للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مقال

فرنسا والنزعة العنصرية

في توجهاتها إلى متى؟

أحمد عبد العزيز أبو عامر

تمهيد:

كان للمفكرين الفرنسيين الكبار أمثال (مونتسيكيو) صاحب (روح القوانين)

وجان جاك روسو صاحب (العقد الاجتماعي) وديدرو وغيرهم - مع التحفظ على

توجهاتهم - كان لهؤلاء المفكرين دورهم الكبير في إيقاظ شعلة الثورة الفرنسية عام

١٧٨٩م والتي أصبحت أبرز معالم التاريخ الأوربي المعاصر، والتي بواسطتها تم

التخلص من جبروت الكنيسة وظلم الإقطاع. والتي كان هتافها (الحرية والمساواة

والإخاء) وعنها صدر ما يسمى بحقوق الإنسان لأول مرة في التاريخ المعاصر.

إن ما تعيشه فرنسا اليوم من التوجهات العنصرية حيال الوافدين عليها لم يعد

مجهولاً بعد أن صار مكشوفاً بما كتب عنه من أبحاث ودراسات وكتابات صحفية

متوالية كما سنرى.

والحقيقة أن ما جاء في المثل والقيم الفرنسية التي جاءت بها ثورتهم

وتضمنتها قوانينهم لا تتفق وما نتج من ظلم طيلة سنوات استعمارهم لكثير من

البلدان الإسلامية حين امتصت خيراتها، وابعدت الحكم بشريعتها، وحاولت بشتى

الطرق إشاعة لغتها وفكرها، واصطنعت أطراً فرانكفونية لتخلفها في سياستها

وإشاعة ثقافتها من بعدها والتي ما زالت أمينة على رسالتها وما برحت تتقدم

للانتخابات في بلدانها بتوجيهاتها الفرانكفونية.

وخرجت أوربا منهكة القوى بعد الحرب العالمية الثانية وتقلص نفوذها لحساب

القوتين العظميين (أمريكا والاتحاد السوفييتي السابق) لكن سوء الأحوال في كثير

من البلدان العربية وبخاصة دول شمالي أفريقيا ومظاهر الوفرة والازدهار

الاقتصادي والتي عرفتها دول أوربا منذ الستينات دعا كثيراً من سكان تلك الدول

إلى النزوح إلى دول غرب أوربا، وبخاصة فرنسا، حتى وصل عددهم إلى ما

يزيد على مليون نسمة في غالبيتهم العظمى من المسلمين.

وهناك فئة سبقتهم للنزوح إلى فرنسا ممن شاركوا في الجيش الفرنسي - جهلاً

منهم أو ربما رغماً عنهم - أبان الحرب العالمية الأولى. وهذا التجمع الإسلامي

الكبير في السنوات الأخيرة وبعد مد الصحوة الإسلامية نتج عنه وجود أكثر من ألف

مسجد وأكثر من ٦٠٠ جمعية إسلامية تظهر طابعها الإسلامي ويؤذن للصلاة خمس

مرات في اليوم في باريس بواسطة راديو محلي. بينما لم يكن في بدايات

السبعينات أكثر من عشرة مساجد والقليل من الجمعيات المحدودة إذ أن كل الوافدين

للعمل هناك في ضياع وعدم التزام بالإسلام.

لكن هؤلاء الوافدين المسلمين يعانون في السنوات الأخيرة أشد المعاناة من

النظرة الدونية لهم لا سيما بعد ظهور التوجه الإسلامي فيما بينهم. وبعد ظهور

اتجاهات عنصرية يؤججها حزب رسمي هو (حزب الجبهة الوطنية) بزعامة جان

ماري لوبان والذي دخل الانتخابات الفرنسية الأخيرة وحصل على نسبة ١٤% من

أصوات الناخبين ومن أبرز طروحاته طرد كل الوافدين وسحب الجنسية ممن نالها

منهم..

المظاهر العنصرية حيال المسلمين في فرنسا:

بعد ظهور ذلك الحزب العنصري يلمس المتابعون كثيراً من المظاهر

العنصرية حيال المسلمين تتمثل فيما يلي:

١- ما تنشره الصحف اليمينية من تحقير للأجانب وتخويف وإثارة للرعب

من المسلمين الذين يصورون زوراً بأنهم إرهابيين ومعادين للديمقراطية.

٢- التخويف من تزايد المسلمين الذين ستؤدي زيادتهم في زعمهم إلى أسلمة

أوروبا عبر تزايد هجراتهم، يقول (لوبان) : إننا لا نريد أن نعيش في المستقبل

الذي نرى فيه الفرنسي يشحذ على أبواب المساجد الفرنسية يوم الجمعة.

٣- إصدار قوانين تحد الهجرة! ويقصد بها في المقام الأول المسلمون.

بالإضافة إلى ظهور القيود التي تعوق الإقامة هناك.

٤ - الغلظة التي يعامل بها الوافدون في المطارات والموانئ والتي بلغت إلى

حد إقامة سجون خاصة للوافدين.

٥- المضايقة للملتزمين من المسلمين عند ظهور السمات الإسلامية عليهم،

ولا يغيب عن البال معاناة الطفلتين المسلمتين وطردهما من المدرسة حينما لبستا

اللباس المحتشم حتى وصلت مسألتهما إلى المحاكم الفرنسية، بينما لا يتخذ نفس

الإجراء ضد (الراهبات) اللاتي يلبسن نفس اللباس تقريباً.

٦- تعريض المهاجرين المسلمين للقتل والاغتيال بصورة بربرية لا يمكن

بحال من الأحوال قبولها لتنافيها مع أبسط القوانين السائدة، ومنها إلقاء أحد العمال

من القطار وهو يسير بسرعة وقد حولت قصته إلى فيلم سينمائي أظهر همجية هذا

التصرف.

٧- طرد العمال العرب المسلمين من المصانع والاستغناء عنهم واستبدالهم

بعمال وافدين من أوربا الشرقية.

لم يقتصر هذا التوجه العنصري على حزب لوبان فقط؛ وإنما تعداه إلى

بعض المسؤولين الكبار حينما وصل الأمر برئيس الوزراء السابق (جاك شيراك)

إلى الحديث عن المهاجرين العرب المسلمين بأسلوب فج وقبيح حينما اعترض على

نمط حياتهم كتعدد الزوجات وكثرة الأطفال وما زعمه من روائح الأطعمة! !

والحقيقة أن هذا التصريح لا يعود لتلك الأسباب فقط، وإنما يعود للطعن في الدين

الذين ينتمون له. وهذا غيض من فيض، وما تخفي صدورهم أكبر.

أسباب ظهور النزعة العنصرية:

لدارسي هذه الظاهرة عدة توجهات في تعليلها ومنها:

١- ما يعود لخوف أوربا من التزايد المتصاعد في نسبة العرب بالنسبة لأوربا

فأوربا حالياً بها ٣٤٠ مليون نسمة، في حين يبلغ سكان العالم العربي ٢٢٥ مليون

نسمة وإذا استمرت الحال على ما هي عليه فإن عدد سكان العالم العربي سيفوق

سكان أوربا عام ٢٠١٥ وهذا يشكل عامل يقلق الأوربيين لعدة أسباب أظهرها

الانفجار السكاني في الدول الواقعة جنوبي البحر الأبيض المتوسط والظروف

الاقتصادية والسياسية التي تشجع على هجرة أعداد لا طاقة ولا رغبة لأوربا في

استيعابها مما يوجد نفوراً شعبياً بينهما.

٢- الزيادة المضطردة للوجود غير الفرنسي في فرنسا والذي يرونه يهدد

بتغيير الملامح الأساسية لمجتمعهم وكذلك الأسس الثقافية والحضارية التي تقوم

عليها فرنسا منذ قرون.

٣- ظهور العمال العرب والمسلمين وغالبيتهم من شمال أفريقيا في

الاضطرابات التي حصلت في السنوات الأخيرة، وكانت نقابات العمال الفرنسية

تدفع بالعرب لرئاسة لجان الإضراب فيبدون أمام الرأي العام الفرنسي وكأنهم جاؤوا

إلى فرنسا لكي يخربوا ويدمروا اقتصادها.

٤- شعور الفرنسيين بأن وجود هذه الألوف المؤلفة من العمال الأجانب

يستأثر بفرص العمل دونهم.

٥- التكلفة التي تترتب على وجود العمال الأجانب على الخزينة الفرنسية

لصرفها أموالاً لهم للضمان الاجتماعي والصحي والتقاعد تقدرها القوى العنصرية

٢١٠ مليار فرنك فرنسي أي حوالي (٤٠ مليار دولار) مع العلم أن هذه التكلفة

يدفعها العمال الأجانب خلال الضرائب المقتطعة من رواتبهم الشهرية.

٦- بعد ظهور الصحوة الإسلامية بين العمال المهاجرين وتشبثهم بهويتهم

الإسلامية، ورغبتهم في الحصول على الوسائل التي تسمح لهم بممارسة شعائرهم

وأهمية احترامها، ما يرونه يعطل العمل في زعمهم.

٧- ظهور بعض الجرائم التي قد يرتكبها بعض الأجانب هناك ثم هناك عامل

الضوضاء فالحياة العربية الإسلامية لها تقاليدها في التواصل الاجتماعي بعكس

الحياة الفرنسية المغلقة مما يضايق الفرنسيين. وبالرغم من كون هذا العامل ثانوياً

إلا أنه لعب على أرضية الواقع الفرنسي دوراً مهماً في تصعيد المد العنصري ضد

العمال العرب.

٨- يحمّل كثير من الفرنسيين مسألة تدهور جهات التعليم عندهم لوجود أبناء

الأجانب في المدارس الابتدائية ومعظمهم لا يجيدون الفرنسية.

نعم فرنسا عنصرية:

يحاول بعض الباحثين بادعاء الموضوعية والظهور بمظهر الليبرالية الكاذبة

بأن فرنسا ليست عنصرية كما جاء في كتاب (هل فرنسا عنصرية؟) للأستاذ

شريف الشوباشي. والذي لم يجرؤ على القول بهذه الحقيقة وراح يبعد عن الواقع

بفلسفة لا مبرر لها. فهو يقول: إن الإجابة بلا فقط أو نعم فقط يظل ناقصاً وغير

صحيح. وحينما سأل هل فرنسا عنصرية قال: الإجابة على السؤال لا اعتقد أنها

بسيطة لكن إذا نظرنا إلى فرنسا اليوم وخصوصاً في السنوات الثمان أو العشر

الأخيرة نجد أن هناك اتجاهاً عنصرياً قوياً. وإن هذا الاتجاه يزيد ويستشري وقد

يتبلور في حزب سياسي على الساحة - حزب الجبهة الوطنية - إلى أن قال: إن

الذين صوتوا للوبان بنسبة ١٤% ليسوا كلهم من العنصريين ومن الظلم أن نقول إن

المجتمع الفرنسي هو مجتمع عنصري لأن هذه النزعة إنما هي وليدة شبح الأزمة

الاقتصادية فهي السبب وراء هذه الظاهرة.

إن الأستاذ الشوباشي في رده لم يكن جريئاً ولم يقل الحقيقة، فإن ما أوردته

من مظاهر عنصرية ضد العمال العرب كالشمس في رابعة النهار وإقرار حزب

عنصري من الدولة الفرنسية يتقدم للانتخابات الرسمية هو تكريس بهذا المبدأ.

والجهود الكبرى من الحكومة والشعب الفرنسي لتمويل آلاف المبشرين الذين زرعوا

في كثير من الدول الإسلامية للتبشير بالنصرانية بين المسلمين لا يحتاج إلى دليل،

كل هذه التوجهات العنصرية تسود في الوقت الذي وضعت الدولة الفرنسية نفسها

من النظم والقوانين ما يحارب العنصرية ويجرمها والعاملين بها، كما أورد ذلك

الأستاذ الشوباشي في أحد فصول الكتاب آنف الذكر.

وحتى نؤكد هذا للقارئ الكريم أورد ما كتبه الباحث الفرنسي (ميشال

فيفيوركا) في كتابه (فرنسا العنصرية) وهو حصيلة بحوث ميدانية أجراها الباحث

المذكور مع فريق عمل مؤلف من ستة باحثين حول المشاكل التي يواجهها المجتمع

الفرنسي اليوم خصوصاً على المستويين الاجتماعي والثقافي حيث أوضح الكتاب

نزوع المجتمع الفرنسي نحو العنصرية ليس على ضوء نتيجة حزب الجبهة الوطنية

العنصري فقط وإنما يذهب إلى أبعد من ذلك حينما يغوص في الأسباب والدوافع من

خلال رصده لبعض أوجه الحياة الاجتماعية الفرنسية السائدة في مناطق فرنسية

توجد فيها نسبة مهمة من المهاجرين حيث تطفو ملامح الأزمة العنصرية أكثر من

أي مكان آخر، وهذا ما تعبر عنه آراء العديد من الفرنسيين الذين ألتقى الباحث

وزملاؤه بهم، ومن المناطق الساخنة التي تشهد تعاظم الصراع بين الفرنسيين

والأجانب على سبيل المثال كلاً من (روبيه وموروس ومارسيليا ومونفرماي

وسيريجي) . وبعد أن أرجع أسباب ظهور النزعة العنصرية إلى أسباب اقتصادية

وسياسية واجتماعية قال بأنها دفعت إلى الصراع الداخلي الذي تعيشه فرنسا حالياً،

ويتمثل في النزعة العنصرية من الفرنسيين ضد المهاجرين وبالتحديد حيال القادمين

من دول المغرب العربي ومن دول أفريقيا الأخرى. ثم تحدث عن وجود العنصرية

اللفظية والتي أذكر منها أقوال الفرنسيين التالية: (يجب أن لا ندخل الأمكنة التي

يوجد بها مغاربة!) ، (وإنهم كالحيوانات لا يتغيرون!) ، (عاداتهم غريبة

ومتوحشة) ! مما يعكس مدى الحقد على الآخر. ودعوتهم للتخلص من الأجنبي بأي

ثمن لا سيما وأنهم يرون أن الأجانب هم الذين وراء الأزمات الاقتصادية وتزايد

العاطلين. ومما يجدر ذكره أنه سبق أن صدر للمؤلف (فيفيوركا) كتاب سابق

بعنوان (فضاء العنصرية) ويعتبر كالجانب النظري لكتاب (فرنسا العنصرية)

والكتابان يعكسان اهتمام المثقفين الفرنسيين بمعالجة هذه المشكلة، وينطويان ولا

شك على إدانة لمختلف أشكال العنصرية التي يعتبرها المؤلف مرضاً يهدد

المجتمعات ومدى قدرتها على الاستمرار.

المراجع:

١- هل فرنسا عنصرية لشريف الشوباشي.

٢- دراسة الإسلام المهاجر في الدولة القومية (الحياة من ١٠٧٠٠-١٠٧٠٢) .

٣- الشرق الأوسط ٤٩٨٢، ٤٩٣٣.

٤- مجلة الشروق العدد ١٦.