[قضية للمناقشة]
من سُنَّة الله - عز وجل - في الخلق اختلاف الناس في معارفهم وأفهامهم،
وليس بالضرورة أن يكون هذا الاختلاف محصوراً في دائرة الصواب والخطأ فقط؛
بل قد يكون اختلافاً في التنوع تظهر فيه درجات من الاجتهاد والنظر اقتضاها
اختلاف زاوية النظر والتأمل، أو الاطلاع على دائرة أوسع من العلوم، أو الانفتاح
على أفق أرحب من الفهم والفقه، أو اقتضاها اختلاف النظر إلى المآل والعاقبة
المتوقعيْن للأمر نفسه.
ومن سنة الله - عز وجل - تجدد الحوادث والوقائع في الحياة، ولذا: كان
الاجتهاد المنضبط بالأصول الشرعية أحد مميزات الشريعة الإسلامية السمحة،
ولذلك أيضاً: ظهر الخلاف في النوازل والمستجدات بين أئمة المسلمين بدءًا من
عصر الصحابة الكرام - رضوان الله عليهم - حتى عصرنا الراهن، وهو خلاف
قد يُنظر إليه على أنه ثراء في الرأي وتنوع في الوقائع، بل قد ينظر إليه بعض
أهل العلم على أنه فسحة في العمل ورحمة للخلق!
على أرضية هذه المفاهيم كلها تفتح مجلة البيان باب المناقشة لنازلة جديدة
على المسلمين، ألا وهي مسألة مشاهدة المواد التلفزيونية، سواءًا أكانت عن طريق
البث المباشر أو المشفر أو عن طريق الفيديو أو الإنترنيت أو غيرها من التقنيات،
والبيان تطرح على صفحات هذا العدد مشاركتين قد تبدوان لدى بعض القراء أنهما
تحملان وجهتي نظر مختلفتين، وقد يبدو لقرَّاء آخرين أن كلاَّ منهما يعالج القضية
من زاوية نظر مختلفة وليست متعارضة، وقد يبدو لآخرين أن كلاًّ منهما موجَّه إلى
واقعيْن متغايريْن ووسطيْن مختلفيْن.
وأيًّا كانت نظرة القارئ إلى المقالين فإن تطرحهما وتفتح باب المناقشة حول
الموضوع والاجتهادات فيه.
ولكن عندما نتحدث عن (اجتهادات) فلا يفوتنا أن نتذكر أن الاجتهاد مهما
علا قدر صاحبه فليس له أن يصادم نصاً محكماً، أو هدْياً ثابتاً، فبوسع المجتهدين
علمياً أو فكرياً في قضيةٍ ما أن يعددوا التحليلات والاستنباطات والاستنتاجات؛
ولكن ليس من حق أحد أن يُخضِع مُحكَمات الشريعة للنظر بالرأي؛ فما كان ديناً
وشريعة منذ أن نزل الوحي هو دين وشريعة إلى أن تقوم الساعة، نقول نعم
لاقتحام مشاكل العصر، ولكن بشرط ألا نتقحم المحرمات أو نتخطى الحدود إلى
الشبهات.
التلفاز أو الفيديو أو الإنترنت أو غير ذلك تعرض أشياء على الأسماع
والأبصار والقلوب، وهذه الأشياء التي تُعرض متفاوتة في نفعها وضرها، في
جدها أو هزلها، في عمقها أو سطحيتها؛ ولكن الذي لا ينبغي أن تتفاوت فيه
الأفهام ولا الاجتهادات هو أن تلك الأسماع والأبصار والقلوب هي محل إظهار
العبودية لله في أمره ونهيه: [إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه
مسئولا] [الإسراء: ٣٦] .
ونحن مع أي حل لمعضلة من معضلات العصر بشرط أن لا يحل حراماً، أو
يفتح على المسلمين المزيد من أبواب الفتنة؛ فماذا يفيد المسلم إذا أصلح دنياه وخسر
آخرته؟ وماذا تستفيد الدعوة إن أصلحت شريحة من العامة في مقابل خسارة
الخاصة من المصلحين الذين إذا أُفسدوا أوشك الله أن يعم الجميع بعقاب؟ !
لا شك أن القضية معقدة ومتشابكة، ولها تداخلاتها وتفاعلاتها؛ ولهذا كانت
تلك المبادرة من (البيان) إلى فتح باب النقاش لتفكيك تعقيداتها، وإلقاء الضوء على
أبعادها المختلفة.
والله الهادي إلى سواء السبيل.