للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

الأكراد في عالم الاضطهاد

د. يوسف الصغير

إن الكُرد أو الأكراد من الشعوب القديمة المتوطنة في المنطقة الاستراتيجية

المعروفة بكردستان، وهم شعب سني بغالبيته الساحقة، وفيهم قليل من الشيعة

والنصيرية واليهود والنصارى، ويسود فيهم النظام القبلي وقد برز منهم قادة عظام

من أشهرهم صلاح الدين الأيوبي رحمه الله.

لقد كان سقوط دولة الخلافة العثمانية بداية النهاية لعصر ذهبي عاشه الأكراد

كانوا فيه حماة الحدود الشرقية للدولة، فقد كانت مناطقهم محاذية لدولة إيران

الصفوية الشيعية التي كانت في صراع مستمر مع الدولة العثمانية، وأيضاً كانوا

يجاورون مناطق الأرمن النصارى الذين كانوا يدبرون الكثير من الفتن والدسائس

بتحريض من الدولة النصرانية، وكان دور الأكراد كبيراً في التصدي لهذه

التهديدات؛ حيث إنهم شعب محارب وموالٍ للدولة؛ ولهذا فقد تكونت قوات كردية

خاصة تعمل بنشاط في هذه المناطق سواءً في دفع الاعتداءات عبر الحدود أو في

قمع الثورات.

إن شرعية الدولة العثمانية قائمة على أساس أنها مركز الخلافة الإسلامية،

وأن الإسلام هو البوتقة التي تنصهر فيها الأمم والشعوب المنضوية تحت لواء

الدولة؛ ولهذا فقد عملت الدول الغربية على إحياء النعرات القومية وإذكاء جذوتها

في سبيل فصم العرى والروابط التي تربط هذه الشعوب، بل ومن أجل أن يحل

الصراع والتباغض محل التعاون والتآخي، وقد نجحوا في إثارة القومية الطورانية

(التركية) حتى إن جمعية الاتحاد والترقي الماسونية والطورانية في نفس الوقت

استطاعت أن تصل إلى مقاليد الحكم في أواخر الدولة بعد خلع السلطان عبد الحميد

(١٩٠٨) ، حيث عملت على تطبيق ما يسمى بسياسة (التتريك) مما ساعد على

تنامي القومية العربية ممثلة رد فعل على سياسة (التتريك) ، وقد ساهمت هذه

الجمعية بسياساتها الخرقاء في سقوط الدولة حيث أدخلتها الحرب العالمية ألأولى

بدون مصلحة ظاهرة في ذلك. وقد نتج عن هزيمة الدولة العثمانية سلخ المناطق

العربية وتقاسمها بين فرنسا (سوريا ولبنان) وانجلترا (العراق وفلسطين وشرق

الأردن) ، وقد تعامل الحلفاء بكل عنجهية مع الحكومة العثمانية؛ حيث كانت

جيوش الحلفاء تحتل أجزاء من الدولة بل ويشاركهم في ذلك قوات يونانية تريد

احتلال أجزاء من البر التركي وضمها إلى اليونان، وقد فُرضت معاهدة مُذلة على

الدولة نصت على قيام دولة كردية تشمل الجزء الأكبر من كردستان التركية (معاهدة

سيفر عام ١٩٢٠م) ولكن حصل ما غيّر خطط الإنجليز؛ حيث إنهم تفاهموا مع أحد

الضباط الذين سبق لهم التعامل معه في سورية أثناء الحرب وهو ينتمي إلى يهود

الدونمة، وبدون مقدمات انسحب الحلفاء من تركيا وبقي اليونانيون وحدهم، وتولى

الضابط (أتاتورك) إثارة حماسة الأتراك ودعاهم لمواجهة اليونان، ولَبِسَ العمامة،

وأمّ العلماء في الصلاة، ودعا إلى الجهاد، وتم دحر اليونانيين ورجع ملكهم مهزوماً

حسيراً، بينما عاد كمال أتاتورك بطلاً بطولة مكنته من إلغاء الخلافة. وبدأ في

إجراءات جعلت الإنجليز ينسون معاهدة سيفر التي تهدف إلى تقطيع أوصال الدولة

جغرافياً، لأن أتاتورك يتولى ليس فقط تحطيم الدولة العثمانية التي كانت يوماً ما

مخيفة، بل وتحطيم الشخصية التركية المسلمة والاستعاضة عنها بشخصية تركية

جديدة لا دينية، متطرفة في تبعيتها للغرب مغلفة ذلك بتطرف قومي تركي شديد

لإرضاء الغرور. لقد قام أتاتورك بأكثر مما يحلم به الإنجليز وبسرعة قياسية حيث

ألغى الخلافة رسمياً، ومنع لبس العمامة والطربوش، واستبدل بهما القبعة، ومنع

الأذان باللغة العربية، بل وفرض الأحرف اللاتينية بدلاً عن العربية، وأخيراً أعلن

أنه لا يعترف بأي قومية أخرى غير التركية. وتم إطلاق يد أتاتورك ليكون الزعيم

الأوحد، وتحول النظام البرلماني العثماني إلى صورة ليس لها معنى، وتم ترسيخ

عبادة الفرد. ولنا أن نتصور مصير من طالبوا بإعادة الخلافة أو إقامة دولة خاصة

بهم؛ إذ كان من يرفض لبس القبعة من العلماء يُعلّق على أعواد المشانق.

إن ملايين الأكراد الذين خضعوا للإسلام وانضووا تحت لوائه ولم يطالبوا

سابقاً بدولة مستقلة لهم؛ قد استحال عليهم تقبّل الوضع الجديد الذي يطلب منهم

الانسلاخ عن مقومات شخصيتهم ونسيان أنهم مسلمون أولاً وأكراد ثانياً، والقبول

بوصف جديد تفتقت عنه عبقرية النظام الأتاتوركي حيث أطلق عليهم: أتراك الجبل.

لقد كانت ثورة الشيخ سعيد هي أول ثورة كردية منظمة، وقد قامت احتجاجاً

على إلغاء الخلافة ومطالبةً بقيام دولة كردية، وكانت دوافع الأكراد في الثورة

مختلطة بين الدين والقومية في وقت ألغيت فيه دولة الخلافة وقامت على أنقاضها

دول وكيانات قومية؛ حيث أقيمت الجمهورية التركية وكيانات: سورية، ولبنان،

والعراق، وتم تجاهل الأكراد، بل قسمت مناطق الأكراد التي كانت خاضعة للدولة

العثمانية بين تركيا والعراق وسورية على النحو الآتي:

تركيا (٤٣%) وإيران (٣١%) والعراق (١٨%) وسورية (٦%) وأذربيجان

(٢%) . أما السكان البالغ عددهم حوالي (٣٠) مليون نسمة فيتوزعون على الشكل

الآتي:

تركيا (٥٠%) وإيران (٢٢%) والعراق (١٥%) وسورية (٤%) وأذربيجان

(٢%) والبقية خارج كردستان. وعلى سبيل المثال فإن هناك حوالي نصف مليون

كردي في ألمانيا.

إن التواجد الكردي يتركز في كل من تركيا وإيران والعراق، ولهذا نتوقع أن

أي احتجاجات عنيفة ستكون في هذه البلدان الثلاثة، ومن المفارقات أن كل هذه

الدول مجمعة على عدم قيام كيان كردي في المنطقة ومع ذلك فقد تم استغلال آمال

وطموحات الأكراد أبشع استغلال، في صراعات إقليمية ودولية خلال السنوات

الماضية، وما زال هذا المسلسل مستمراً؛ ففي إيران تعرّض الأكراد للاضطهاد

أيام الحكم القومي الفارسي أيام الشاه، وضاعف منه التنافس الروسي الإنجليزي في

إيران؛ حيث تمكن الروس من تكوين دولة ماركسية في مناطق الأكراد في شمال

إيران (دولة ما هاباد) بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، إلا أنها سرعان ما

سقطت، وتم تثبيت النفوذ الغربي من جديد في إيران.

وقد انخدع الأكراد بشعارات الخميني الإسلامية فقامت الأحزاب الكردية بل

والعلماء الأكراد وعلى رأسهم الشيخ (ملاّ زاده) بتأييد الثورة؛ ولكن المأساة بدأت

مع ثبات الثورة وقيام الحرب الإيرانية العراقية؛ حيث تعرض الأكراد لحرب

دموية من قِبَل الحرس الثوري؛ لأن النشاط العسكري للأحزاب الكردية قد تزايد

بقوة نظراً للمساعدات العراقية في تلك الأيام، ولم يكن غريباً أن ترى صورة

مجموعات كبيرة من الأكراد معصوبي الأعين وجنود الحرس الثوري ينفذون فيهم

أحكام الإعدام، وليس هذا فقط بل قام النظام الرافضي بتنفيذ خطة خبيثة من أجل

تشييع الأكراد؛ حيث سجن أو قتل الكثيرين من علمائهم حتى الذين كان لهم فضل

على الثورة، وقد مات الشيخ (ملاّ زادة) في سجن الخميني مظلوماً؛ حيث شاهد

بنفسه عاقبة من يثق بعهود ومواثيق الروافض وكلامهم المعسول؛ ومما يدمي القلب

أن سجن علماء الأكراد السّنة صاحبه حملة منظمة لتدريس المذهب الشيعي للطلاب

الأكراد، وقد استطاع نظام الخميني إخضاع أكراد إيران والقضاء تقريباً على

الأحزاب الكردية، وملاحقة الزعماء الذين فروا إلى الخارج وتصفيتهم؛ كما حصل

لعبد الرحمن قاسملو؛ حيث اغتالته مجموعة قدمت نفسها له على أنها مجموعة

مفاوضات حكومية، وعقدت معه لقائين وفي الثالث تم استدراجه وقتله عام ١٩٨٩م.

أما ما يحدث لهم في العراق فهو مثال ما زال حياً لشرح وتوضيح أحوال

الشعب الكردي؛ ففي البداية تردد الإنجليز بعد احتلال العراق في مصير شمال

العراق وقد كادوا أن يسلموه لربيبهم أتاتورك، ولكن اكتشاف البترول في الموصل

وكركوك جعلهم يضمون هذه المناطق للعراق، وكانت الثورات الكردية في تركيا

وإيران وسياسة الحكومة العراقية القومية حافزاً للتململ الكردي في الشمال، وكان

يستغله بعض الزعماء القبليين الذين لهم انتماءات حزبية يسارية، وكان القتال على

الأرض يقوم به زعماء العشائر مع أقلية حزبية منظمة تقوم بالنشاط السياسي، وقد

سيطرت الأحزاب على التوجيه مع مرور الزمن وتعقد المشكلة وتشابك أطرافها؛

فعلى سبيل المثال فإن (ملاّ مصطفى البرزاني) كان زعيماً كردياً يجمع بين الزعامة

القبلية والعلاقة مع كل من يعتقد أنه يحقق أهدافه، ففي فترة مبكرة كان توجهه ذا

طابع ماركسي وقد لجأ إلى موسكو، وحضر بعض المؤتمرات الشيوعية في فترة

الحكم الملكي الموالي للغرب، وبعد ثورة عبد الكريم قاسم وسيطرة الشيوعيين الذين

يغلب على غوغائهم طائفة المعدان الشيعية وقيامهم بنشر الإرهاب الأحمر في

العراق، وارتكابهم مجازر الموصل؛ قامت الحركة الكردية التي كانت ثائرة في

الشمال بالتنسيق مع مجموعة الضباط القوميين الناصريين والبعثيين الذين قاموا

بانقلاب على عبد الكريم قاسم وتصفيته، ولكن الوضع لم يستقر في العراق

واستمرت الثورة في الشمال مع دخول إيران على الخط، ومحاولة إسرائيل التسلل

إلى مناطق الأكراد، وقد تصاعدت الثورة بازدياد المساعدات الإيرانية (أيام الشاه)

والإسرائيلية للبرزاني ولم يوقفها إلا اتفاق العراق مع إيران في الجزائر (١٩٨٥م) . وتم خنق الثورة الكردية والقضاء عليها إلى حين؛ حيث إن الحرب العراقية

الإيرانية قد دفعت إيران إلى استغلال الورقة الكردية من جديد وبدأت المساعدات

الإيرانية تنهال على أكراد العراق، والمساعدات العراقية تتوالى على أكراد إيران،

وكل دولة تقتل أكرادها، وقد استُعملت ضدهم جميع أنواع الأسلحة حتى الكيماوية

كما حصل في حلبجة؛ ولكن مصيبة أكراد العراق الكبرى حدثت بعد انتهاء الحرب

العراقية الإيرانية وتفرغ صدام المنتصر لهم؛ حيث جرد عليهم حملة شرسة سميت

حملة الأنفال لم تكتف بقتل أكثر من مئة ألف كردي بل قامت بعملية تدمير لجميع

القرى المحاذية للحدود وتهجير من بقي من سكانها إلى جنوب العراق في عمليات

تُذكّر بعمليات ستالين؛ ومع كل هذا فإن الغرب تستّر على هذه الجرائم، ولم يتباك

عليها إلا بعد غزو صدام للكويت ودشن عملية ظاهرها حماية الأكراد وسماها عملية

الراحة؛ حيث بدأت مرحلة جديدة من التدخل الأجنبي عن طريق استغلال الخلافات

المزمنة بين الأحزاب الكردية المتنافسة. وبدأت حرب جديدة أطرافها الرئيسة من

الأكراد وخاصة الحزبين الأساسيين: الحزب الديمقراطي الكردستاني (البرزاني)

والاتحاد الوطني الكردستاني (الطالباني) ، وكان الوضع في كردستان العراق بعد

خروج القوات العراقية منها عقب حرب الخليج مباشرة مأساوياً؛ فعلى الرغم من

التبشير الأمريكي بعصر جديد لأكراد العراق؛ فإن السياسة على الأرض مختلفة

تماماً؛ وإليك أخي القارئ بعض ملامحها:

أثناء حرب الخليج وبعدها مباشرة كانت التصريحات الأمريكية تتوالى بأن

مهمة إسقاط صدام هي مهمة الشعب العراقي، وتم إغراء المعارضة بالثورة وإعلان

منطقتي حظر للطيران في جنوب وشمال العراق، ولكن عندما قام الشيعة في

الجنوب والأكراد في الشمال بثورة عارمة غير منسقة فإن التحالف استثنى

الطائرات العمودية في الحظر الجوي مما مكّن الطيران العراقي من سحق

المحاولتين.

رفضت أمريكا استثناء المناطق الكردية التي هي خارج السلطة الحكومية

العراقية حالياً من الحظر المفروض على العراق، ورفضت المساعدة في بناء

مصفاة صغيرة لاستغلال كميات النفط القليلة الواقعة تحت سلطة الأحزاب الكردية،

بل زاد الأمر سوءاً أن صدام حسين قد فرض من جانبه حصاراً على المناطق

الكردية التي أصبحت تحت الحصار الدولي الشامل للعراق والحصار الداخلي

المفروض عليها.

بعد أن بدأت الاحتكاكات بين البارزاني والطالباني تم الاتفاق على تكوين قوة

مراقبة وفصل مكونة من الأكراد المستقلين وقد رفضت أمريكا دفع مليون دولار

مساهمة في تكاليفها.

كانت تركيا هي المنفذ الأساسي للتبادل الاقتصادي؛ وحيث إن البارزاني

يسيطر على الحدود مع تركيا فإن طالباني الذي يسيطر على المناطق الحدودية مع

إيران كان يطالب باستمرار بتقاسم عوائد الجمارك دون جدوى؛ مما فجر الصراع

العنيف بين الجانبين، وكانت القوات الإيرانية تشارك بصورة مباشرة في المعارك.

بعد هزيمة البارزاني لجأ إلى طلب الدعم من صدام الذي اجتاحت قواته

الشمال، وتم طرد طالباني إلى الحدود مع إيران، وسيطر البارزاني على

السليمانية، وكان الرد الأمريكي إطلاق بضع صواريخ كروز على أهداف في

جنوب العراق!

وقامت مخابرات صدام حسين بتصفية المعارضة العراقية التي وثقت

بالوعود الأمريكية، وكونت المؤتمر الوطني العراقي، وتجمعت في المناطق

الكردية حتى فاجأتها القوات العراقية، وتم تصفية الكثير منهم، وفر البقية عبر

الحدود إلى تركيا، ومعهم حوالي خمسة آلاف كردي يعملون مع المؤسسات الإغاثية

الغربية تطاردهم المخابرات العراقية بتهمة الخيانة؛ مما حرم كردستان من كثير من

الكفاءات الإدارية والعلمية.

بعد حوالي ستة أسابيع فقط من العملية العراقية قامت قوات طالباني

المدعومة من إيران بهجوم جديد استعادت فيه مناطق نفوذها السابقة ومنها مدينة

السليمانية. وهكذا استقرت أوضاع كردستان على عدم استقرار؛ لأن استقرار

كردستان العراق وتطورها يمثل الخطوة الأولى في سبيل تكوين كيان كردي

مرفوض؛ وعلى هذا الأساس نفهم السياسة الأمريكية والإيرانية والتركية معهم.

إن الفراغ الأمني في شمال العراق أوجد بيئة ملائمة لحزب كردي تركي

لالتقاط أنفاسه وتوسيع عملياته بصورة كبيرة، فما هو هذا الحزب، وما هي

ظروف نشأته؟

حزب العمال الكردستاني:

لقد أنشئ هذا الحزب عام ١٩٧٨م على يد عبد الله أوجلان الكردي الذي يتقن

التركية أكثر من الكردية والذي تخرج في جامعة أنقرة. وقد كانت شعارات الحزب

ماركسية وكان علم الحزب يحتوي على المطرقة والمنجل حتى عام ١٩٩٥م، وقد

بدأ هذا الحزب عملياته في عام ١٩٨٤م، وكانت العلاقات السيئة بين تركيا والدول

المحيطة بها أكبر رافد للحزب؛ فقد أقام الحزب أولى قواعده الخارجية في البقاع

اللبناني الخاضع للنفوذ السوري، وكان الدعم السوري الكبير للحزب نابعاً أساساً

من المشاكل العالقة مع تركيا ومن أهمها قضية المياه وقيام تركيا ببناء سدود على

الفرات مع تجاهل احتجاجات العراق وسوريا في هذا الشأن، مع وجود مشكلة

معلقة قديمة ألا وهي لواء الإسكندرونة السوري الذي سلمه الفرنسيون لتركيا. لقد

بلغ التأييد السوري لأوجلان درجة كبيرة حتى إن صور أوجلان ترفع بجانب صور

الأسد في مناطق الأكراد في سورية مثل مدينة القامشلي، وقد رددت وسائل الإعلام

التركية ادعاءها أن الحكومة السورية تسقط الخدمة العسكرية عن الأكراد السوريين

الذين يخدمون مع حزب العمال. كما تقوم اليونان بدفع حوالي (١٠%) من ميزانية

الحزب كما يزعم الجيش التركي.

أما إيران فإنها تغض الطرف عن نشاطات الحزب على الحدود الإيرانية مع

تركيا والعراق، وكان إخفاق كثير من الحملات التركية على الحزب سببه انسحاب

قوات الحزب أمام القوات التركية ولجوؤها مؤقتاً إلى إيران. إن استمرار الحزب

في نشاط عسكري لمدة خمسة عشر عاماً وسقوط أكثر من (٣٠) ألف قتيل من

الجانبين لا يسوّغه الدعم الخارجي فقط، بل إن الدعم الأساسي هو من الأكراد

سواءً في المهجر أو في الداخل؛ لأنه ينظر إليه أنه المدافع الوحيد والممثل لقضيتهم؛ على الرغم من تبني الطروحات الماركسية البالية. ولقد ساهم ارتفاع معدلات

البطالة بين الشباب الكردي في تركيا، مع اضطهاد رجال الأمن للشباب الأكراد

والشك في ولائهم في انضمام كثير منهم إلى رجال الحزب. وقد ذكر أحد

الصحفيين الغربيين الذي رافق رجال الحزب أن قادتهم يرددون شعارات ماركسية

معلبة، أما الأفراد فإنهم يتحدثون عن قضيتهم القومية، وكما ذكر أحد السياسيين

الأكراد الموالين للحكومة أن خريجي الثانويات الذين لا يدخلون الجامعات ولا

يجدون عملاً هم المَعِين الذي لا ينضب للحزب، وأن تخلف المناطق الكردية وعدم

تنميتها له دور كبير في الشعور بالإحباط والظلم.

السياسة التركية في إدارة الأزمة:

إن السياسة التركية التي رسمها أتاتورك حيال الأكراد لم تتغير منذ أكثر من

سبعين سنة وتتلخص في الآتي:

١-إنكار وجود الأكراد ومن ثَمّ عدم الاعتراف باللغة والثقافة الكردية، وهنا

نذكر طرفة وهي أن جمال عبد الناصر قد أمر إذاعة صوت العرب ببث خاص

للأكراد، مما حمل السفير التركي على تقديم احتجاج شديد اللهجة للرئيس المصري، وكان رده أن سأل السفير التركي: وهل يوجد أكراد في تركيا؟ وبالطبع كان رد

السفير الرسمي: لا.

٢-التعامل بقسوة مع أي ثورة يقوم بها الأكراد؛ وقد قام الأكراد بحوالي

(١٧) تمرداً منذ قيام الدولة الأتاتوركية.

٢-اللعب على التناقضات القبلية والعمل على تكوين مليشيات كردية موالية

للحكومة، واستغلال تمادي حزب العمال في عمليات اغتيال حراس القرى الأكراد

من أجل حصر التأييد له في قبائل ومناطق معينة.

٤- ملاحقة وإسكات أي نشاط سياسي أو إعلامي كردي في الداخل أو الخارج؛ حيث يقبع عدد كبير من السياسيين والصحفيين الأكراد في السجون التركية.

إن الحل الأمني الذي يحاول عن طريقه الجيش حل الأزمة قد كلف البلاد

خسائر فادحة مادية وبشرية؛ حيث تقدر الخسائر المادية المنظورة بـ (٨) بلايين

دولار سنوياً. أما القتلى فأكثر من ثلاثين ألف قتيل، مع إيقاف دورة التنمية في

مناطق جنوب شرق تركيا.

وقد أخفق الجيش في ضبط الوضع مما تطلّب القيام بعمليات كبيرة عبر

الحدود في شمال العراق وعلى طول الحدود التركية الإيرانية والسورية؛ ولكن

هناك عمليات وحشية لم يحن الوقت ليلقي عليها الإعلام الغربي الضوء الكافي؛

لأن النظام الحالي هو الحليف الاستراتيجي في المنطقة لأمريكا وإسرائيل ألا وهي

عملية تدمير وإخلاء مناطق الأكراد. إن هذه العمليات لا تمس حزب العمال

الكردستاني، بل تمس بصورة مباشرة حياة عشرات الألوف من الأكراد الذين

هدمت قراهم وطردوا من مناطقهم وهم يعيشون لاجئين في بلادهم، فقرب مطار

استانبول هناك تجمعات لمنازل عشوائية من الصفيح يسكنها الأكراد المهجرون،

وحتى نتصور حجم المشكلة فإننا نذكر بعضاً مما ورد في تقرير رسمي للبرلمان

التركي أن (٩٠٠) قرية و (٣) آلاف دسكرة قد أخلاها الجيش من سكانها، وقد ذكر

رئيس بلدية تانسلي لصحفي فرنسي تجول في مناطق الأكراد أن ما بين (٧٠) إلى

(٨٠) بالمئة من سكان ٣٧٤ قرية في محافظته قد تم تهجيرهم، وفي تقرير لجنة

التحقيق البرلمانية أن سكان ديار بكر تضاعف مرتين خلال خمس سنوات، وأن

ثلاثين بالمئة منهم عاطلون عن العمل. إن عملية التهجير قد بدأت عام (١٩٩٠م)

وهي مستمرة، ولا أظن أنها تقدم حلاً جذرياً لمشكلة أساسها الظلم الذي يزداد

والقهر الذي يتضاعف.

لقد أدت الأحداث الأخيرة إلى إغلاق المعسكرات الكردية في سوريا وخروج

الزعيم أوجلان إلى روسيا حيث رحب به أصدقاؤه القدامى؛ ولكن سلطة الشيوعيين

لم تعد قادرة على تأمين الملجأ، فقد أوصى مجلس الدوما بإعطائه حق اللجوء ولكن

رئيس الحكومة رفض؛ مما اضطره ليس فقط إلى الخروج بل وإلى تغيير سياسة

الحزب في إدارة الصراع؛ حيث توصل إلى قناعة بأن المرحلة القادمة هي مرحلة

صراع سياسي وإعلامي دشنها بسفره إلى إيطاليا وتسليم نفسه إلى سلطاتها وهنا

بدأت مرحلة جديدة؛ فقد فوجئت تركيا التي هددت سوريا بالغزو العسكري إن لم

تسلم أوجلان بأن خروجه من تركيا إلى أوروبا سيضاعف من مشاكلها؛ حيث

سيطرح موضوع الأكراد على بساط البحث في المحافل الأوروبية، وسيكون

تصعيد قضية الأكراد سياسياً وإعلامياً الورقة الأخيرة الرابحة بيد الدول التي لا

ترغب في انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. وقد أعلن أوجلان تخليه عن الخيار

العسكري ورضاه بحكم ذاتي داخل إطار دولة تركية موحدة، وأبدى استعداده

للمحاكمة الأوربية أو الدولية؛ لأنها فرصة لإحراج تركيا الأتاتوركية وفضح

سياساتها الداخلية.

وأخيراً؛ فإن هناك ملاحظة مهمة وهي سيطرة وبروز الزعماء الذين يرفعون

شعارات الماركسية حتى ولو لم يكونوا مقتنعين بها؛ حيث نجد مثلاً أن ملاّ

مصطفى البارزاني الذي كان يرفع الشعارات الماركسية مات أخيراً في أمريكا،

وكما يقول هو عن نفسه عندما زارته مجموعة من النساء الفلسطينيات ولُمنه على

علاقاته مع اليهود إنه مثل شحاذ أعمى يقف على باب المسجد الجامع في السليمانية؛ فهو يمد يده ولا يدري من يضع النقود فيها. الظروف الحالية لا تلائم الشعارات

السابقة؛ لأنها لا تسمن ولا تغني من جوع بعد سقوط الاتحاد السوفييتي. وقد

وصل الزعماء إلى قناعة أن الصراع المسلح لن يؤدي إلى كيان كردي بل الأوْلى

هو المطالبة ببعض الحقوق واتخاذ الوسائل السياسية والإعلامية؛ وأرى أن هذه

فرصة ملائمة للإسلاميين لتبني القضية الكردية؛ ولا أشك أن الطرح الإسلامي

المتزن الذي يتبنى مظالم الأكراد سيكون له دور كبير في صحوة إسلامية عارمة في

أوساطهم؛ لأنهم يعيشون مرحلة تغيّر يجب أن تستغل في صالح الإسلام واستنقاذهم

من براثن الجهل والأفكار والمبادئ الهدامة التي ما دخلت عليهم إلا من باب

الإحساس بقضيتهم وعدالتها. وإذا كان أوجلان زعيم الحزب يدعو المؤتمر

الإسلامي للتدخل؛ فهذا دليل يأس من تبني العالم بصدق لقضيتهم، وأن الأمل

الوحيد لهم بعد الله هو عودتهم الصادقة إلى جذورهم الإسلامية؛ ليكتشفوا أن

مشكلتهم هي مشكلة الأتراك والعراقيين؛ لأن الهدف يتحد، والشعور يتماثل عندما

يكون الهمّ هو الإسلام.