للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الهند وباكستان تطبيع العلاقات أم علاقات التطبيع؟!]

همدرد أبو أحمد

«نعم كنا نخاف الجيش الهندي في الماضي! لكنا لا نخافه الآن؛ لأن الجندي الهندي عنده (الكلاشين) وعندنا اليوم مثلها. نقاوم الجيش المحتل لبلادنا؛ فإما الاستقلال وإما الشهادة ... » .

وجّه إليَّ هذه الكلمات أحد المجاهدين الكشميريين قبل نحو عشر سنين وحركة كشمير الجهادية في أوج قوتها والناس مستعدون للتضحية بكل نفيس وغال في ذلك الهدف، يزورون الأرياف والمدن يحرضون الناس على الجهاد والتضحية في سبيل الله لإنقاذ إخوتهم المضطهدين من ظلم القوات الهندية الغاشمة في كشمير المحتلة، ولم يكن أحد يعارضهم في الأراضي الباكستانية. وموقف الحكومة الباكستانية واضح بأن كشمير وريد باكستان، ولا بد من تحريرها. فالمساعدة الأخلاقية للمجاهدين من جانب باكستان أتاحت لهم الفرص لدفع عجلة الجهاد إلى الأمام بمساعدة من الشعب الباكستاني الذي تكاتف مع المجاهدين في نشاطاتهم الجهادية.

طبعاً هذا الأمر أغضب الهند، فبدأت تهدد المناطق الحدودية بالقصف المتواصل لها. وأكثر المناطق تضرراً من الحركة الجهادية داخل كشمير منطقة (وادي نيلم) التابعة لمدينة (مظفر آباد) عاصمة كشمير الحرة؛ حيث استطاعت القوات الهندية توقيف المرور على الشارع الوحيد في الوادي. وتواصل هذا الوضع من ١٩٩٢م إلى أواخر عام ٢٠٠٣م؛ حيث أعلن رئيس الوزراء الباكستاني وقف إطلاق النار على الحدود، ووافقت الهند على هذا الإعلان، وانفتح الطريق لأول مرة بعد عقد كامل.

وطوال هذه المدة كان سكان المنطقة يسافرون على الأقدام، ويحتاجون بعض الأحيان إلى المشي يومين أو أكثر. ولإنقاذ المواطن العادي من هذه المشكلة وإيصال المواد التموينية وتلبية حاجيات القوات الباكستانية قامت الحكومة الباكستانية بشق طريق بديل وعر فوق الجبال الشامخة. والسفر على هذا الطريق كان أصعب من المشي على الأقدام؛ لأن السائقين كانوا يقودون السيارات في الليالي الداجية دون أنوار. هذا ما لا يستطيع أحد أن يتصوره؛ لكنه حدث، والآلاف من الناس شهود عيان على هذه الأسفار الخطيرة، ومنهم كاتب هذه السطور. ومن ناحية هذا الطريق البديل أيضاً لم يمكِّن من تقليل متاعب سكان المنطقة؛ لأنه كان هدف القصف الهندي في قمته، ودوماً ما يستهدف القوات الهندية ويعرقل المرور، ودمرت بعض القرى مراراً. وأخيراً لم يعد العيش ممكناً تحت القصف المتواصل، فهاجر كثير من أهالي هذا الوادي إلى المدن ... لكن مع جميع هذه المشاكل؛ فإن الناس لم يكونوا يتكلمون عادة عن الحركة الجهادية داخل كشمير إلا بالخير، وأكثرهم يرون فيها بريق أمل ونهاية مشكلاتهم، ويؤمنون بأن التضحيات ستعود يوماً بثمرها، وأحلى أمانيهم تحرير كشمير المحتلة وضمها إلى باكستان.

وطوال هذه المدة كان هناك حاجز نفسي يحول بين الشعب الكشميري والهند وهو العداء الغريزي عنده للهندوس، ويرون أنه لا يمكن تطبيع العلاقات مع الهندوس عُبَّاد البقر؛ لأنهم لم يعترفوا بدولة باكستان يوماً من الأيام، ولم يألوا جهداً للقضاء عليها.

وهذا الوضع بدأ يتغير في السنوات الأخيرة بعدما قام الجنرال برويز مشرف ببذل جهوده لتطبيع العلاقات مع الهند، وبدأ مشواره من آخره. في هذه الأيام يواجه أصل فكرة إنشاء باكستان، أعني فكرة فصل الشعبين المسلم والهندوس في شبه القارة الهندية. فقد أخذ العوام يفكرون بنظرة مادية بحتة وليست روحية. ولأجل ذلك أصبح ما يراه الإنسان العادي بعينيه أغلى من الذي وراء ستار المبادئ والفكرة. وهذه الظاهرة أصبحت ملموسة لكل من له أدنى معرفة بالمجتمع الباكستاني، وهو ما يدعو الملتزمين للقلق.

وإليكم بعض الدواعي لهذه الظاهرة:

- تغيُّر السياسة الباكستانية:

والسبب الرئيس في ذلك التغيُّر الذي طرأ على السياسة الباكستانية حيال القضايا الوطنية والدولية، والأمر الذي أضرّ بقضية كشمير هو إعلان باكستان تعطيل نشاطات المجاهدين على أراضيها، وعدم السماح لأحد باختراق خط المراقبة الذي كان خط وقف إطلاق النار بين كشمير المحتلة وكشمير الحرة في البداية.

وفي هذا الإطار فقد استفادت الهند من وقف إطلاق النار الكثير والكثير؛ حيث نجحت في بناء الحاجز على طول الحدود الكشميرية بكل اطمئنان وبمرأى من القوات الباكستانية ومسمع وفي هدوء تام. وهذا الأمر كان يعد من المستحيل في الماضي القريب. ولم تقم باكستان إزاء هذه القضية حتى ولو باحتجاج رمزي.

والدافع لهذا السلوك الضغوط الدولية وخاصة الأمريكية؛ لأن الولايات المتحدة كانت تريد من باكستان أن تلتزم بالصمت على حدودها الشرقية، وتقف معها جنباً إلى جنب على الحدود الغربية للقضاء على العناصر المتبقية من طالبان والقاعدة، وطمّعت باكستان في تطبيع علاقاتها مع جارتها الشرقية الهند. هذا ولم تطمئن الهند على جانبها من الإجراءات التي أخذتها باكستان إزاء المجاهدين والمنظمات الجهادية. وإلى يومنا هذا هي تطالب بأكثر وأكثر، ولن تقف عن مطالبها حتى ضرب النواة الأخيرة للمنظمات الجهادية والقضاء على كل من يبغض الاحتلال الهندي لكشمير.

- دور الأفلام الهندية:

ومن الناحية الثانية فإن الأفلام الهندية لعبت دوراً بارزاً في تخفيض المشاعر العدائية للهند. وهي قد داهمت البيت الباكستاني ومراكز الجيش ومعسكراته بشكل واسع، وخاصة على الحدود الكشميرية؛ لأن البث التلفزيوني الهندي هناك لا يحتاج إلا إلى تنصيب دش عاديّ. ومن المعروف أن هذه الأفلام وسيلة للدعاية ضد المجاهدين والمسلمين أكثر من كونها وسيلة للتسلية والترفيه. وهي من أي نوع كانت عادة توجه أنظار المتفرجين بطريق أو بآخر إلى ما يجري في كشمير. وتشهِّر بالمجاهدين بأسلوب خبيث، وتبديهم على الشاشة خونة يخونون وطنهم الأم. مثلاً في أحد المشاهد من فيلم غرامي تقبض الشرطة فيه على شاب ملتح، وتوجه إليه تهماً كثيرة، وفي النهاية يكيل له الضابط الشتائم قائلاً: أيها الخائن تخون أمك التي أرضعتك من ألبانها ... التي أشبعتك من خيرات بدنها؟! طبعاً مثل هذه الجُمَل المسمومة، وانتكاس رأس المتهم والاعتراف بجريمته يجعل المتفرج يفكر أن ما يجري في كشمير ليست حركة تحرير، بل هو خيانة في حق الوطن الأم، وتدمير لبنيتها الأساسية على يد شباب مضللين من قِبَل الاستخبارات الأجنبية. وفي مقابلها لا رد عليها من الجانب الباكستاني على هذا الثغر.

وهذا الأمر أخطر من القصف على الحدود؛ لأنه يدمر البيوت من المدر والحجر، ويقتل بدن الإنسان؛ بينما تقتل هذه الأفلام الروح الجهادية، وتقتلع المشاعر العدائية للهند، وتغرس عواطف المواساة لها في قلوب المتفرجين. ومن المؤسف أن الحكومة الباكستانية كغيرها من الدول لم تتمكن من فرض أي نوع من الرقابة عليها. وقد بلغ الوضع إلى أن الجيل الجديد أصبح يفتخر بالفنانين الهنديين ويحتفظ بصورهم.

- التفاوض على القضايا غير المهمّة:

وكان موضوع التجارة والفوائد المالية وإنعاش حركة السلع الشرعية على رأس قائمة موضوعات التفاوض مع الهند في بداية العام المنصرم. والحكومة الباكستانية بنفسها قامت بالدعاية لهذه الأمور. وبدأ الإعلام الرسمي يزخرف هذه الفوائد للشعب لتهدئة مشاعرهم على لسان المحللين والمراقبين. ولا ينكر أحد بأن هذه الدعاية قد استطاعت تقليل مشاعر العداء للهند ولو لم تتمكن من إيجاد جو الحب لها في قلوب الباكستانيين. ومع مرور الزمن بدأ التاجر الباكستاني يدرك أن فتح الأسواق الباكستانية للسلع الهندية سيعود بالفوائد على الهند وبالخسائر لباكستان؛ لأن الهند يمكن لها أن تغرق السوق الباكستانية بالبضائع الرخيصة؛ بينما ليس لباكستان ما تكسب به السوق الهندية، وهذا سيجعل العملة الصعبة تنفلت من باكستان إلى الهند على رغم أنف الباكستانيين. لذا لم يتشجع الشعب على مواكبة مسير التجارة الحرة مع الهند.

- مطاردة المجاهدين:

وسبب آخر لهذا الوضع هو مطاردة المجاهدين من قِبَل الاستخبارات والشرطة الباكستانية التي جعلت المدن الباكستانية خالية من مكاتب المجاهدين الكشميريين، وغابت ظاهرة الشعارات الجهادية من على الجدران. وكذلك اختفت الحفلات والاجتماعات الجهادية في الخلفية. وهو ما دفع المواطن العادي إلى التفكير بأن الجهاد في كشمير كان ظاهرة لوقت محدود، ولم يكن له هدف منشود. ومن ناحية أخرى فإن هذه الاجتماعات الشعبية هي التي كانت تقوم بالدعاية للجهاد وتحريض المواطن العادي على التضحية بالنفس والنفيس. وغياب هذه الظاهرة قد أقلق الشعب، لكن الحكومة هي التي قضت عليها لتحسين صورة البلد على المستوى الدولي ولصالح الشعب حسب ادعائها. ونتيجة لذلك فقد أصيب كثير من الناس بالخيبة في هذا الصدد، وبدؤوا ينسلخون من ماضيهم ويتقربون من قبول الموقف الجديد.

- تقديم التنازلات للهند:

وقد أعلن الرئيس الباكستاني خلال الأشهر الماضية أنه من الممكن انسحاب باكستان من موقفها القديم وهو منح الشعب الكشميري حق تقرير مصيره تحت قرارات الأمم المتحدة بصورة استفتاء شعبي عام. وبعد ذلك تقدم باقتراح تقسيم كشمير إلى سبع مناطق.

وكل هذه الأمور لم تكن إلا تنازلات من جانب باكستان لصالح الهند، وتعزيزاً للموقف الهندي على الصعيد الدولي؛ لأنها دائماً تعمل جاهدة على تحويل قضية كشمير إلى قضية حدودية بينها وبين باكستان. ومع جميع ما قامت به باكستان لم تُدخل الهند أي تعديل في موقفها؛ لأنها لا زالت متمسكة بقول إن كشمير جزء لا يتجزأ من الأراضي الهندية حسب الدستور الهندي، ولا يمكن لأي حكومة هندية التنازل عن أي بقعة من أراضيها.

وبسبب الموقف الباكستاني الضعيف أصيب الشعب بالخيبة؛ لأنهم علّقوا آمالاً كبيرة على الجنرال (برويز) الذي كان في بداية حكمه يردد بملء شدقيه أنه من اللازم أن يميّز العالم بين الإرهاب والجهاد، وبين المنظمات الإرهابية والتي تناضل لأجل الحصول على الاستقلال ... لكن سرعان ما انضمّ إلى المعسكر الأمريكي في الحرب على الإرهاب، وتناسى الفرق بين المجاهدين والإرهابيين وحتى في بلده وتحت حكمه.

- انهيار العملة وغلاء الأسعار:

ومن الأمور التي جعلت المواطن الباكستاني العادي لا يكترث بالسياسة الوطنية والأوضاع الدولية انهيار سعر الروبية مقابل الدولار وارتفاع أسعار الحوائج الأصلية والمواد التموينية؛ لأن غلاء الحوائج أجبر الشعب على تركيز الفكرة على اكتساب لقمة العيش. فليس لديه فرصة ليتفكر فيما يجري حوله، وإنما هدفه الوحيد هو كيف يقيم صلب ظهره.

ففي هذه الأوضاع لا يدري أحد يقيناً ما الإجراءات التي ستأخذها الحكومة الباكستانية إزاء القضايا الوطنية وخاصة قضية كشمير العويصة؛ لأن البرلمان ومجلس الوزراء لا يأخذان أي قرار إلا بالموافقة من جانب رئيس الدولة فالقول المسموع له فقط؛ فإن القول ما قالت حَزامِ. وقد نقلت الصحف الباكستانية عن رئيس الوزراء الجديد (شوكت عزيز) لدى استلامه حقائب منصبه أن الحكم الساري سيكون للرئيس مشرف، وسيقوم (شوكت عزيز) و (الشودري شجاعت حسين) رئيس الحزب الحاكم الرابطة المسلمة (ق) بدور المستشارين له. ولا يدري أحد إلى أين سيقود مشرف باكستان؛ لأن المعارضة قد بدأت الحملة الشعبية لإقالته عن منصب رئيس أركان الجيش وإرغامه على خلع البذلة العسكرية حسب وعده للشعب، لكنه قد تراجع عن ذلك العهدِ، وقد أعلن عن وعده الجديد للشعب بأنه سيبقى رئيس البلاد وفي البذلة العسكرية إلى عام ٢٠٠٧م.

والأسباب واضحة لا تحتاج إلى تفكير، والله غالب على أمره.


(*) كاتب ومحلل سياسي باكستاني.