للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

أخيراً..

تدخلت أمريكا لإنقاذ البوسنة! !

بقلم: د. عبد الله عمر سلطان

بالإمكان اعتبار صيف هذا العام أكثر المراحل خطورة وأصعبها بالنسبة

لمستقبل البوسنة، فتتابع الأحداث، وتوالي الفواجع، وتفجر المفاجآت شرقاً وغرباً

أدى إلى بروز وقائع ومعطيات جديدة، كل منها بحاجة إلى دراسة وافية ومنفصلة،

وإن كانت الأحداث ساخنة بهذه الدرجة: فإن درجة الحرارة لا يمكن أن تخفي معالم

الخريطة النهائية التي يحملها فريق المفاوضات الأمريكي المتجول بين مراكز القرار

وأطراف الصراع..

هذه الخرائط التي وصفها دبلوماسي أمريكي كبير لمجلة (الإيكونمست) بأنها

كارثة أخرى تحيق بالمسلمين في البوسنة، تعتبر المحصلة الطبيعية لمجازر

(سربنيتسا) و (جيبا) والتفوق الكرواتي المدعوم في (كاريينا) ..، وإن كان الفريق

الأمريكي قد فقد أبرز عناصره في حادث سيارة (روبرت فريزر) فإن أمريكا

وخطتها الجديدة وتحركها مع كرواتيا قد أكد حقائق مهمة يجب أن تلغي بعض

الأوهام والنتائج المشوشة التي ظلت تردد عن الصراع في البوسنة..

العم سام قرر أن يتدخل! :

ظل المسلمون يُذبحون أربعين شهراً، وشهد العالم بالصوت والصورة طرقاً

جديدة في البربرية والوحشية والطغيان، وظلت أمريكا تنفرد عن العالم الغربي

بموقف دعائي وإعلامي (يدّعي!) التعاطف مع الضحية المسلمة، ولم يكن أمام

صانعي القرار من بُدّ، فالرأي العام الذي شهد الجريمة بكافة تفاصيلها ظل يبحث

عن مبادئ الحرية والعدالة اللتين ظلتا مخدراً ومبرراً أمريكيّاً تلاحق به الشعوب

والأنظمة التي تمس مصالح (سيدة النظام العالمي الجديد!) ، ولم يكن موقف

(بوش) يختلف عن موقف (كلينتون) ... ولم يترجم الكونجرس تعاطفه الخطابي إلى

قرار ملزم برفع العدوان عن الضحية، والسماح له باستخدام السلاح لحماية دينه

وعرضه وماله.

الدور الأمريكي الحقيقي هو الذي أُنضج على أجساد العزل (المسحولين) في

(جيبا) والذي رأى النور بعد اكتشاف مقابر ملعب كرة القدم الجماعية لشهداء

(سربنيتسا) ، لقد أظهرت الأحداث أن أمريكا قادرة على الحركة، وبقوة رهيبة؛

فحليفها الجديد الجنرال الشيوعي السابق (توجمان) الذي يحكم (كرواتيا) هو الذي

حرك الأحداث غرباً بعد أن فجرها (سلوبودان ميلوسوفتش) شرقاً ...

الصحافة الألمانية تتحدث بشيء من الحذر عن المساعدات الهائلة التي مكنت

الكروات من الاستيلاء على جيب (كرايينا) خلال أقل من أربعة أيام، في حرب

خاطفة ذكّرت مراسل الـ (سي إن إن) بعاصفة الصحراء؛ فالطريقة التي أُديرت

بها المعركة أعادت إلى الأذهان التفكير الاستراتيجي الأمريكي، والتنفيذ الذي أعاد

إلى الأذهان صورة (شوارتزكوف) .

من جهتها: سربت الصحافة الفرنسية تفاصيل التنسيق (الأمريكي الكرواتي)

الذي ربما لن يُكشف عنه إلا بعد عقود، نظراً لحساسية الدور الأمريكي في التحرك

العسكري الكرواتي، والذي يشمل من ضمن ما يشمل (تزويد الكروات بأسلحة

متقدمة ومستشارين عسكريين، وبأهم من ذلك: معلومات وصور دقيقة لمراكز

الوجود العسكري الصربي) ... وإذا أضفنا التحرك الدبلوماسي الذي حيّد الصرب

وأعطى الجزار من طراز (ميلوسوفتش) أو (كراديتش) ضبط النفس وتلقي هزيمة

من هذا الطراز بكل روح رياضية، فإن (الإنزيم) الأمريكي الذي أضيف إلى

التفاعل يصبح مفضوحاً جدّاً..، أو كما تقول (الإيكونمست) البريطانية: (تحول

بسرعة فاضحة من الدبابة إلى حقائب الدبلوماسيين) .. وما أدراك ما في حقائب

مبعوثي (كلينتون) ؟ ! .

الخطة الأمريكية: وأد البوسنة إلى الأبد:

مايثير الفزع هو هذا اللهاث وراء طبيعة وعطف وحيادية أمريكا تجاه مسلمي

البوسنة، لقد ظلت تلك الأوهام تدير رؤوس العجزة وقتاً طويلاً وكلما تمادى

الممقوت (اللورد أوين) في مؤامراته أو كشف (بطرس غالي) عن لؤمه وخسته،

تلفّتَ الأيتام إلى مائدة الأمريكان اللئام باحثين عن المنقذ، وطالبين النجدة في صيحة

هستيرية تقول: (واأمريكاه! !) .. وجاءت أمريكا بجحافلها الدبلوماسية لتقدم خطة

(سلام) جديدة هي الأسوأ في تاريخ البوسنة، فإن كانت حكومة البوسنة قد وافقت

في السابق على خطة مجموعة الاتصال الدولية التي تقسم البوسنة إلى كيانين:

أحدهما صربي، والآخر كرواتي مسلم، مع الاحتفاظ بالبوسنة الشرقية، والتناوب

على رئاسة الدولة بين الأعراق الثلاثة، ورغم ما كتب عن بشاعة الخطة بحق

الضحية المسلم، وفرض الذل على المسلمين الذين سينتهي وجودهم ضمن كيان

مستقل، إلا أن هذه التحفظات تتلاشى اليوم أمام الخطة الأمريكية التي وصفتها

(النيويورك تايمز) بأنها: (قبر مفصل جيداً) .

والخطة الأمريكية الجديدة تقوم على ثلاثة مبادئ رئيسة:

* إنهاء البوسنة ككيان مستقل من خلال إعطاء كانتونات الصرب والكروات

حق الالتحاق بالكيانين الصليبيين المجاورين.

* إنهاء حلم قيام وحدة إسلامية في البلقان من خلال تسليم (سربنيتسا)

و (جيبا) إلى الصرب، وانتزاع (غوراجدا) الممر الإسلامي الوحيد بين البوسنة

والبوشناق.

* إعادة تأهيل نظامي (صربيا) و (كرواتيا) المجرمين من جديد،

وتصويرهما كقوى معتدلة رغم حجم الجرائم التي ارتكبت من قِبَل قادة الكيانين ضد

المسلمين.

لقد تأكد خبث الخطة الأمريكية من خلال الضغط الهائل الذي مارسته إدارة

كلنتون على حليفها (توجمان) بُعَيْد استعادته لإقليم (كرايينا) ، حيث منعته من

مواصلة الحرب ضد الصرب في البوسنة؛ لأن هذا بشهادة الجميع يعيد بعض

الأراضي المغتصبة إلى المسلمين، وهذا ماتعارضه (واشنطن) وتسعى إلى منعه،

فالمطلوب: دولة تسمى (البوسنة) ، ولاتملك من أمرها شيئاً، بل هي مرتبطة ب

(كرواتيا) ، تماماً كارتباط دويلة لبنان الجنوبي بإسرائيل، حيث يصبح رئيس

البوسنة في منزلة (سعد حداد) أو (أنطوان لحد) ! !

كرواتيا تأكل الثمرة والبوسنة تبتلع الشوك! :

هذا الحليف الكرواتي الذي مزق كل المعاهدات والاتفاقات المبرمة بينه وبين

المسلمين يعود اليوم (كأخ وصديق) للبوسنة؛ فقد استعاد معظم الأراضي التي سلبت

منه، وترك ١٥٠ ألف صربي يرحلون إلى البوسنة، لكي يهربوا بسلاحهم وحقدهم

وبربريتهم ويساهموا في تغيير وجه الخريطة السكانية التي وُضعت الخطة

الأمريكية على أساسها، فقد (حسبت الخطة الأمريكية التي أُعدت منذ شهور عدد

اللاجئين الصرب قبل إجلائهم، مما يدل على (براءة) العم سام) .

الكروات سبق أن هاجموا المسلمين، وذبحوهم من الوريد إلى الوريد..

و (موستار) تشهد على بربريتهم وحقدهم، أما ما ظهر أخيراً من خطط معدة بين

الصرب والكروات لاقتسام البوسنة، فقد أصبح (واقعاً) أكثر من مجرد أحلام، إنها

ألغام تفاجئنا كل صباح وتؤكد لنا الإجرام النصراني المكشوف دون مرعاة لأدنى

المشاعر.

لقد حرصت الصحافة البريطانية على نقل الصورة التي بدأت (كرواتيا) في

ممارستها منذ اليوم الأول لانتصارها في (البوسنة) ، فبدأت في ابتزاز الحكومة سرّاً

للقبول بالخطة الأمريكية، وأخذت وحداتها العسكرية في إعطاء الأوامر للجيش

البوسني بأسلوب التابع والمتبوع.

أما سياسيّاً: فقد كشف مصير المنشق الخائن (فكرت عبديتش) عن أن

(كرواتيا) تسعى لدعم المنشقين والعابثين بمصير المسلمين، حتى لو كان محارباً لها

بالأمس، ورفضت (كرواتيا) المدعومة أمريكيّاً طلباً للحكومة البوسنية تسليم المجرم

الخائن (عبديتش) ، بل وأعطته جنسيتها، ووفرت له حماية وملجأً ووظيفة جديدة،

ربما كانت قيادة الجيب البوسني الذي ترسم تفاصيله اليوم.. ويتآمر العالم لإخراجه

لنا في الغد..!

هل من المصادفة أن تمر على العالم الذكرى الخمسين لإسقاط قنبلة هيروشيما، في الوقت الذي كان الغرب يمارس فيه بربريته ووحشيته مرة أخرى على أجساد

الضحايا وما سيؤول إليه مصير الأبرياء.. في بقعة أخرى تسمى البوسنة؟

إن أحرقت قنابل أمريكا الأطفال وشوهتهم لإثبات جبروتها في اليابان، فإن

صيحات الضحايا في البوسنة تتحدث عن وحشية حضارة الغاب، التي ورثت من

الوثنية الرومانية: عبادتها للقوة، وتقديسها للسحق، وإنتشاءها بالخراب هنا.. أو

هناك!