلة من أجل أهداف بسيطة، وهل أتاك نبأ الذين يتورطون في هذه الأعمال ثم يضطرون للكذب في بياناتهم عندما يتحدثون عن الإعداد والعدَّة، وإذا سألتهم عن مئات الشباب الذين قتلوا أو سجنوا (وهم على نياتهم الخيرّة الصادقة) قالوا: لا بدّ من التضحية! نعم لا بد من التضحية وليذهب الآلاف إذا كان ذلك في صالح أهداف المسلمين وإعزاز دين الله وإذلال الكفر وأهله.
إن من أهداف العمل الإسلامي قمع أهل الكفر والضلال، وأن يكون الدين كله
لله، وأن تعلو راية الإسلام، فإذا كانت النتائج على الضدِّ من هذا، وكانت ضعفاً
للمسلمين وإذلالاً لهم وشفاءً لصدور الكفار والفسقة والعلمانيين، فلماذا لا نراجع
حساباتنا لنعرف ما إذا كنا قد أخطأنا التقدير، والرجوع إلى الحق خير من التمادي
في الباطل.
إننا مأمورون شرعاً بأخذ كافة الاستعدادات المادية على المستوى البشري ثم
نتوكل على الله ولانقلب الآية فنفسر التوكل تفسيراً غير صحيح، ونقوم بأعمال
ضعيفة باسم التوكل على الله، كما أنه لا يجوز أن يجرنا اليأس والإحباط، أو
تخاذل البعض وارتمائهم في أحضان أعداء الإسلام وتأويلاتهم الفاسدة، لا يجوز أن
يجرنا إلى أعمال لسنا مقتنعين بها.
هل يظن المسلمون أن الرعيل الأول من المسلمين لم يكونوا على علم واسع
بعدوهم ومقدرته ومعرفة طبيعته من كل الجوانب، ألم يكن أبو بكر - رضي الله
عنه - عالماً بأنساب العرب تفصيلاً؟ وهذا أمر مهم للدعوة. ألم تكن قريش -
بسبب تجارتها - تعرف أرض فارس والروم، وطرق المواصلات وخصائص تلك
الشعوب؟ ألم يكتب عمر - رضي الله عنه - لسعد بن أبي وقاص طالباً منه
وصف أرض العراق وأرض المعركة كأنه يراها؟ ألم يُعين القادة الفاتحون أمثال
خالد وعمرو بن العاص ويزيد بن أبي سفيان - رضي الله عنهم - من أولي الخبرة
الشخصية القيادية؟ ولم يؤمَّر من هو أعلم منهم في أمور الدين. فلماذا تترك أمور
خطيرة لأصحاب النوايا الطيبة ممن ليس عندهم الخبرة الكافية.
نحن نعلم أن هذا الكلام لن يعجب الكثيرين من الناس، ولكن لابدّ من قول
كلمة الحق، ولابد من النصح لخاصة المسلمين وعامتهم، ولا نقصد من النصح -
علم الله - تجريحاً لفرد أو جماعة مع علمنا أن الذي حدث ويحدث كان بنية طيبة،
ولكن هل تكفي النوايا الصادقة؟ أم يجب الأخذ بالركن الثاني وهو الصواب في
العمل.
(١) قد وقع هذا ولا داعي لذكر الأسماء.