للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

البيان الأدبي

في رحاب هجوم السلام [*]

محمود مفلح

قليلةٌ هي القصائد الأصيلة المقنعة في هذا الزمن زمن الغثاء والهباء. ولا

يكاد الواحد منا وهو يقرأ مئات القصائد يعثر على واحدة تستوقفه وتغريه. ومن

هذه القصائد النادرة - ولا أقول القليلة - التي وقفت عندها طويلاً قصيدة أخي

الدكتور الشاعر المتألق عبد الرحمن بارود المنشورة في العدد (٤٩) من مجلتنا

(البيان) بعنوان (هجوم السلام) .

والشاعر الدكتور عبد الرحمن بارود مقلّ في نشره ومتشدد في هذا النشر،

والذي يقرأ مقدمة ديوانه- غريب الديار - الصادر عن دار الفرقان بعمان يعجب

لهذا (البخل في النشر) وهذا الحرص على البقاء في الظل ... ولا أبالغ إن قلت -

وأنا مطمئن - إنه شاعر المرحلة، بل يقف بجدارة على رأس قائمة شعراء العصر

الحديث، وإن قصيدته المذكورة آنفاً والتي مطلعها:

يا حمام السلام عد يا حمام ... لا يفلُّ الحسام إلا الحسام

تؤكد ما أقول. فالقارئ العادي أو المتعجل قد لا يرى فيها شيئاً غير عادي،

ولكن القارئ الحصيف المتمرس ذا الذوق الناضج يدرك أن هذه القصيدة جمعت بين

البساطة والعمق، بين الحاضر والتاريخ، بين الأصالة والمعاصرة، وطرحت

الموضوع طرحاً ذكياً مقتدراً مستفيدة من كل عناصر الإبداع الشعري.

وقد زادها زخماً تلك الخيوط التاريخية التي دخلت في نسيجها والتحمت في

بيئتها التحاماً عضوياً لا أثر فيه للتصنع أو الادعاء.

والخواجا شيلوك في الذبح ماض ... منذ أن غلّنا " اللنبي " الهمام

أوَ غيرَ الساطور يبصر شيئاً ... تاجر البندقية اللحَّام؟

وأبرز عنصر من عناصر هذا النص الشعري عاطفته المتأججة التي تصل

إلى حد الفوران أو حد الشتيمة أحياناً.

ثَكِلتْ أُمُّكمْ.. أليسَ لديكمْ ... غيرُ: (عاش السلام) (يحيا السلامُ) ؟ ؟

ثم توبيخ وتقريع:

أينَ مليارُ (لا) ؟ ومليارُ (كَلاّ) ؟ ... أين تلكَ المحرَّماتُ الجِسامُ؟

ما لتلكَ " اللاءاتِ " تهويْ تباعاً؟ ... وَهَلْ صار ربُّنا (العمُّ سامُ)

ولا يخفى ما لإشارات التعجب والاستفهام من دور في تثوير النص وشحنه

بطاقة فنية عالية. كما لا يخف ما للتضاد من دور في تلوين النص وخروجه عن

المألوف،

عادتِ النارُ في البراكيِن ثلجاً ... وتخلى عن الرُعودِ الغَمامُ

قد قَلبتُمْ كل الموازينِ قلباً ... وغدا أوَّل الحلالِ الحرامُ

وتبلغ القصيدة ذروة تأثيرها في المقطع الأخير الذي يقول:

وَقَعَ السقْفُ يا صناديدَ قومي ... أوَ صاحونَ أنتمو أمْ نيامُ؟

أين فتحٌ؟ ؟ وأين: (إنَّا فَتَحنا) ؟ ... شدَّ ما غَيرَّتْكُمُ الأيامُ! !

ويبقى جواب هذا السؤال الملح الذي ترفعه الأمة كلها عند تجار الشعارات

ودهاقنة السياسة والمنظّرين.

ولكن القصيدة لا تمهلنا كثيراً، إذ تضع الأمور في نصابها حين تقول:

سُورةُ الفتح أُنزِلتْ في رعيلٍ ... اَلعماليقُ عندَهم أًقْزامُ

نَفَروا خَلْفَ قائد من قُريشٍ ... عَقِمتْ عن نظيرِهِ الأرحامُ

إي وربي يا أبا حذيفة (العماليق عندهم أقزام) والأقزام عند بني قومنا عماليق، إننا بحاجة إلى مثل هذا الشعر الأصيل الموهوب المتمكن، لنزيل ركاماً ورثناه

في عهود الضعف والهزيمة.

وإننا نطالب أخانا الدكتور عبد الرحمن بمزيد من الإبداع ومزيد من النشر،

حتى تعود إلى الشعر عافيته، وإلى ميدان الشعر فرسانه الحقيقيون.


(*) قصيدة للدكتور الشاعر عبد الرحمن بارود نشرت في البيان (٤٩) .